لم يجد بريت ماكغرك، نائب ممثّل الرئيس الأمريكي باراك أوباما لدى التحالف الدولي، مفرّاً من ذرّ الرماد، في عيون الكرد أولاً، حين رفض الربط بين الغارات التركية الأخيرة على مواقع «حزب العمال الكردستاني»، الـPKK، في جبال قنديل، وبين التفاهمات الأمريكية ـ التركية، حول استخدام قاعدة إنشرليك في حرب التحالف ضد «داعش»؛ فقال، في تغريدة على تويتر: «لا صلة بين هذه الضربات [التركية] ضدّ الـPKK، وبين التعاون التركي ـ الأمريكي ضدّ الدولة الإسلامية». هاتوا لنا أي أحمق، في طول المنطقة وعرضها، يمكن أن ينطلي عليه هذا التنصّل؛ أو يقبل، في الحدود العقلية للحماقة إياها، أنّ تركيا ـ التي رفضت مشاركة التحالف في الحرب على «داعش»، كما أغلقت مهابط إنشرليك أمام القاذفات الأمريكية ـ لا تُقبل اليوم إلا ضدّ الـPKK، أوّلاً وثانياً وتاسعاً، ثمّ ضدّ «داعش» عاشراً، أو آخِراً فقط، ومن باب تمرير الذريعة.
طريف، إلى هذا، أنّ الجيش التركي هو الذي لم ينتظر إقامة تلك الرابطة، فكانت القاذفات التركية هي التي بدأت العمليات ضدّ الـPKK؛ في حين أنّ البنتاغون أعلن أنه «بحاجة إلى أسابيع» من الترتيبات اللوجستية، قبل أن تبدأ القاذفات الأمريكية في الانطلاق من قاعدة إنشرليك. وهذه إشارة أولى على مقدار الاستثمار الذي تعوّل عليه الحكومة التركية، و»حزب العدالة والتنمية» ـ بناءً على إرادة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان شخصياً، وتنفيذاً لرغبته ـ في هذا المشروع الجديد. ولن يطول الوقت حتى تتضح معطيات ملموسة أكثر، وأوضح، حول ما إذا كان التحوّل التركي فاتحة ستراتيجية جديدة في الموقف من ملفات عديدة، ابتداءً من مصير نظام بشار الأسد، وانتهاءً بالحوار السلمي مع الـPKK وحقوق الكرد في تركيا، ليس دون المرور بحسابات الربح والخسارة في الرصيد الجماهيري والانتخابي الداخلي لـ»العدالة والتنمية».
وللمرء، هنا، أن يستعيد برهتَين لكلّ منهما مفاعيل راهنة، كما أسفرتا عن آثار قد تكون رجعية المفعول، في هذا الشأن الثلاثي؛ الذي يضمّ سوريا، وتركيا، والكرد في البلدين. الأوّل هو أعمال العنف التي مارسها «حزب الاتحاد الديمقراطي»، الجناح السوري للـPKK، ضدّ المتظاهرين الكرد أنفسهم، في منطقة عفرين، شمال حلب، وكذلك في بعض مناطق محافظة الحسكة، وكوباني، وحيّ ركن الدين في دمشق؛ مطالع العام 2012. هنالك، أولاً، مغزى موقف «الاتحاد الديمقراطي» من أبناء جلدته الكرد؛ وما يتفرّع عن ذلك من مغزى ثانٍ، يخصّ علاقة الـPKK، الأمّ والفرع السوري، بنظام «الحركة التصحيحية»: الأب حافظ الأسد، حتى رضوخه للضغوط التركية وطرد أوجلان من سوريا والبقاع اللبناني، سنة 1998؛ ثمّ الوريث بشار الأسد، بعد أن تدهورت علاقاته مع الحليف التركي، واختار أن يناور مع أنقرة عن طريق تنشيط «الاتحاد الديمقراطي».
والحاجز «الأمني» الذي أقامه الحزب على مدخل ناحية راجو، منطقة عفرين، اقترن مباشرة بتصدّي عناصر الحزب للمتظاهرين الكرد هناك، حين أفادت مواقع كردية عديدة أنّ مفرّقي التظاهرة كانوا «مسلحين بشتى أنواع الأسلحة البيضاء والعصي الكهربائية وبعض المسدسات»؛ وأنهم «قاموا بالهجوم على المتظاهرين السلميين بطريقة همجية عنيفة ليمنعوهم من التظاهر»، كما طاردوهم حتى المستشفى الوطني، فحاصروه. قبلها، لم تتردد بعض التنسيقيات الكردية في اتهام «الاتحاد الديمقراطي» باغتيال ثلاثة شبان أكراد من عائلة واحدة، في القامشلي؛ وكذلك اعتقال ابراهيم برو، القيادي في حزب «يكيتي» الكردي، «لتمرير أجندة سياسية» كما عبّر عضو في اللجنة التنفيذية للمجلس الوطني الكردي.
يومذاك كانت هذه الحال قد أفسحت المجال لاستيلاد المصطلح المحزن: «شبيحة الكرد»؛ والذي بادر النشطاء الكرد أنفسهم إلى استخدامه قبل سواهم، رغم ما انطوت عليه الممارسة من مفارقة مؤسفة. فالكرد السوريون انخرطوا في الانتفاضة منذ أيامها الأولى، وكان حضورهم قوياً ومميزاً ودالاً؛ خاصة بعد أن سعى النظام إلى تحييدهم عن طريق تقديم «رشوة» بائسة ومفضوحة، هي إعادة الجنسية إلى البعض منهم. وأن تتطوّر الخلافات بين أحزاب الكرد (13 حزباً، في التقدير المتفائل!) إلى اقتتال داخلي؛ ثمّ التلاقي، على أي نحو وفي أية صيغة، مع مخططات النظام في تفرقة الصفّ الكردي، والصفّ الوطني السوري عموماً، إلى درجة تفريق التظاهرات أو خطف المعارضين الكرد أو إقامة الحواجز… أمر لم يصب الحركة الكردية بنكسة موجعة، فحسب؛ بل أضرّ بالانتفاضة، أيضاً، ولم يخدم إلا النظام في الحساب الأخير.
المفصل الثاني كان تلك «الدعوة التاريخية»، حقاً، التي أطلقها عبد الله أوجلان، الزعيم التاريخي للـPKK من سجنه في جزيرة إمرالي، في آذار (مارس) 2013؛ وتُليت أمام عشرات الآلاف من الأكراد والأتراك الذين غصّ بهم منتزه نوروز، في مدينة دياربكر. أوجلان ذكّر شعبه، وشعوب الشرق الأوسط، ثمّ العالم بأسره استطراداً، بتحوّل أوّل بسيط، بقدر ما هو جوهري: أنّ شرق أوسط جديداً يولد، ويتنامى، كلّ يوم منذ تباشير انتفاضات العرب؛ والمسألة الكردية يجب أن تشكّل أحد أركان معادلات هذه الولادة، ليس في تركيا وحدها، بل في سوريا والعراق وإيران، والمحيط الإقليمي عموماً.
«فلتسكت المدافع، ولتنطق الأفكار»، قال أوجلان، مدركاً أنّ بلاغة السلام هذه ـ التي سبق للـPKK أن اعتمدها أربع مرّات، على الأقلّ، في حوارات سالفة مع السلطات التركية ـ اكتسبت اليوم الكثير من عناصر القوّة المادية الكفيلة بتحويلها من حيّز القول والأمنية، إلى ميدان الفعل والتنفيذ. ولم يكن خافياً على الرجل، أغلب الظنّ، أن حسابات سوريا الآتية، حيث يتوجب أن ينعتق الكرد السوريون، وتُرفع عنهم المظالم كافة، وتُعطى لهم سلسلة الحقوق السياسية والثقافية التي حُرموا منها طيلة أحقاب طويلة؛ كانت في قلب حسابات تركيا، أسوة بالـ PKK، حين تمخضت مفاوضات جزيرة إمرالي عن خريطة طريق تتلمس حلّ المسألة الكردية في تركيا. ولولا هذا الاعتبار الحاسم، فإنّ التوصل إلى تدابير تاريخية (بينها مطلب إلقاء السلاح، وانسحاب قرابة 2000 مقاتل للـPKK من تركيا إلى جبال قنديل في شمال العراق، وإحقاق حقوق الأكراد على نحو ملموس ونوعي وغير مسبوق…)، كان سيرورة عسيرة في حدّ ذاتها، فكيف بتنفيذها على مدى زمني قصير؟
وضمن ملابسات هذه البرهة، ثمة تلك الواقعة الأليمة، في حياة الـPKK وزعيمه أوجلان شخصياً؛ حين رضخ الأسد الأب أمام جحافل الجيش التركي الزاحفة نحو الحدود السورية، فأبعد أوجلان بعد إقامة في كنف النظام امتدت 18 سنة. ذهب الأخير إلى موسكو، ثمّ روما، وهناك أطلق تصريحه الشهير التالي: «الـPKK حزب وُلد في تركيا، وتحوّل إلى منظمة في سوريا، وهو في طريقه لمغادرة موسكو… من أجل تأسيس دولة»! وحين تمكنت الاستخبارات التركية من الإيقاع به، في نيروبي، فإنها ما كانت ستنجح في المسعى لولا مساعدة مباشرة من الاستخبارات الإسرائيلية، واستخبارات غربية وشرقية وأفريقية أخرى؛ وكأنّ الرجل عدوّ شعوب المعمورة، وطريد البشرية جمعاء!
هاتان برهتان لا تنفكّ عواقبهما عن البرهة الأمريكية ـ التركية الراهنة، لجهة اعتبار واحد على الأقلّ؛ عتيق ومتكرر ومزمن، اختصرته الحكمة الكردية الأعرق: أنّ الجبال وحدها صديقة الكردي، وهذه ذاتها تنفكّ بين الحين والآخر عن عقد الصداقة، فتنقلب إلى مقابر جماعية للأكراد، القتلى على أيدي أعدائهم، أو جيرانهم، أو أبناء بلدهم، أو أبناء عمومتهم… سواء بسواء.
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
صبحي حديدي
الأكراد في تركيا وافدين كغيرهم من الأقليات
فلا توجد جبال بالمناطق التي يعيشوا فيها بشمال سوريا
والتركمان أكثر منهم بأضعاف ولكنهم لم يطالبوا بدولة في مناطقهم
الأكراد السوريين مواطنون سوريون كغيرهم فلا يزايدوا على الآخرين
ولا حول ولا قوة الا بالله
هناك كثير من النقاط التي اتفق فيها مع الاستاذ صبحي و من المؤكد ان هدف تركيا الاول هو حزب العمال و ليس داعش و لكن علينا ان لا ننسى ان الحزب نفسه لم يستجب تماما لنداءات اوجلان و عنوان السنة الفائتة بالذات بالنسبة له كان المماطلة و عدم الالتزام بالعهود حتى عاد الى ممارساته الارهابية. يبدو لي ان الكرد بحاجة للتحررمن زعمائهم و الاحزاب و القوى التي تمثلهم قبل كل شئ و لكن لا اعتقد ان كرد تركيا بالذات سيكونوا ضحية لما يجري فهم يعيشون في اسطنبول و جنوب شرق تركيا و ليس في جبال قنديل التي لم يجلب ساكنوها عليهم الا الدمار و المشاكل.