مشكلة كاراباخ: تجدد الاشتباكات بين أرمينيا وأذربيجان

في اوائل تموز (يوليو) الماضي، أسقطت أذربيجان طائرتين بلا طيار، أثناء تحليقهما فوق أراض متنازع عليها، واندلعت اشتباكات قبل ذلك وبعده بين الطرفين على الحدود المتنازع عليها بين البلدين، اي في منطقة كاراباخ (ناغورنو كاراباخ) والتي يطلق عليها أحيانا قرباخ. واستمرت هذه الاشتباكات بين فترة وأخرى ليكون أشدها في 19 و20 من شهر كانون الأول (ديسمبر) من العام 2015، مما استدعى القول بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد يعقد اجتماعا بين الرئيسين الآذري والأرميني في محاولة لتخفيف التوتر، وذلك في مدينة سوتشي الروسية.
وبذا يمكن القول أن مشكلة كاراباخ ليست جديدة، في منطقة القوقاز، وهي المحاذية والقريبة من بحر قزوين الذي يزخر بثروات الغاز والنفط وغيرهما من المعادن، وتمثل ثروات مهمة لأذربيجان وروسيا وتركمنستان وإيران، وتأتي أهمية كاراباخ من كونها ممرا مهما وضروريا لثروات هذه البلدان في طريقها إلى الأسواق الأوروبية وغيرها. فما المعطيات والتعقيدات والخلفيات التي واكبت بروز هذه المشكلة، أي ادعاء أرمينيا وأذربيجان بتبعية كاراباخ لها؟.
صغيرة لكنها مهمة: تبلغ مساحة كاراباخ نحو 4400 كلم مربع، ويصل عدد سكانها في ظروف الهدوء وعدم وجود اشتباكات وحروب، إلى نحو مليون نسمة، وتاريخيا فإن الأرمن هم الغالبية الكبيرة في هذا الاقليم، وقد برزت مشكلة كاراباخ وغيرها من الأقاليم الصغيرة في الاتحاد السوفييتي السابق (15 جمهورية اتحادية وخصوصا في منطقة القوقاز، بعد اتباع سياسة سوفيتية قضت بدمج بعض الكيانات الصغيرة بكيانات أكبر، أو بدمج ما هو صغير من الكيانات بغيره. من ذلك إلحاق أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا وأجاريا بجمهورية جورجيا، وتتبيع أوسيتيا الشمالية بروسيا وأنغوشيا بالشيشان والشركس بالقاراتشاي وغيرها وغيرها.
ويمكن الإشارة إلى تكرار نفس الظاهرة داخل أرمينيا نفسها، إذ يوجد إقليم ناختشيفان وأغلبية سكانه من الآذاريين. وكان مبعث هذا الأمر هو تطبيق سياسات الدمج بين الشعوب، وتثبيت إخوتها ومحاولة القضاء على نزعات التطرف والتعصب الديني والقومي من قبل القيادة السوفييتية في تلك المرحلة. هذا وقد تم إلحاق كاراباخ في تلك المرحلة بأذربيجان على الرغم من استمرار مطالبات الأرمن في الاقليم بالاستقلال أو إلحاقهم بأرمينيا منذ ثلاثينات القرن الماضي. وقد ازدادت الشكاوى والعرائض التي كان يرسلها أرمن كاراباخ إلى المركز في موسكو، يشكون من عدم تنفيذ خطط تنمية مناسبة في إقليمهم، كما يشكون من عدم إعطائهم حقوقا ثقافية، واستمرت الأمور على هذا الحال إلى أن تصاعدت مطالبات جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق بالاستقلال عن المركز في موسكو (14 جمهورية) في تلك الحقبة، وخاصة في العام 1988، حيث زاد أرمن كاراباخ من وتيرة التظاهرات والاحتجاجات في العاصمة ستباناكيرت وغيرها من المدن. وصلت ااشتباكات مسلحة، علما أن البلدين ـ أرمينيا وأذربيجان ـ كانتا من الجمهوريات السوفييتية.
هكذا أخذت الاشتباكات تتصاعد وأغلقت الحدود بين البلدين، وتم نسف الجسور وسكك الحديد وغيرها من المؤسسات الحيوية، إلى أن تصاعدت الاشتباكات ووصلت إلى حروب من الكر والفر بين البلدين، على الرغم من محاولات تدخل المركز في موسكو الذي أخذ يصدر أوامر لكن من دون أن يتقيد أحد بتنفيذها.
استمرت الاشتباكات بعد استقلال الجمهوريات الأربع عشرة، ومن بينها أرمينيا وأذربيجان في تسعينات القرن الماضي، وحتى ندرك بشاعة الحرب التي قامت بين البلدين، والنزاع على الإقليم الصغير، فإن حصيلة الاشتباكات كانت نحو 30000 ضحية وعشرات آلاف الجرحى والمشردين، ولم تهدأ إلا بعد تدخل الاتحاد الروسي بقوة في العام 1994، بعد أن سيطرت أرمينيا على ممر لاشين الاستراتيجي بين البلدين، واحتلال الأرمن 13 قرية على الحدود بينهما. وتم ترتيب هدنة ووقفا لإطلاق النار من قبل الروس، إلا أن ذلك لم يمنع حصول اشتباكات متقطعة بين فترة وأخرى، كان يذهب ضحاياها عشرات الجنود والمدنيين من الطرفين.
من بين أهم ما ميز الألفية الثالثة بين أرمينيا وأذربيجان: وضع دستور جديد في كاراباخ وإجراء استفتاء على استقلال الإقليم وانتخاب رئيس جديد للجمهورية الوليدة، علما انه لم يعترف أحد بذلك سوى أرمينيا فقط. وقد نالت هذه القرارات والإجراءات تأييد الغالبية من شعب كاراباخ وصلت إلى نحو 86٪، علما ان هذه الخطوة لم تنل اعترافا من أحد إلا من قبل أرمينيا. في حين استمر الروس والأمريكيون والسويسريون والفرنسيون ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي في مساعيهم لتهدئة الوضع ومحاولات عدة لجمع الرئيسين الآذاري والأرميني، وفعلا فإنهم اجتمعا عدة مرات وفي سنوات مختلفة، إلا أن الصراع والاشتباكات المتقطعة استمرت حتى أيامنا هذه.
هكذا فإن هذه المنطقة الصغيرة والجبلية والتي لا يوجد فيها ثروات، يمكن أن تكون مطمعا لأي بلد، لكنها تمثل ممرا مهما لثروات مهمة لبلدان عدة، أثارت ولا تزال تثير هذه الحروب الدامية بين بلدين كانا ضمن الاتحاد السوفييتي السابق والذي رفعت قيادته شعارات تنادي بأخوة الشعوب ودمجها فيما بينها، وأملت في محاربة التعصب الديني والقومي.
ونذكر هنا أن الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف كان قد ذكر في إحدى خطبه «إن بلادي لن تقبل منح الاقليم استقلالا من أي نوع، وهي تصر على انه جزء مهم من الأراضي الأذارية، وستعمل على استرداده بكل الوسائل بما فيها اللعسكرية» فهل ما زالت الأمور عند حدود التصريحات النارية، والتصريحات المضادة وصولا إلى الاشتباك واستئناف القتال؟ ومتى تضع هذٍه الحرب أوزارها ليعيش سكان القوقاز بما في ذلك الأرمن والأذاريين بأمان وسلام؟

٭ كاتب فلسطيني

سليمان الشيخ

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية