مصائر تراجيكوميدية !

حجم الخط
1

تصدر بين وقت وآخر كتب ذات عناوين جاذبة للقارئ العادي، وتبدو كما لو أنها كتبت للتسلية أو إثارة الفضول لمعرفة أسرار إنسانية متعلقة بالمشاهير، سواء كانوا ساسة أو جنرالات أو فنانين، وهي على الأرجح كتب لا تدّعي المعرفة في بُعدها السجالي، قدر ما تعِد قراءها بإضافة معلومات، لهذا فهي بالضرورة غير تحليلية، لكنها تتوفر على مادة خام تصلح للاستقراء من عدة مقتربات، في مقدمتها المقترب السايكولوجي. وأختار منها مثالا كتابا بعنوان «نهايات المشاهير» لمؤلفه مجدي عبد العزيز، فقد بذل جهدا في استقصاء مصائر كتاب وقادة وفنانين، تاركا المجال لمن يريد الإفادة من هذا الاستقصاء.
وإذا كانت السيرة الذاتية هي النوع الأدبي الأكثر جذبا للقراء، لأنها تتعلق بالحياة الخاصة لرجال ونساء، وتلامس النميمة البريئة ولو عن بُعد، فالناس شغوفون بالسّرد أكثر من التحليل، خصوصا في مجتمعات يغلب على أفرادها النزوع نحو التلقي، وبالتالي استلام المعلومة بلا جُهد، وقدم أحد المعلمين العرب ذات يوم تجربة تستحق التكرار في هذا السياق، عندما أعطى لعشرة من طلابه كتاب «سقوط الحضارة» لكولن ولسون، والكتاب له مقدمة تتجاوز الخمسين صفحة عن الحياة الشخصية للمؤلف، وعن مغامراته والمفارقات التي عاشها في حي سوهو في لندن، لكن القسم الآخر من الكتاب وهو مئات الصفحات مكرس للتحليل والنقد، الذي شمل مفكرين وفلاسفة ومؤرخين منهم، نيتشة وشبنجلر وبرنارد شو ولافكرافت وتوينبي وآخرين، وكانت النتيجة أن استغرق الطلاب العشرة في قراءة المقدمة ثم توقفوا، لأن السرد قد انتهى وبدأ بعده التّحليل.
ولو تكررت هذه التجربة على العديد من الكتب ذات المقدمات المتعلقة بالسيرة الذاتية لما اختلفت النتائج، لأن عادات القراءة في مجتمعاتنا أصابتها عدوى الاستهلاك وعدم المشاركة، وربما لهذا السبب تكون كتب من طراز نهايات المشاهير، أو أمراضهم من طراز كتاب موريال فايسباخ وهو بعنوان «المهوسون بالسلطة» من ضمن الكتب الأكثر رواجا وربما الأكثر مبيعا، بعكس الكتب التحليلية التي تتطلب جهدا من طراز آخر لقراءتها.
على أي حال يقدم كتاب نهايات المشاهير ستة وخمسين مصيرا لرجال ونساء، منهم صانعو أحداث وعلماء وفلاسفة، وهي مصائر بشرية لا تمتاز عن مصائر الناس العاديين إلا بطرافتها أحيانا، وعندما نطلق على هذه المصائر مصطلح التراجيكوميديا الذي تتزاوج فيه المأساة بالملهاة، فذلك لأن بعض تلك المصائر لا يخطر ببال الناس ومنها، مصير أسخيلوس الكاتب المسرحي اليوناني، فقد كان يتمشى ويتأمل ما حوله بين الحقول عندما اصطاد نسر سلحفاة وطار بها، لكنها كانت أثقل من قدرته على الاحتمال فسقطت على رأس اسخيلوس وتسببت في موته.
وهناك مصائر ذات دلالات وأبعاد سياسية منها، ما انتهى اليه موسوليني الذي رُمي بالرصاص وعُلّق من ساقيه، ورومل الذي انتحر تنفيذا لأمر من هتلر واشترط أن تكون له جنازة مهيبة، أما مصير رائد الفضاء غاغارين فإن غرابتها هي ما انطوت عليه من مفارقة، فالرجل الذي حلّق بين المجرات وعاد سالما إلى الأرض مات بحادث طائرة تدريب عادية.
ومن النهايات ذات الدلالات السياسية والبعد الرمزي قتل الجنرال كليبر، الذي نفذه شاب قادم من الشام إلى مصر اسمه سليمان الحلبي، وتحتفظ فرنسا حتى الان بخنجر الحلبي في مدينة كركاسون. بالطبع هناك مشاهير ماتوا ميتات عادية إما بالمرض أو الشيخوخة لهذا لم تتحول مصائرهم إلى أمثولات في التاريخ، ولو تضمن هذا الكتاب مصائر قادة وزعماء عرب خلال هذا العقد لأضاف إلى القائمة ما يجعل مصطلح تراجيكوميديا دقيقا في وصف مصائر لم تكن متوقعة على الإطلاق حتى في الخيال.
ولا أظن أن كتابا يتناول نهايات مشاهير التاريخ يمكنه إغفال ذلك المصير التراجيدي بامتياز لسقراط، الذي تجرع كأس السم امتثالا لحكم أثينا، فهو ينفرد بهذا المصير لأن من ماتوا مسمومين إما انتحروا أو فرضت عليهم هذه العقوبة قسرا، لكن سقراط تجرع السم طائعا ويقال إنه في لحظات الاحتضار تذكّر ما عليه من ديون وذكر اسماء أصحابها!
كان مصير الروائية الأمريكية مرغريت ميتشل مُثيرا للدهشة عندما رحلت، لأنها كانت ضحية حادث سير، لكن هذه الدهشة تبددت عندما رحل بعدها عدد من الكتّاب والفلاسفة والشعراء بحوادث مماثلة، بدءا من غولدمان وليس انتهاء بالشاعر الفلسطيني توفيق زيّاد، ويبدو أن هذا النمط من المصائر سيتضاعف في عالم أصبح عدد السيارات فيه ينافس عدد البشر، لهذا يمكن اعتبار مرغريت ميتشل وغولدمان وزيّاد ضحايا ما يسميه غارودي الخلايا الزواحفية في الدماغ، ويقصد بذلك حالة العصاب والعمى التي تنتاب من يقودون السيارات بتوتر وانفعال ويحولونها إلى توابيت.
بالطبع يستطيع باحث آخر أن يحشد مئات المصائر لمشاهير لم يرد ذكرهم في هذا الكتاب، فالاغتيال وحده حصد المئات في مختلف القارات.
ليس صحيحا ما يشاع عن نرجسية الشعراء وأنهم قلّما ينتحرون، وهناك اسماء منها ماياكوفسكي وسيرغي يسنين وخليل حاوي وضعوا حدا لحياتهم على نحو مباشر مقابل عشرات آخرين كان انتحارهم بطيئا، مثل رامبو وبودلير وشعراء من العرب يحفظهم القارئ عن ظهر قلب. لكن مصير بوشكين الروسي كان وسيظل استثنائيا لأنه لقي مصرعه في مبارزة وحين أتيح لي أن ازور المتحف الذي يضم مقتنياته بشارع ارباط في موسكو أحسست بأن حفيف مناديله الحريرية وصرير أسلحته ترشح منها رائحة الفروسية الغاربة.
فهل تعددت الأسباب لكن الموت واحد، أم أن لكل ميتة مذاقها ولونها ورائحتها أيضا؟
ما لم تقدمه قائمة أصحاب المصائر التراجيكوميدية هو عدد المثقفين العرب الذين ماتوا ولم يدفنوا وانتحروا لكن عقليا كما يقول البير كامو وهو يصنف الانتحار بين نفسي وجسدي وعقلي وضميري! أما الهامش الأخير الذي سقط سهوا من الكتاب والمقالة أيضا، فهو هؤلاء الذين ماتوا مرتين على طريقة كان كان العوّام في رواية أمادو!س.

كاتب أردني

خيري منصور

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد عودة ،، الأردن:

    أذكرك ب آرنست همنجواي الذي كتب في « العجوز والبحر » :
    «.. الرجل يدمر ( بضم الياء ) ، لكنه لا يستسلم .. »
    ومات منتحرآ بطلقة نارية .. مستسلمآ !

إشترك في قائمتنا البريدية