مصر: إمكانية عودة المقاطعة العربية للدولة الصهيونية؟!

غابت فلسطين طويلا عن مصر. ومع ذلك الغياب تغيرت لغة واتجاهات السياسة والصحافة والإعلام من مشرق الوطن العربي إلى مغربه. وغابت كذلك عن أغلب مناهج التعليم وبرامج الثقافة الحكومية، وقد وقع كثيرون في فخ نُصِب لهم بإحكام أنساهم أن سقوط فلسطين كان من الضروري أن يمتد إلى أبعد من حدودها الجغرافية، فصار العرب أعرابا؛ يتناحرون ويتقاتلون ويتآكلون، وأصبحت مقاولات السقوط تدر أرباحا وثروات طائلة، يعلمها القاصي والداني. ونتج عنها مرارات وإحباطات في نفوس القوى الساعية للحرية والمناصرة للسلام العادل. واختنقت القضية الفلسطينية من داخلها، وحوصرت من المحسوبين عليها وبمشاركة الأقربين ومن تخلوا عنها.
وبقي هناك دوما من يقاوم هذا الوضع ويجتهد في كسره. والمصريون من زمن وهم يرفضون التطبيع، وما زالت المنظمات الأهلية والجمعيات والأندية والنقابات العمالية والمهنية والأكاديمية؛ ما زالت تحاسب منتسبيها إذا ما كسر أحدهم الضوابط المانعة للتطبيع، وعلى مدى فترة تقترب من أربعة عقود ما زال هؤلاء على عهدهم يتحدون التطبيع والمطبعين. وحافز المطبعين هو ما يجلبه من عائد ومن منافع وفوائد، واستخدامه كورقة اعتماد تقدم من المتطلعين إلى مقاعد السلطة، وإلى الحصول على رخصة لنهب الثروة العامة.
وظل الجمهور المصري العريض صامدا وعلى عهده وفيا لفلسطين وكل ما ارتبط بها من مقدسات. وهذا جعل المراهنون على ذلك الغياب المستمر يكتشفون أن رهانهم ينتهي إلى سراب؛ رغم جحافل الجيوش الغازية، وخزائن المال المعتمدة، وحملات الإعلام المضللة، وتعصب الفرق المذهبية وفتن الجماعات الطائفية، وجهودها الدؤوبة في صناعة عداوات بديلة، تتغذى ببث الكراهية ونشر الأحقاد بين أبناء الوطن الواحد..
أقول هذا الكلام وكنت قد هيأت نفسي للكتابة عن ردود فعل وصلتني حول موضوع الأسبوع الماضي، عن «دستور موسى»، ووصلتني من قامات احترمها وأقدرها؛ لتاريخها وباعها الطويل في العمل الوطني، ودورها في الحراك الثوري؛ منذ ما قبل ظهور حركة “كفاية” في 2004 حتى ثورة يناير 2011 وإلى الآن.. وبينهم صاحب دور وطني فلسطيني وناشط عروبي مخضرم؛ قائمة طويلة أبدت ملاحظاتها على الموضوع.. ويعود هذا التغيير إلى ما لمسته من بوادر تحول مصري جديد نحو فلسطين؛ يرد لها الاعتبار ويعيد إليها مكانتها الضائعة.
وأكتفي بتوجيه هذه الكلمات القليلة.. وملخصها أن نسبة الثبات في موقفي عالية، وهذا لا يمنع من الإقرار بأن ما أطرحه يحتمل الصواب والخطأ، ومن ثوابت هذه المرحلة من ناحيتي هو الأنحياز للثورة بلا تحفظ، وتجنب معارك السياسة، ويكفيني ما أبديه من رأي ومشاركة في أعمال فكرية وأنشطة عامة على قدر الطاقة؛ احتراما للحالة الثورية، التي أشعر أنها ما زالت مصدر إلهام وحيوية للشارع الوطني.. وحين أشرت إلى تهميش “دستور موسى” للقوى والكتل الاجتماعية الكبرى، وجدت من ينبهني إلى إنتقالية نصوص التهميش، واكتشفت أن دافعي لم يكن النصوص فقط إنما معرفتي بالرحم الذي خرجت منه وبدا لي كاشفا للداء.. ولا يبرر قبول الوعظ من الشيطان، ولا منح صك براءة لرمز من رموز التطبيع وضعته الأقدار على رأس لجنة أعداد الدستور.. وتعلمنا من تتلمذنا على أيديهم أن السمك يفسد من رأسه!!
والمهم أن فلسطين عادت إلى صدارة المشهد الوطني في مصر الأسبوع الماضي؛ في غمرة إحياء الذكرى الخامسة والأربعين لمذبحة مدرسة قرية بحر البقر الابتدائية المشتركة (بنين وبنات).. التابعة لمركز الحسينية بمحافظة الشرقية المصرية؛ وقتها أغارت المقاتلات الصهيونية وألقت بحممها على رءوس أطفال أبرياء صبيحة الثامن من إبريل 1970، وأودت بحياة ثلاثين منهم وأصابة خمسين آخرين ودمرت المدرسة بالكامل. احتضنت نقابة الصحافيين الذكرى، التي تحولت إلى مناسبة؛ لإعلان تأسيس «الحملة المصرية الشعبية» لمقاطعة الدولة والمنتجات الصهيونية والشركات االمتعاملة فيها، ووقع على بيان التأسيس أحزاب سياسية، ونقابات مهنية وعمالية، وحركات شبابية واتحادات طلابية. وهذه الحملة المصرية امتداد لحملة BDS الفلسطينية، التي قامت في 2005 وحروفها الإنكليزية الثلاثة تمثل الحروف الأولى لثلاث كلمات تعني: مقاطعة.. سحب الاستثمارات.. عقوبات.. لردع المتعاملين مع الدولة الصهيونية ومنتجاتها وأنشطتها، وكثير من هذه المنتجات والسلع منتشر في السوق المصرية، مع منع تحويل الأموال إلى تل أبيب، والضغط على المصالح الصهيونية حتى تتوقف.
هذه الحملة من مخرجات الحراك الثوري الدائر على مدى السنوات الأربع الماضية، ونتيجة طبيعية لثورة 30 يونيو 2013؛ في تأكيدها على الاستقلال الوطني وعلى استعادة مصر لدورها العربي.. وكانت الدولة الصهيونية قد تعرضت لخسائر جمة بسبب مقاطعة عصر ما قبل التطبيع – بكل ما لها وما عليها – وهنا يلزم التنويه إلى أن المقاطعة كانت قد وصلت حد منع منتجات لها شهرة عالمية من دخول السوق الصهيونية.. مثل بيبسي وماكدونالد وسيارات تويوتا اليابانية وغيرها. وكل هذا انتهى بعد “كامب ديفيد”، وأخذت المقاطعة في الضعف في ثمانينيات القرن الماضي. إلى أن وصل نفوذ شركة كوكاكولا في مصر الآن مستوى الخطر، بعد أن أصبحت شريكا لوزارة الشباب والرياضة في إقامة المهرجانات والمباريات والمسابقات الرياضية والفنية وتوجيهها، وعلى هذه الحملة أن تتنبه لذلك، وتمتد إلى تحذير الوزارات والهيئات والمؤسسات الرسمية ولا تكتفي بتحذير الأفراد.
ولم يمنع انتهاء المقاطعة الحكومة الصهيونية من التحايل؛ تحسبا للظروف ولاحتمال عودتها مرة أخرى؛ إذا ما استمر قضم الأراضي، وازدادت وتيرة الحروب والإغارات على غزة، وتوالت عمليات ملاحقة واغتيال النشطاء الذين يطالبون بالتحرير والعودة وإقامة الدولة. والتحايل يتم بإرسال المنتجات والسلع الصهيونية إلى بلد ثالث؛ ليعاد شحنها إلى الدول العربية. وتُعد قبرص البلد الأهم والمثالي في إعادة الشحن؛ مع العلم أن المنتجات والسلع الصهيونية غير مقاطعة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.
لم يعد ضعف المقاطعة وإنهاؤها إلى تواطؤ رسمي عربي فقط، إنما لعبت فيه السياسة الأمريكية أخطر الأدوار في القضاء عليها. واستطاعت عن طريق “اللجنة الأمريكية اليهودية” تمرير تشريع ضد المقاطعة، وتم ذلك قبل زيارة السادات للقدس المحتلة وتحت رعاية الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر في 1977، وصدرالتشريع واعتمده الرئيس الأمريكي؛ ويقضي بفرض غرامات على أي شركة أمريكية تستجيب للمقاطعة. وأنشأت واشنطن مكتبا خاصا تابعا لوزارة التجارة الأمريكية؛ للإشراف على تنفيذ القانون. لكن شركة ماكدونالد فضلت دفع الغرامة ومخالفة قانون المقاطعة على خسارة السوق العربية بحجمها الضخم في ذلك الوقت.
وتتحمل الحكومة المصرية الوزر الأكبر في إنهاء المقاطعة في ثمانينات القرن الماضي،.تلتها الحكومة الأردنية في 1995. وأسقطت السلطة الوطنية الفلسطينية القيود على المقاطعة في 1995، وسبقتها حكومات المغرب والخليج في 1994. وبدأت العلاقات الدبلوماسية بين تل أبيب والرباط ومسقط ونواكشوط والدوحة بشكل خجول وغير معلن حتى أنهت الدول العربية جميعها قيود المقاطعة، باستثناء سوريا، التي منحت امتياز تصنيع مشروب الكوكاكولا على أراضيها!!
وتبدو الظروف مهيأة لبدء صحوة عربية من مصر، والقوانين الوطنية والدولية تقر المقاطعة (سلميا)، وتمارسها جماعات وجامعات أوربية وغربية.. ردا ورفضا للسياسات العنصرية والعدوانية والاستيطانية، ويؤسس مواطنو الغرب حركات وجماعات لمقاطعة كل ما هو عنصري وعدواني في مجالات التجارة والسياحة والثقافة والعمل الأكاديمي!!.
وكان من الملاحظ أن الأحزاب والجماعات ذات المرجعية المذهبية والطائفية قد غابت ولم تشارك في المناسبة؛ باستثناء شباب حزب مصر القومية، ورئيسه القيادي الإخواني السابق عبد المنعم أبو الفتوح، وحضرت جماعات لم يكن لها اهتمام بفلسطين من قبل؛ كجماعة 6 إبريل وأخواتها.. «خير اللهم اجعله خير»!!

٭ كاتب من مصر يقيم في لندن

محمد عبد الحكم دياب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عاطف الصغير - مصر:

    افهم .. ان يحاصر الاسرائيليون غزة ..
    فحماس تشكل لهم .. رعبا حقيقيا .. غير قابل للانكسار ..
    لكن .. احتاج لأن اتخلى عن عقلي .. كي افهم .. ماهي الاسباب التي تجعل من مصر العروبة والاسلام .. وكأنها اشد تنكيلا ومحاصرة وبطشا واتهاما .. لغزة .. اكثر من اليهود انفسهم ..
    مالذي حل بعقيدة الجيش المصري .. ؟؟
    وهل تجاوز الانقلاب .. الذي كنا نظنه … فقط انقلابا على الشرعية وارادة الشعب .. ليصبح ايضا .. انقلابا في العقيدة العسكرية .. وانسلاخا من التاريخ ..

  2. يقول عربي حر:

    تحية للكاتب المحترم
    مادام الكاتب قد ذكر ثورة 30 يونيو المجيدة وعلاقتها بمقاطعة العدو الإسرائيلي فوجب التنبيه إلى أن عقيدة الجيش المصري ومعه نظام السيسي لا يعتبران إسرائيل عدوا بدليل التعاون الأمني والإستخباراتي بين الطرفين
    ثانيا حصار سكان غزة بدعوى محاربة الإرهاب وقصف مدنيين ليبيين ورسائل التناغم مع جزارسوريا تؤكد أن النظام في حالة حرب مع الشعوب ومتحالف مع أنظمة القمع والإرهاب على رأسها إسرائيل
    وأخيرا نجاح المقاطعة رهين بوحدة وإتحاد الصف وهو أمر مفقود بوجود أطراف تصف معارضين للنظام بالمذهبيين والطائفيين في حين أن لب الخلاف في مصر سياسي بحت

إشترك في قائمتنا البريدية