مسلسل بلا نهاية: سبعون عاماً على تأسيس CIA: يد الجواسيس في جيوب صانعي «الميديا»

حجم الخط
5

 

يحق ربما لوكالة الاستخبارات المركزيّة الأمريكيّة (CIA) التي تأسست في سبتمبر/أيلول 1947 الاحتفال بعيدها السبعين. فإنجازاتها – المعلنة منها على الأقل – تجعلها أفضل أداء من أشهر منظمات المافيا، وعدد القتلى بسبب عملياتها عصي على العد والحسبان، وهي بفضل ما نظمته من انقلابات، وما وفرته من دعم لقوى اليمين المتطرف عبر المسكونة أعادت تشكيل تاريخ أممٍ عديدة من إيران وغواتيمالا إلى البرازيل وتشيلي، مروراً بالكونغو والدومينيكان وفيتنام وأندونيسيا وبنما، وحتى إيطاليا والبرتغال واليونان، وغيرها، هذا دون ذكر التمكين المباشر لمعظم الأنظمة الفاسدة حول العالم.
ولم تدع الوكالة في ممارستها نشاطاتها المعلومة هذه قبيحاً إلا أتته سواء السمسرة في سوق تجارة الأسلحة، التعامل مع كارتيلات المخدرات، أو الاستفادة من خدمات المجرمين والعصابات، ناهيك عن تجارب التعذيب والعقاقير والتحكم بالعقول إلى نهاية القائمة .
وهذه كلها ليست أسراراً بالطبع، فكثير منها كُشف عنه في وثائق الحكومة الأمريكيّة بعد رفع السريّة عنها، أو كان موضوع تحقيقات رسميّة داخل الكونغرس، أو هي فُضحت بسبب أخطاء فادحة بالتنفيذ.
لكن لا يعلم الكثيرون أن الميديا، (صناعة الأخبار والأعمال التلفزيونيّة والسينمائيّة والوثائقيّة الأمريكيّة) هي ملعب هام آخر من ملاعب الوكالة، تتداخل فيها أنشطتها مع العمل الصحافي والفنيّ بدرجات متفاوتة حتى لا تكاد تعلم في النهاية أين تنتهي البروبوغاندا وأين يبدأ الفن.

علاقة قديمة قدم الوكالة نفسها

تعود العلاقة بين الوكالة وصناعة الإعلام عموماً إلى الأيّام الأولى من تأسيسها بعد الحرب العالميّة الثانية.
بالطبع حينها كانت الصحافة سيدة الموقف الإعلامي، ولذا تركزت جهود الجواسيس على بناء منظومة علاقات واسعة مع الصحافيين الكبار بحيث يمكن من خلالهم توجيه الرأي العام لما فيه مصلحة الولايات المتحدة كما تُصورها الوكالة.
وقد كان آلان دالاس – أول مدير للوكالة – على علاقة شخصية وثيقة مع القائمين على صحف ومجلات أمريكا الكبيرة كلها: الـ»نيويورك تايمز» والـ «واشنطن بوست» و«تايم» والـ «نيوزويك» وغيرها.
وهو – وفق سيرته – كان يتصل بهم على نحو دائم ويزودهم بتعديلات على حكاياتهم أو يزرع من خلالهم ما يريد من قصص. وقد تحول هؤلاء مع مرور الوقت إلى ما يشبه ماكينة بروباغاندا ضخمة قادرة على إخفاء أي خبر أو نشر خبر ملفق على صدر الصفحات الأولى.
وقد كشفت قائمة سُربت للعموم عام 1977 عن أسماء أكثر من 400 صحافي أمريكي كانوا يقدمون خدمات للوكالة ويحصلون على مكافآت ماليّة متنوعة.

مسلسلات وأفلام سينمائيّة ووثائقيّات

الأمريكيون تعلموا مبكراً خطورة السينما كأداة تشكيل لوعي الجماهير، وهم كانوا أحد أهم المنتجين لمجموعة من أفلام البروبوغاندا – مع إخفاء ذلك تحت مسميات فارغة -.
ولعل فيلم (مزرعة الحيوانات – 1954) المأخوذ عن رواية جورج أورويل المشهورة بالاسم ذاته أهم مثال من تلك الفترة على التدخل السافر للوكالة في اختيار موضوعة الفيلم، وتكلفة إنتاجه وحتى تعديل محتواه ليناسب مع جهود الحرب النفسيّة ضد الاتحاد السوفيتي إبان الحرب الباردة.
منذ ذلك الحين وحسب مصادر عدة موثقة استحصلت على معلوماتها من خلال قانون حريّة المعلومات، شاركت الوكالة بمستويات متراوحة من الـتأثير على عدد يقارب الـ 2000 عمل درامي تلفزيوني، أو سينمائي أو وثائقي أنتجتها الولايات المتحدة في نصف قرن. فهناك مسلسات وأفلام أصلاً مشاريع استخباريّة بالكامل مثل (زيرو دارك ثيرتي – 2012) والذي يحكي قصة ملفقة عن طريقة تصفية أسامة بن لادن، و (آرغو – 2012) عن عمليّة أمريكيّة لإطلاق سراح الرّهائن الأمريكيين المحتجزين في سفارة بلادهم بطهران بعد ثورة 1979. وهذي كانت ثمرة تاريخ لتعاون وثيق على مجموعة من الأفلام المعروفة (سيريانا – 2005) و(ذا غود شيبرد – 2006 ) و(سولت – 2010 )، إضافة إلى سلسلة من الوثائقيات مثل أعمال كين بيرنز(الحرب الأهلية -1990) و(الحرب -2007) والتي في مجملها تقدم رواية مأمركة وفق رؤية السلطة عن أحداث تاريخية مفصلية.
كما أن مسلسلات معروفة متعددة المواسم مثل (هوم لاند – من 2001) و( 24 – 2001) و(إيلياس – 2006) وغيرها أُنتجت على أساس المشاركة بين أطقم هذي الأعمال وخبراء مستشارين من متقاعدي الوكالة الموثوقين بهدف الترويج لوجهها الأكثر بياضا وجهودها في عيون الشعب الأمريكي وتبرير سلوكيّاتها المنافية للقوانين المتعلقة بحقوق الإنسان والتعذيب ضد الأجانب والمسلمين.
ويضاف إلى ذلك لوائح من الأعمال الكبرى التي تعاونت فيها الوكالة مع هوليوود لصياغة خطاب أمريكي عن حرب فيتنام (ولاحقاً حرب الخليج) مثل (رامبو – 1982)، و(مسينغ إن آكشن – 1984) و(بلاتون – 1986) و(إنقاذ العريف رايان – 1998 ) و(ساند كاسيل – 2017).
ولعل أحدث المنتجات التي تطرح نموذجا لهذا التدخل الفاضح في صياغة سرديّات تقدم حقائق بديلة عن وقائع الأحداث هو فيلم توم كروز الجديد (أمريكان ميد – 2017) الذي يروي سيرة أحد أشهر مهربي المخدرات إلى الولايات المتحدة لكنه يستهدف تشتيت الانتباه عن الدور المشبوه للوكالة في تسهيل تجارة المخدرات مع كارتيلات أمريكا الجنوبيّة والتي كشفت عنها تحقيقات للكونغرس الأمريكي.
الملاحظ أن تورط الوكالة إلى الأذنين في لعبة الإعلام كان يُبرر بدواعٍ مختلفة في كل مرحلة: الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي أو الأنظمة الشيوعيّة حول العالم، واليوم بالحرب على الإرهاب. لكن بالطبع يتغيّر العدو المستهدف وتُصوّب البندقية باتجاه آخر، ويبقى مبدأ التلاعب بالمحتوى أمراً ثابتاً في كل المراحل، وضحاياه الأولين هم غالبيّة الشعب الأمريكي الذي يخضع لهيمنة نخبة صغيرة تريد دوماً أن تمتلك زمام صناعة أنساق الحقيقة لتمتين هيمنتها تلك.

كل فن ملوث بالأيديولوجيا: ما العمل؟

تواترالحقائق والوثائق والتحقيقات الرسميّة والدراسات الأكاديميّة عن الدورالمباشر أو غير المباشرالذي تلعبه الوكالة في ما يقدّم للجمهور الأمريكي وبالتبعيّة للجمهور العالمي يُنهي دون شك فكرة أن الجماهير تعتنق نظريّات مؤامرة تساعدها على تفسير ما لا يفسّر لأن الأمور خرجت الآن إلى العلن لا سيما وأنه في العقدين الأخيرين صار للوكالة مكتب علاقات عامة بعنوان علني معروف يتقدم له من يرغب بعروض للتعاون والانتاجات المشتركة. لكن ذلك قد يدفع المستهلك العادي للعمل الثقافي في مجمله إلى اليأس من إمكان الاستمتاع يوماً بالقيمة الفنيّة المحترفة للأعمال المقدّمة دون الإحساس بكونه يتعرض للخداع والاحتيال بل و ربما الاستغفال من قبل منظمات الجاسوسيّة.
لا شك أن العمل المبدع عبر التاريخ البشري وبكافة أشكاله أدباً وصحافة وشعراً ومسرحاً ورسماً ورقصاً وموسيقى وأوبرا، ولاحقاً منتجات الصورة عموماً من مسلسلات تلفزيونيّة وبرامج وثائقيّة وأفلام سينمائيّة تعبّر في النهاية عن موقف أيديولوجي معيّن، ووفق نظرة محددة نحو العالم.
ولذا فإن وكالة الاستخبارات الأمريكيّة – وإن أخذت بالأمور إلى منتهاها في ما يشبه فضيحة أخلاقيّة تامة – فإنها لم تفعل سوى ما فعله الجميع: توظيف العمل الثقافي وتعليبه لخدمة الأيديولوجيا – لا أكثر و لا أقل -.
ليس لنا كمستهلكين ومتلقين للثقافة الأمريكيّة – المعولمة – خيارات كثيرة لاستقصاء المعارف والمعلومات سوى من مصادر بتنا نعلم أنها ملوثة، ولا بديل لنا عند تعاطي هذي المنتجات إلاّ بتوظيف منهج ذي ذائقيّة نقديّة عالية.
فعلاً، لن تقدر أن تُغمض عينيك وإلاّ عبثوا بعقلك!

إعلامية لبنانية تقيم في لندن

مسلسل بلا نهاية: سبعون عاماً على تأسيس CIA: يد الجواسيس في جيوب صانعي «الميديا»

ندى حطيط

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود:

    المخابرات والإستخبارات بمعظم دول العالم هي في الحقيقة للأعمال القذرة مع مواطنيها بالأساس !
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول عفيف/امريكا:

    السيدة حطيط المحترمه
    تتكلمين على ال cia. وما تقوم به من اعمال سيئه او غير قانونيه او حتى اجراميه ، و كانها تعيش في عالم و انظمه استخبارات هي ملائكه و حملان وديعه!
    ان جميع الاستخبارات في العالم هي على نفس شاكله الcia او حتى اسوأء منها ،، وتعرفين ان انظمه الاستخبارات العربيه واجبها الرسمي هو قتل جميع المعارضين للنظام ، او نفيهم او سجنهم بدون اي محاكمه ولا حتى صوريه
    بل ومنع اي نشاط فكري يناهض فكر الحاكم ، الذي جاء للسلطه بانقلاب دموي ، وباقي في سلطته على جثث افراد شعبه،،و ذراعه اجهزة استخباراته.
    فاي اجهزة استخبارات اسواء برايك؟ الامريكيه ام العربيه؟
    تحياتي للجميع

  3. يقول سوري:

    لقد لعبت السينما الامريكية دورا قذرا في تبرير استعمار القارة الامريكية بإظهار قبائل الهنود الحمر كرجال متوحشين يسلخون جلد رؤوس المستوطينين الاوربيين الضعفاء الذين جاؤوا لهذه البلاد ليزرعوها ويحولوها إلى بلد متحضر تماما كما فعلت الدعاية الصهيونية في استعمار فلسطين، فشخصية جون واين وسواه من عمالقة الكاوبوي كانوا يمثلون البطل الاوربي المنتصر على الهندي المتوحش حتى بتنا عندما كنا صغارا نصفق امام الشاشات للبطل الاوربي عندما ينتصر، وكذلك الامر بالنسبة لشخصية طرزان هذا الرجل الابيض الخارق الذي ينتصر على الزنوج آكلي اللحوم البشرية وهذا البطل الخارق يمكنه التواصل مع الحيوانات من قرود وفيلة ويتعلم لغة الانجليز من حبيبته جين بسرعة مذهلة، والله لعبوا بعقولنا أطفالا ولعبوا بعقول الملايين صغارا وكبارا هذه هي الامبريالية الاعلامية تحت مسميات الفن السابع

  4. يقول حسين/ لندن:

    المخابرات الأمريكية موضوع كبير وخطير
    رغم المهام والواجبات العملاقة التي قامت بها بها هذه الأجهزة (وصلت درجه تغير رؤساء دول في حالات محدده) إلا أنه تم تضخيم قدراتها والمبالغة فيما تسطيع القيام به من مهام،،وذلك لتحقيق نتائج معينة ومنها نشر الرعب لمجرد ذكر أسم الوكالة. هناك أيضا سبب نفسي أخر هو للتعويض عن عقدة امريكية بأمتياز وهو عدم وجود تاريخ عريق يعتد به بين الأمم،،،ومنها انبعثت عقدة التفوق البشري وتتجلى أبرز مظاهرها في (عقدة السوبرمان ورامبو وغيرهم).
    تعتمد الأدارات الأمريكية المتعاقبة واصحاب القرار على هذه الوكالة بشكل كبير سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي حيث تشكل التقارير الوارده من الوكاله أهم المعلومات المطلوبة لأتخاذ القرارات بنفس درجه واهمية مراكز الدراسات الأستراتيجية.

    وكالات ودوائر المخابرات في الغرب وروسيا والصين والكتلة الشرقية سابقا تدرك اهميه هذا الجهاز الأمني وتوظفه خير توظيف لخدمة مصالحها كبريطانيا وروسيا ودور المخابرات في أدارة الحرب الباردة

    (جيمس بوند أو العميل 007، العميل البريطاني يقوم باعمال شبه خارقة وشبه مستحيلة،،رغم ذلك التضخيم إلا أن الأجهزة الاستخباراتية البريطانية تعتبر على قدر ومستوى عال من الكفاءة، ثم هناك روسيا (KJB) على سبيل المثال.وشهدت الحرب الباردة بروز دور المخابرات الكبير في أداره تلك الحرب.
    مع الأنتشار الواسع للأنترنت، توسع النشاط الاستخباري وستكون الهجمات المستقبلية عبر الشبكة العنكبوتية،ورأينا كيف استغل تنظيم مثل داعش الشبكة في التجنيد والهجوم أحيانا.
    أقذر أدوار تقوم بها اجهزة الاستخبارات هي الأجهزة الأمنية العربية (المخابرات تحديدا) ضد مواطنيها، حيث سمعنا عن متهمين ومعتقلين اعترفوا بارتكابهم أعمالا لا يقوى على ارتكابها أفراد لتجنب عمليات التعذيب الممنهج والترويع ونشر الرعب بين المواطنين.

    عار على هذه الأجهزة حينما نعلم أنها تقوم على اذلال واحتقار وتعذيب المواطنون بل وحتى تصفية وأغتيال البعض بحجه الحفاظ على الأمن والنظام في الوقت الذي تعمل اجهزة المخابرات في الدول الغربية والعالم المتحضر لحماية الدول من المخاطر (الخارجية غالبا).
    تعتبر اجهزة المخابرات الذراع اليمنى للحاكم العربي وتقوم هذه الأجهزة بدور الحماية الخاصة اضافة إلى باقي مهمتها (ترويع المواطنين مثلا) والتي لا تخدم غير النظام الحاكم.

  5. يقول سامح //الأردن:

    *أعتقد ليس سرا أن (المخابرات الأمريكية )
    إستخدمت (الإعلام) لتمرير مشاريعها
    وضللت الحكومات والناس .
    * زد على ذلك استخدمت (هوليوود)
    أيضا في تضليل الناس.
    سلام

إشترك في قائمتنا البريدية