مقابلة النائب البرلماني العراقي مشعان الجبوري على إحدى الفضائيات العراقية مرعبة بكل معنى الكلمة، لا لأنه يفضح الفساد العميم بجرأة قل مثيلها وحسب، بل وكذلك لأنك لا تجد أثراً لندم أو أسف في نبرة الجبوري وهو يتحدث عن فساد العراق، إنما هي نبرة أقرب إلى الإحتفال. لقد كاد الرجل أن يرقص وهو يتحدث عن حلاوة السلطة «سيارة مصفحة، ومرافقة».
الجبوري ليس نائباً وحسب، إنه عضو لجنة النزاهة البرلمانية، ومع ذلك يعترف بتلقيه رشوة بلغت ملايين الدولارات، ويؤكد «كلنا فاسدون، ومن لم يكن فاسداً فهو جبان. جميعنا نتحمل المسؤولية. كلنا نكذب. كلنا نبوق (نسرق)، كلنا أخذنا رشوة. نحن مجتمع الفساد فيه لم يعد عيباً»!
كثر يعرفون الجبوري حين كان يدير فضائية تلفزيونية في سوريا قبل أن يعود إلى العراق، وكثر يعرفون أنه كان يديرها بالمسدس لا بالفكر، ولذلك ربما لن يكون في المقابلة مفاجأة لمن يعرفه، إنما المفاجأة في جرأة الإعلان على الملأ.
لن يكون مشعان الجبوري هاملت معاصراً حتى يقول «لقد فسد العالم»، أو «ثمة شيء عفن في الدانمارك»، إنه مشعان وحسب، يقول إن هناك فساداً في العراق وضحكته ملء شدقيه. الفارق أن «هاملت» يقول العبارة بكل نبل البطل التراجيدي، فتتحول الصيحة ذاتها إلى دويّ يخترق العصور، بينما يقول مشعان العبارة وهو يقهقه فتصبح فارْساً هزلياً لا يثير سوى الشفقة.
في بلاد أخرى، كان يمكن لمقابلة كهذه أن تعصف بكل شيء، أن تقيم ثورة لا تبقي ولا تذر فساداً وفاسدين، لكنه العراق!
جمال سليمان في اختبار «المصرية»
ناشطون سوريون فرحون هذه الأيام بمقطع من مقابلة تلفزيونية للفنان السوري المعارض جمال سليمان يقول فيها إنه «مستعد أعمل قهوة وشاي للحكومة الانتقالية إذا كانت مجموعة وطنية تعمل على إنقاذ السوريين». وبالطبع لن يخلو الأمر من أصوات معترضة تقول إن في ذلك استهانة بمهنة أولئك الذين يعيشون من تقديم القهوة والشاي للناس.
غير أن ما يلفت في تلك المقابلة شيء آخر تماماً (بثت على قناة سي بي سي المصرية)، هو أن سليمان تحدث كل الوقت، ويبدو أن هذا دأبه مع القنوات المصرية، باللهجة المصرية.
لا بدّ من الاعتراف أن سليمان، على الرغم من ملاحظات كثيرة حوله عمله الفني وأدائه السياسي، يتميز بمقدرته على حديث حلو وممتع، ونحسب أن لا أحد بين الفنانين السوريين من يمكن أن يجاريه في ذلك. إنه حكواتي ممتع وطلق اللسان. لكنه في لهجته المصرية بدا أسيراً بشكل واضح، يلوك المصرية كمن يلوك الحصى، وربما علقت حصى من بينها في صدور متفرجين ضاقت بهم لهجته، فراحوا يحثونه على النطق: «خلّصنا بقى».
يستطيع الفنان، بل من واجبه، أن يتحدث المصرية في مسلسلات مصرية، أما في مقابلاته التلفزيونية، فذلك غير مفهوم أبداً، ولا هو ضروري. إنه يظلم نفسه حين يفعل، لطالما خشينا عليه من مشية غير مشيته. رأفة بنفسك، قبل متفرجيك.
برج البراجنة ونانسي
لو أجري استطلاع للرأي هذه الأيام حول الفنانين لفازت نانسي عجرم، بنصيب الأسد، والسبب هو احتفالها (الحصري بالنسبة للجنة تحكيم «ذا فويس كيدز») بالطفل الفلسطيني أيمن أمين، حين غنى «هدّي يا بحر هدّي»، أغنية الشاعر الشعبي الفلسطيني الراحل أبو عرب الصالح، والتي يحفظها ويجلّها معظم الفلسطينيين حول العالم. قد يكون الأمر كله جرى عفو الخاطر، لكن لا يمكن لفلسطيني إلا أن تدمع عيناه وهو يشاهد عجرم تضغط زر الإعجاب بكل قوتها عند عبارة الفلسطينيين السحرية، على لسان الطفل المغني «لا بد ما نعود».
يصعب ألا يكون المرء فلسطينياً حينذاك؛ أبو عرب، وولد من مخيم برج البراجنة، المخيم الذي يكبر أطفاله حفاة يركضون في شوارع المخيم النحيلة، والمحاصرة، إن لم يكن من حرب فمن قهر وجوع، وفي الكواليس كوفية فلسطينية، وقبضة يد ترتفع لتهتف للولد.
بدت نانسي وكأنها تهتف لمخيم برج البراجنة، المخيم الذي قد يبعد بضعة كيلومترات فقط عن بيتها في بيروت، ومع ذلك ربما لم يحدث مرة أن مرت بجواره. المخيم قد جاءها الآن، ثمة من رماه إلى حضنها، الولد الآن في عهدة نانسي. يبدو وكأن أحداً ألقى بالجمر إليها، وما عليها إلا أن توقده.
إذاعة للمشاهدة
أخذتني تغريدة على تويتر للإعلامية الزميلة ريتا خوري لمشاهدة حلقة من برنامجها على إذاعة «مونت كارلو الدولية»، ولكن موضوعة على «يوتيوب». فجأة انفتح أمامي عالم الإذاعة العريقة على وسيط مختلف: إذاعة للمشاهدة. بدا الأمر ممتعاً، إنها شروط الإذاعة ذاتها، من دون تعديل، ولكن بالتأكيد مع وعي المذيع أن الكاميرا حاضرة. بدا وكأننا نشاهد بروفة لبرنامج تلفزيوني من دون تكلف أو رسم أو ماكياج. هو عمل وسط بين الإذاعة والتلفزيون، ولا شك أنه لولا طفرة وسائط الإنفوميديا، ولولا هذه السهولة لما أتيح هذه المشاهدة. هذا ربح للجميع، للمتلقي يكافأ بمشاهدة مذيعيه الأحب صوتاً وصورة، ولمذيع الإذاعة الذي قد يرمم المسافة مع زملائه التلفزيونيين.
كاتب من أسرة «القدس العربي»
راشد عيسى