اعتمدت الانتخابات البرلمانية العراقية منذ العام 2005 نظام التمثيل النسبي، بوصفه النظام الأنسب لتمثيل أكثر عدالة في مجتمع تعددي مثل المجتمع العراقي. وهذا النظام يعتمد على قوائم انتخابية تضمن إلى حد كبير فرص تحقيق النسبية في التمثيل، خاصة وأن الأحزاب والكيانات السياسية العراقية، هي قوائم ذات طبيعة قومية ومذهبية ودينية! بل إن الائتلافات التي تحاول تسويق نفسها على أنها كيانات عابرة لهذه الهويات الفرعية، إنما تتشكل من أحزاب وكيانات ذات طبيعة طائفية أيضا! وقد نستثني من هذا التوصيف قائمة وحيدة هي قائمة التحالف الوطني الديمقراطي والتي ظهرت في الانتخابات الأخيرة عام 2014.
ولم يكن اعتماد هذا النظام مجرد «خيار»، بل كان نتيجة استشارات قدمتها الأمم المتحدة، التي قامت بإجراء مناقشات موسعة، انتهت إلى الاتفاق على تبني نظام التمثيل النسبي، بناء على طلب رسمي من سلطة الائتلاف المؤقتة، ومجلس الحكم العراقي الذي تم تشكيله في تموز/ يوليو 2003
إن دراسة مقارنة للأنظمة الانتخابية المعمول بها في العالم، تكشف بوضوح، أن نظام التمثيل النسبي كان الأكثر اعتمادا في الكثير من الديمقراطيات الناشئة، تحديدا تلك التي تعاني انقساما مجتمعيا حادا، أو تلك التي تعتمد الطائفية السياسية في تشكيل أحزابها وكياناتها السياسية، كما في الحالة العراقية. ومن ثم فإن اعتماد أي نظام آخر، لا يمكن من خلاله ضمان نتائج تعكس هذا التنوع في المؤسسات التمثيلية، وما يمكن أن ينتج عن ذلك من احتكار للسلطة، سيؤدي بالتأكيد إلى نتائج كارثية يمكن أن تزيد من حدة الانقسام والصراع بدل أن تعمل على تحجيمه.
إن الانتخابات ليست مجرد أداة لإيصال «ممثلين» إلى المجالس التمثيلية، سواء على المستوى الوطني أو المستوى المحلي، بل هي جزء عضوي من ترتيبات النظام السياسي نفسه، ومخرجاتها يمكن أن تنعكس سلبا أو إيجابا على هذا النظام. وقد أشرنا في مقال سابق إلى أن النظام السياسي الأمثل الصالح لحكم العراق هو الديمقراطية التوافقية، وأن بعض خصائص هذا النظام، التي ما زالت متحققة نوعا ما، سواء فيما يتعلق بالحكم من خلال ائتلاف واسع، أو التمثيل النسبي، لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال اعتماد نظام التمثيل النسبي في الانتخابات. ومن ثم فإن أي تغيير في هذا النظام سيزيد من الاختلالات في علاقات القوة، بما يفاقم الصراع القائم أصلا.
مشروع القانون الجديد، الذي تقدم به رئيس الجمهورية، والذي يناقش الآن في مجلس النواب، يقترح اعتماد نظام انتخابي مختلط، يتم من خلاله توزيع 50٪ من مقاعد مجلس النواب على المرشحين الحاصلين على أكثر الأصوات في جميع القوائم الانتخابية، ضمن الدائرة الانتخابية الواحدة، بمعزل عن القائمة. وتوزيع الـ 50٪ المتبقية على القوائم الانتخابية، وفق نظام سان لاغي المعدل الذي يقسم الأصوات على (1.5، 3، 5 الخ).
إن تكريس هذا النظام، إذا ما تم اعتماده، سيؤدي بالضرورة إلى إخلال كبير في التمثيل في مجلس النواب المقبل، تحديدا في المناطق المختلطة. وهي المناطق التي تشهد توترات اجتماعية وسياسية حقيقية بسبب اختلال علاقات القوة الموجود أصلا؛ ففي محافظات مثل بغداد وكركوك وديالى، وهي محافظات شهدت أعمال عنف واسعة، وعمليات تغيير ديمغرافي، كانت الانتخابات دائما، وتحديدا من خلال نظام التمثيل النسبي، قادرة على إعادة التوازن النسبي في هذه المحافظات، حتى ولو على مستوى الشكل! ففي انتخابات عام 2010 مثلا، توزعت مقاعد محافظة كركوك على النحو التالي: 6 مقاعد كردية، مقابل 6 مقاعد للعرب والتركمان، كما عكست الانتخابات التقارب الكبير بين أصوات كلا المجموعتين الكردية من جهة، والعربية التركمانية من جهة أخرى. وكان لهذه النتيحة أثرها الكبير في كشف التوزيع الديمغرافي في المحافظة بما يخالف الدعاية السياسية المتعلقة بالنسب الديمغرافية في كركوك والتي تطلقها جميع أطراف الصراع. وذلك رغم التغيير الذي سجلته انتخابات 2014 على النسب، حين حصل الكرد على 8 مقاعد، مقابل مقعدين لكل من العرب والتركمان في المحافظة، وكان ذلك بسبب التشتيت الذي حصل في القوائم السنية، مع بقاء الكتل التصويتية على حالها تقريبا. لكن التعديل المقترح يمكن أن يطيح تماما بهذا التوازن النسبي في تمثيل المكونات القومية في كركوك، بما قد ينعكس سلبا على الصراع القائم في المحافظة أصلا، والذي منع اجراء أية انتخابات محلية منذ العام 2005!
فإذا ما أعدنا توزيع مقاعد المحافظة وفقا للتعديل المقترح اعتمادا على نتائج 2014، فسنكون هذه المرة أمام 9 مقاعد كردية، مقابل مقعدين تركمانيين، ومقعد عربي واحد! وهذه النتائج لا تعكس بأي حال من الأحوال الوضع الديمغرافي للمحافظة. مع الانتباه إلى أن التعديل الجديد سيدفع الأحزاب الكردية في كركوك، ذات التاريخ الطويل والبنى الحزبية الصلدة، إلى إعادة تدوير الأصوات على مرشحيها في الانتخابات بما يضمن لها الحصول على جميع المقاعد الفردية، خاصة مع عدم وجود بنى حزبية حقيقية، عربية أو تركمانية في كركوك! وهو ما يمكن أن يفضي إلى اختلال أوسع في التمثيل، مع كل ما يستتبع ذلك من تداعيات سياسية.
إن تمرير قانون الانتخابات بصيغته المقترحة سيخلق مشاكل حقيقية أكثر من القانون الحالي، وهو بكل تأكيد يمكن له أن يخلق مشكلة عدم توازن في التمثيل ويزيد من حدة الصراع السياسي الموجود. ومن ثم لا بديل حاليا عن نظام التمثيل النسبي القائم، مع إمكانية العمل على ضمان حسن تنفيذه، من خلال إعادة النظر ببنية المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، وضمان مراقبة دولية لعملها قبل وخلال وبعد الانتخابات، وليس مراقبة يوم الانتخابات فقط، فأغلب عمليات التلاعب تحدث قبل وبعد يوم الانتخابات، وهو ما يجب مراقبته بدقة لضمان انتخابات نزيهة وعادلة.
٭ كاتب عراقي
يحيى الكبيسي