مصر… القمع كعقيدة رسمية

ليس بغريب أن ينكر الحكم في مصر وضعية الأزمة المستحكمة التي يرتبها الإخفاق الاقتصادي والاجتماعي وينتجها إطلاق اليد القمعية باتجاه المواطن والمجتمع. ليس بغريب أن يراوح الحكم فيما خص المظالم وانتهاكات الحقوق والحريات المتراكمة بين نفي حدوثها وبين توصيفها كحالات فردية «جاري التعامل معها» من قبل السلطات العامة.
ليس بغريب أن يتورط بعض الرسميين في التحريض على العقاب الجماعي لمعارضي الحكم وفي الترويج لغرائز الانتقام دون أن يتوقف أحد في دولاب الدولة أمام هذه الكارثة أو يبدي شيئا من الاهتمام بتداعياتها السلبية على القليل المتبقي من ثقة الناس في المؤسسات والأجهزة العامة وكذلك في إمكانية العدل في بر مصر. ليس بغريب أن تستنزف الموارد العامة المحدودة بين الكلفة الباهظة «للمشروعات الكبرى» التي يعلن عنها دون دراسات علمية جادة وبين تضخم موازنات الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، وأن تتواصل من ثم عمليات الاقتراض والاستدانة من الخارج وتتراجع بشدة فرص التنمية المستدامة.
ليس أي من ذلك بغريب. فنظم الحكم السلطوية يندر أن تنجح اقتصاديا واجتماعيا، وهي تمعن عادة في إنكار القمع ونفي الظلم، وبعضها يعتاش بالفعل على صناعة متجددة باستمرار «للأعداء» الذين تستطيل قوائمهم وتبرر ممارسات العقاب الجماعي بحقهم. ومن الطبيعي هنا أيضا أن يكون الوجه الآخر لجمهوريات القمع والخوف التي تنتجها السلطوية هو سطوة الأجهزة الأمنية وتهميش كل ما عداها داخل بنية الدولة وسلطاتها ومؤسساتها العامة، وأن تمسك بالحكام بارانويا الخوف من المواطن والمجتمع على الرغم من أسوار القمع العالية التي يشيدونها لإخضاعهما والموارد التي يهدرونها في تزييف الوعي العام لمقايضة الناس بالخبز والأمن على الحق والحرية. لا يأمن حكام النظم السلطوية أبدا جانب المواطن، ويجعلون من «الاشتباه» فيه أساسا لتعقبه وتهديده بالقمع وتعريضه له. لا يأمنون أبدا جانب المجتمع الذي قد لا تنطلي عليه طويلا ألاعيب تزييف الوعي، وسرعان ما يظهر التململ من الظلم فالاستياء من المظالم متبوعا بالمطالبة بمحاسبة المتورطين والبحث عن بدائل أفضل لإدارة شؤون البلاد.
لكل ذلك، يتصاعد انتقال الحكم السلطوي في مصر إلى اعتماد شبه أحادي على القدرات القمعية، وعلى ممارسات الضبط والتعقب الأمني التي يتجاوز نطاقها المعارضين الفعليين والمحتملين ويتسع ليشمل عموم الناس.
القمع هو عقيدة الحكم الرسمية، والحاكم وأعوانه تسيطر عليهم بارانويا «الأخطار الخفية والمؤامرات السرية»، والأجهزة العسكرية والأمنية والاستخباراتية تقصي جميع منافسيها بعيدا عن دوائر الحكم وتستتبع السلطات العامة وتفرض على النخب الاقتصادية والمالية شراكة «الربح نظير التأييد» وشراكة «الحماية نظير الامتناع عن المعارضة» وتهيمن على الفضاء العام على نحو يغتال حريته وموضوعيته.
لكل ذلك، يوظف الحكم السلطوي في مصر استراتيجية إضافية سبقته إلى توظيفها نظم استبدادية وسلطوية أخرى هي إماتة السياسة وإلغاء البدائل عبر التسفيه. والمعني هنا هو المحاولات الممنهجة من قبل دوائر الحكم لتشويه الحياة السياسية المدنية في مجملها، وتعزيز الاعتقاد بأن فقط الجنرالات وأصحاب الخلفيات العسكرية والأمنية والاستخباراتية هم القادرون على إدارة شؤون البلاد وتحقيق الصالح العام.
لكي تموت السياسة وتلغى البدائل بتسفيهها، تختزل الدولة بكامل مؤسساتها وأجهزتها إلى المكون العسكري-الأمني، أما المكون المدني للدولة فيوصم بأمراض العجز والقصور وعدم الانضباط التي تتطلب هيمنة العسكريين والأمنيين عليه ووصايتهم على عمليات صنع القرار في سياقاته ودوائره المتنوعة. تلغى أيضا ممارسة القدرة الفعلية للهيئات التشريعية والقضائية والإدارية الرقابية المنوط بها (دستوريا وقانونيا) إخضاع المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية والاستخباراتية للمساءلة والمحاسبة على ممارسة مهامها. ولنا، من بين وقائع كثيرة ومتكررة أخرى، في غوغائية «إعلانات الولاء والعرفان والتقدير» للمؤسسة العسكرية التي وجهت بها قبل أيام محاولة نائب برلماني التساؤل داخل البرلمان صاحب اختصاص التشريع والرقابة بشأن رواتب العسكريين وإعفاءاتهم الضريبية دلائل مريرة على وضعية ممثلي الدولة فوق الدولة التي بلغها (أو عاد إليها) الجنرالات ومن يليهم في الهيراركيات العسكرية والأمنية والاستخباراتية. لكي تموت السياسة بتسفيهها يظل رأس السلطة التنفيذية دون بديل، تظل السلطوية الحاكمة بهيمنة العسكريين والأمنيين دون بديل، تظل النخب المدنية التي ارتضت التبعية للمكون العسكري-الأمني عاجزة بالمطلق عن الابتعاد عن استدعاءات الجنرالات، يظل الإعلام العام والخاص مسخرا للاغتيال المعنوي لكل فكرة بديلة أو رمز بديل أو شخصية عامة بديلة.
لكل ذلك، يضرب الفشل ومعه الملل مفاصل الحكم السلطوي في مصر. فممارسة المزيد من القمع والضبط والتعقب الأمني لا تحتاج أبدا إلى إجتهاد استثنائي من قبل الحاكم وأعوانه، والرتابة المرتبطة بإماتة السياسة وإلغاء البدائل يصعب التقليل من تداعياتها على عموم الناس الذين يتوالى انصرافهم عن وعود «المشروعات الكبرى والإنجازات القادمة» ويخيم العزوف وفقدان الأمل على علاقتهم بالشأن العام. وهنا، حين ينقلب القمع إلى سيطرة فاشلة وتنقلب إماتة السياسة إلى استراتيجية رتيبة، تشرع معاول هدم السلطوية في العمل وحتما ستزج بمصر إلى صراعات مجتمعية تتجدد وعمليات انتقال ستحمل فرص البناء الديمقراطي مثلما ستأتي بأخطار عجز الدولة والانفجارات الأهلية.

٭ كاتب من مصر

مصر… القمع كعقيدة رسمية

عمرو حمزاوي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    مصر من دولة إلى أشباه دولة إلى لا دولة
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول حسن إسما عيل - ألمانيا - ميونيخ:

    أصدقائي…أنصحكم بكتاب “العبودية الطوعية” لايتيان دو لا بويسي.
    “دعوةً إلى التمرّد” “مني”إليكم في ظل القمع كعقيدة رسمية:

    إنّ مقاومة البؤس والقهر، لا تمرّ، حسبما يرى لا بويسي عبر العنف والقتل، لأن عبودية الشعوب عبودية طوعية، فهم الذين “يذبحون أنفسهم بأنفسهم”، وهم بخضوعهم للنير يشوّهون الطبيعة البشرية، المفطورة أصلاً على الانعتاق والحرية.سيتخلّص الناس من العبودية الرهيبة، باستعادتهم حقيقتهم الأوّلية، “لطبيعتهم الحرة”، فيناط بهذه الاستعادة التحوّل الكبير في الحياة السياسية التي ستجعل من الإنسان، لا من الله ولا من أوليائه، الفاعلَ الأوحد في العالم السياسي، وذلك ضمن إطار تعاقدي حر.

    أنواع الطغاة;
    يقول “لا بويسي: هناك ثلاثة أنواع من الطغاة، فالبعض الأول يسود عبر انتخاب من الشعب، والبعض الآخر بقوة السلاح، أما البعض الأخير فبالتوالي الوراثي. أما الذين اغتصبوا السلطة بقوة السلاح فيتصرفون بها كأنهم في بلاد قاموا بغزوها. وأما الذين ولدوا ملوكا فليسوا على العموم أفضل مطلقا، فالذين ولدوا وترعرعوا في حضن الطغيان، يرضعون الطغيان طبيعيا مع الحليب، وينظرون إلى الشعوب الخاضعة لهم نظرتهم إلى عبيد بالوراثة. ويتصرفون بالمملكة وفقا لطبعهم مثلما يتصرفون بإرثهم.

    أما الذي تأتيه السلطة عن طريق الشعب فيبدو لي أن عليه أن يكون محتملا أكثر. وأعتقد أنه يمكن أن يكون كذلك لولا أنه ما إن يرى نفسه مرفوعا أعلى من الجميع حتى يساوره الغرور بفعل ذلك الذي يطلقون عليه إسم العظمة، فيصمم على أن لا يتزحزح عن مقامه. ويعتبر على نحو شبه دائم أن القوة التي منحه الشعب إياها ينبغي أن ينقلها إلى أبنائه.

    أعتقد أن موضوع الكتاب، ما زال ساخنا ولاسيما في منطقتنا العربية، حيث ما زالت الحقوق والحريات نصوصا تحويها دساتير وقوانين “الكفتة” المنظمة لموادّها؛ لكن السلطات الحاكمة تضرب بها عرض الجدار، كلما تعارضت مع رغبتها الطاغية في السيطرة الشاملة. من هنا تأتي عدم تقادم الكتاب ، على الرغم من أنه كُتب في الربع الأخير من القرن السادس عشر.آخر الكلام: (كما تكونوا يولى عليكم. حديث شريف). مقالة العبودية الطوعية كتاب يستحق القراءة خصوصا من قبل شعوب العالمين العربي والإسلامي الموبوئين بداء الطغيان والظلم والقهر منذ قرون طويلة.آخر الكلام: كتاب يستحق القراءة خصوصا من قبل شعوب العالم العربي الموبوئين بداء الطغيان والظلم والقهر منذ قرون

  3. يقول عادل:

    مقال جميل وتحليل رائع للواقع الحالي بمصر. ولكن هل نسي الكاتب انه كان من بين النخب المدنية التي استدعت العسكر ومكنته من الحكم؟

إشترك في قائمتنا البريدية