مصر بين الاختزال وانتظار الكارثة

حجم الخط
4

في رد رئيس الوزراء الكندي الجديد عن أسباب تشكيله لحكومة متنوعة أجاب «لأنه عام 2015». إجابة شديدة الدلالة لأنها توضح عمق الفجوة القائمة بين من يرى في 2015 دليلا على تطور وانفتاح العالم، وبين الأصوات التي تطالب في مصر بأن نغلق الأبواب وأن نحل مشاكلنا بعيدا عن العالم، ليس من أجل مواجهة أفضل، ولكن من أجل استقرار شكلي يحافظ على الأطر القائمة ولا يحقق بالضرورة إصلاحا حقيقيا.
تلك الفجوة بين من يرى العالم بوصفه مجالا مفتوحا وبين من يراه حجرة يمكن أن تغلق فيها الأبواب والنوافذ، فلا يعرف العالم ما يحدث فيها، ولا يعرف المواطن ما يحدث خارجها، تعبر عن جوهر المأساة التي تحيط بعالمنا بكل ما فيه من صور تسلط تختلف في مسمياتها، وفي القيم التي تعلن أنها تدافع عنها (الدين – الدولة) ولكنها تتفق في تصورها للعالم ولنفسها بوصفها مجرد غرف مغلقة ومواطنيها مجرد سكان في منزل صاحب السلطة القادر على غلق الأبواب واستخدام الخطاب الذي يريده ونشر «الحقائق» التي يرغب في خلقها وتعميمها.
تتحول كارثة بحجم الطائرة الروسية التي أسقطت في سيناء ومات من عليها، للحظة منتظرة لتعميق حالة اختزال الوطن في الحاكم، والمشكلات في استهدافه، والعيوب في المؤامرات الكونية، والحلول اللازمة في البحث عن تفويض جديد، لتستمر حالة ترحيل المشكلات وانتظار الكوارث، على الرغم من أن الفساد والظلم ليس مؤامرة والتزامن في الأحداث كاشف عن وجود مشاكل أعمق من التآمر الخارجي، بافتراض وجوده. وكما تم اختزال شعار «تحيا مصر» في 30 يونيو ويوليو في شخص عبد الفتاح السيسي (وزير الدفاع – الرئيس) يتم اختزال الكارثة في أنها مجرد محاولة للهجوم عليه وإفشاله، ويتم اختزال التعامل معها في الحاجة لتكتل وطني يعبر بدوره عن الحاجة لتفويض جديد.
يتحول الوطن والوطنية والدين والإيمان إلى آليات للعقاب والثواب، للمنح والمنع والدولة تغادر دورها لكي تؤمم الحياة من أجل الوصول للكتلة الصامتة المفوضة، التي تجتمع لتفوض ثم تغادر وهي تشد الحزام، وتنتظر الوطن أو تنتظر غودو الذي قال إنه سيأتي في الغد، ولكن المشكلة أن الحاضر ممتد والغد المنتظر لا يأتي.
في الممارسة تعودنا انتظار الكارثة حتى يتم الاعتراف بوجود كارثة سابقة والحديث عن ضرورة مواجهتها. نستخدم الكارثة لمعالجة آثار كارثة قديمة مع التغاضي عن الكارثة الجديدة أو جوهرها، فتكون كل كارثة وقودا لكوارث أخرى. وفي كارثة الإسكندرية التي ارتبطت بشكل ظاهري بالأمطار وزيادة منسوبها، تم التعامل مع أزمة محافظ الإسكندرية والجدل الممتد حول دور زوجته وتبريراته التي لا تخلو من طبقية واضحة. ولكن الحقيقة أن الواقع مستعد للانهيار والامطار كشفت عن الفساد والعشوائية بما فيها أشكالية القيادات المنفصلة عن الواقع، والانجازات الرقمية والإعلامية التي لا تمت للواقع، بدليل الأحاديث السابقة عن الإدارة الناجحة في الإسكندرية، ولكنها على ما يبدو لم تهتم بالبنية التحتية ولا بالتغيرات المناخية، وكأن كل ما فعلته من إنجازات في حاجة لمحاسبة واسئلة حقيقية، قبل أن نغلق باب الكارثة بتغيير محافظ وتحميل المسؤولية على الأمطار.
جاءت الأمطار مثل ثورة 25 يناير كاشفة لسوء الأحوال التي يحاول البعض التجاوز عنها، أما الخطاب المستخدم فيختلف حسب الهدف المطلوب من اللحظة، فعندما تكون هناك حاجة للتنديد بثورة يناير وتقديم الشكر للرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، يتم تعظيم الانجازات السابقة على يناير، والحديث عن التطور الاقتصادي الذي تحقق حتى إن لم يصل للمواطن، ولكن عندما تكون هناك حاجة للتعامل مع كارثة تهدد صورة النظام القائم، تعلو أصوات الدفاع عنه، من خلال الحديث عن الميراث الثقيل، على عكس ما كان يحدث أيام الرئيس الأسبق محمد مرسي. في حين يحاول البعض قصر هذا الميراث السلبي على مرحلة يناير لتبرئة ما قبلها من جانب ولاستمرارية فكرة انجازات ثورة 23 يوليو بدون انقطاع حتى يناير. تفسيرات لا يمكن قبولها كما هي، فالميراث الثقيل يعني مسؤولية ما كان من سياسات وأفراد وما هو كائن عما يحدث وعن خطورة تأجيل التعامل مع المشكلات الحياتية للجماهير من أجل المشاريع الكبرى التي يتم تخليدها في سجل الانجازات الرقمية بدون دراسات كافية ونقاش حقيقي عن أولويات المرحلة.
الإنجازات الرقمية مثل الكوارث تخدم السلطة، والمواطن يدفع الثمن. والسلطة لازالت تمارس الطريقة التقليدية نفسها في ترحيل المشكلات وتضخيم فكرة المؤامرة والمقارنة غير الدقيقة بلحظات تاريخية مختلفة، أو حوادث في دول أخرى من أجل ضمان شد الحزام وتعميم حالة الصمت باسم الالتفاف الوطني. صورة تقليدية لكل كارثة تحدث في الداخل تصاحبها تغطية لكوارث أخرى في العالم على طريقة «لست وحدك» أيها المواطن، فالمعاناة عالمية. ولكن لست وحدك تقف عند حدود المقارنة في المعاناة والسلبيات ولا تتسع خارجها كي تقارن بمستويات المعيشة والموارد وطرق استخدامها، والفساد وطرق مكافحته، والمسؤولين ومحاسبتهم.
لست وحدك تتسع لدرجة ان الانتقادات الدولية الموجهة لوضع حقوق الانسان وممارسات السلطة في مصر يتم الرد عليها رسميا بالتأكيد على وجود انتهاكات في الغرب نفسه. وبالطبع هناك اخطاء في كل مكان ولكن هناك اختلافات حقيقية في النسب والمحاسبة، كما ان استمرار المقارنة في السلبيات لا يحلها ولا يقود لوطن حقيقي.
في الوقت نفسه لا يتوقف التعامل عند تلك الحدود، ولكن يبحث عن مجال لتأكيد فكرة الاستدعاء الشعبي والانقاذ والتفويض مع الحاجة إليه والى تجديده. حديث الرئيس الذي انتقد فيه الإعلام بعد انتقاد موقفه من أزمة الإسكندرية، يعيد تلك الصورة وهو يقول «انتم بتعذبوني علشان أنا جيت وقفت هنا وألا أيه» الغضب والحزن الواضح والصيغة المستخدمة تأكيد على فكرة الاستدعاء والتضحية، أما إشارته «اشكيكم للشعب» فهى تأكيد على التفويض والعلاقة الخاصة مع الشعب التي يحرص دوما على تأكيد أن الإعلام والخبراء والمختصين لا يدركونها بشكل كاف، كما كان الوضع عندما تم تقليص الدعم بدون أن تصاحبه ثورة شعبية.
واقع يمتد للطائرة الروسية التي تم التعامل معها بوصفها أمرا عاديا قبل أن يتحول المؤشر لخطاب المؤامرة الكونية، التي يشارك فيها الجميع حتى من كان يوصف بالصديق الوفي. تساق كل الصفات التي لا تمت للعلاقات الدولية بصلة وهي تتعامل مع الحدث ومواقف الدول على طريقة الأسرة والأصدقاء وتتجاوز عن حقيقة أن الدولة – أي دولة – ملزمة بحماية مواطنيها ومصالحهم. لكن تلك الحقيقة الغائبة عن الواقع المصري، التي تجعل مستشفى يرفض قبول طفل مصاب في حادث قبل الحصول من أهله على الأموال اللازمة للأشعة والكشف، ويحصل على مقتنيات مادية حتى احضار الأموال، تجعل ما قامت به روسيا من إيقاف الرحلات لمصر – وفقا للخطاب السائد- مجرد جزء من المؤامرة أو تقليد أعمى لما قامت به غيرها من الدول الأوروبية، رغم ان الواقع يقول إن كارثة بهذا الحجم لابد ان تجبر أي نظام على خطوات تؤكد قيامه بحماية مواطنيه، خاصة في ظل تهديد ما يعرف بـ»داعش» باستهداف روسيا لمشاركتها في الحرب في سوريا.
الحادث وما ارتبط به من تبني التنظيم له، مع التهديد السابق، يرسم صورة التحرك الروسي من مدخل وطني ومصلحي، مدخل يفترض ان يكون جزءا من التعامل المصري ورد الفعل قبل مقولات التخوين والعمالة والمؤامرة. والأكثر أهمية ضرورة أن ندرك أن الدول لها خطاب مختلف عن صراعات الشوارع أو خلافات الاسرة والاصدقاء، كما ان ما يحكم العلاقات بينها يختلف عن علاقات الحب والكراهية ويتعمق في شبكات المصالح والسلطة والأمن القومي وبقاء النظام أو الدولة.
في حديث استراجون وفلاديمير في رائعة صموئيل بيكيت «في انتظار غودو» وبعد أن يدور الجدل بينهما حول حقيقة حضورهما إلى المكان نفسه في اليوم الأسبق من عدمه، يتساءل استراجون عما فعلوه في اليوم الأسبق ليرد فلاديمير مكررا السؤال، ويقول استراجون في رأيي كنا هنا. وبدورنا يمكن أن نردد أننا كنا عند الشجرة مرات ومرات في انتظار ثمار الإصلاحات وشد الحزام، ولكن الشجرة ظلت جافة للعموم ومثمرة للبعض، وظل الانتظار بدون وصول. وإن كان الانتظار فيه بعض الأمل إلا أنه في تلك الحالة فيه بعض اخلاء المسؤولية التي تجعل التفويض وسيلة البعض للانتظار المفتوح لوطن يحاول البعض إغلاقه باسم حمايته وخنقه باسم إعادة الروح فيه. ولكن دروس التاريخ التي يغيبها البعض عمدا تؤكد أن لست وحدك تمتد لخطاب الإصلاح والحرية أيضا، لأن العالم يتحرك للأمام، وفعل الثورة الكاشف عن مساوئ الواقع يتجدد في كل كارثة بالتوازي مع محاولات السلطة تجديد ذاتها وخطاب تفويضها.
٭ كاتبة مصرية

عبير ياسين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سمير الإسكندرانى........لابد لليل ان ينجلى:

    تحية طيبة للسيدة عبير وحمدلله على السلامة بعد الغياب ؛
    مقال معبر ، غاية فى الوضوح ، وكما هى العادة جميل فى التعبير ..
    فقط ملاحظة صغيرة ، فى مدينة الاسكندرية هم لم يحملوا المسؤولية على الامطار ، ولكن كما هى العادة منذ انقلاب الدكر وميليشياتة الاعلامية المسؤولية للاخوان المسلمين !!!
    قالوا ان هناك تنظيماً اخوانياً مكون من 17 شخص ، اسموة تنظيم البلاعات ، قاموا بسد جميع البلاعات فى مدينة الاسكندرية بالخرسانة المسلحة !!
    17 شخص يسدوا كل بلاعات الاسكندرية !!!
    طيب كانوا فين الشرطة ؟؟ !
    يسقط حكم العسكر واوهام العسكر وعبيد العسكر !

  2. يقول R. Ali:

    لست وحدك حبيبها – اغنية للمرحوم عبد الحليم حافظ – مع الإعتذار! أخي المواطن المصري “على لسان حكومة العسكر” لست وحدك فالكوارث تحدث كل يوم وفي كل مكان والفقر والمرض والقتل بدم بارد والسجون والمحاكم الجاءرة والقضاة المسيّسة والبطالة والاختفاء القصري والغلاء الفاحش شيء عادي جداً والطائرات تسقط بركابها ويحدث في العالم ما هو أسوء وعيب الي بتعملوه فيا وحرام عليكم وهشكيكم للشعب ياشعب … كفاية عذبتونا ربنا يريحنا منكم ومن أشكالكم “على لسان السيسي” كل هذه الهفوات … طبعاً!

  3. يقول زياد - الاردن:

    مقال رائع يستحق الوقوف عنده مطولا واتمنى على الشعب المصري ان يقرا ويستمع الى مثل هولاء الاعلاميين الشرفاء الذين همهم هو همكم وحتى لاتلتبس الامور عليكم في ظل اعلام الطبالين في القنوات المؤيده للانقلاب والتي ترمي لكل ماهو هادم لمصر ولفكر اهل مصر اعيد واكرر ياشعب مصر اياكم واعلام الطبالين حتى لاتنطبق علىكم مقولة وزير اعلام المانيا جوزيف جويلز زمن هتلر عندما قال ( اعطني اعلاما بلا ضمير اعطيك شعبا بلا وعي ) .

  4. يقول . Ali. A Japane:

    Wow wow wow I had nover. enjoy anyone like You. I did today thank you thank you

إشترك في قائمتنا البريدية