ما زالت أصداء الحفل الصهيوني بمناسبة تأسيس دولة الاستيطان يثير استغراب القوى الوطنية والسياسية؛ بما أحاطه من إجراءات مشددة بالقرب وحول مكان «الحفل»، في قلب القاهرة، وانتشار قوات أمن؛ علنية وسرية في الشوارع المحيطة بالمكان، وفي ساحته الخارجية. وسُمح بالتوجه لقاعة الحفلة لحَمَلة بطاقات الدعوة فقط. وكان تحديا واضحا للمشاعر، وكان عدم الاكتراث بأي رد فعل مضمون رسالة هذا «الاحتفال» بذكرى النكبة وبانتقال السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، وأهم ما في هذه الرسالة هو ما قاله السفير الصهيوني في كلمته: «نلاحظ التغيير في معاملة الدول العربية لإسرائيل؛ لا تعتبرها عدواً بل شريكا في صياغة واقع جديد أفضل في المنطقة.. يستند إلى الاستقرار والنمو الاقتصادي»؛ حسب ما ورد على موقع السفارة على وسائل التواصل الألكتروني.
وبدا الاستفزاز من إقامة «احتفال» بتلك الصورة بعد انقطاع دام سنوات عقب اقتحام متظاهرين لمبنى السفارة، التي أغلقت أبوابها في تشرين الثاني/نوفمبر 2011، ورحل طاقمها عن مصر.. وإلى ما قبل الاقتحام كانت المناسبات الصهيونية تقام في المقر الرسمي للسفارة أو في بيت السفير.. واعتادت السفارة نشر أسماء الحاضرين من مسؤولين رسميين وغير رسميين.. لكن هذا الاعتياد اختلف هذه المرة واتخذ شكلا آخر.. قد يعبر عن طبيعة علاقة الثقة بين «المشير» وبنيامين نتنياهو ودونالد ترامب، وسخاء «المشير» المجاني ووقوفه إلى جانب رفض الحقوق الوطنية والعربية والدينية والإنسانية في فلسطين وفي المناطق الواقعة تحت الاحتلال، وما في حكمها؛ كلها مهددة بالضم من أجل استكمال الامبراطورية الصهيونية، إذا ما تمت «صفقة القرن» الملبية لمطالب الحركة الصهيونية ومباركة الرياض وأبوظبي والقاهرة، ومن يدور في فلكهم.. ودعم أمريكي مطلق.
وهذه ظروف كاشفة لتحركات صهاينة عرب بما فيهم الصهاينة المصريين، وبدوا عناصر غالبة ونشطة داخل قصور الحكم ودواوين الإدارة، وبين كثير من رجال المال والسياسة والاقتصاد والثقافة والفنون والآداب والإعلام والسياحة، وضمن رجال المصارف وشركات التأمين والبناء الكبرى في أنحاء «القارة العربية» وهؤلاء يعيشون أزهى عصورهم، ورغم قوتهم الظاهرية والمعلنة أحاطت السفارة الصهيونية بالقاهرة «الحفل» بالغموض، ولم تعلن عن أسماء الحضور وصورهم، واكتفت ببث صور السفير ومن معه من الدبلوماسيين، وكبير الطباخين (الشيف) الذي حضر خصيصا لإعداد كعكة «الاحتفال» وأطباق الطعام الخاصة بالمناسبة. والتقاط صور غير واضحة للضيوف، والتمويه على وجوه معظمهم.. وهكذا أضحت نكبتنا يوم عيد كبير لهم.
ومن الذين حضروا الحفل وتسربت أخبارهم شخص اسمه علاء عرفة، وتُجمع المصادر التي استقينا معلوماتنا منها أنه «حسين سالم جديد»؛ كاتم أسرار أسرة مبارك، وحامل صندوقها الأسود في تعاملها مع الدولة الصهيونية، وسمسار ضخ الغاز المصري إلى تل أبيب.. وفوجئ الرأي العام المصري بتوقيع علاء عرفة على صفقة لاستيراد الغاز من الدولة الصهيونية بـ15 مليار دولار على مدار 10 سنوات، وهي من علامات الشك الكبرى في مصداقية «حكومة المشير»، وادعاءاتها بأن حقل «ظُهر» يحقق الاكتفاء الذاتي لمصر من الغاز.
ونشير هنا إلى أن كل أشكال التطبيع التجاري والمالي مع الدولة الصهيونية قد توقفت بعد ثورة يناير 2011، وتوقف معها ضخ الغاز المصري إليها، ولجأت شركة الكهرباء الصهيونية للتحكيم الدولي وحصلت على حكم بتعويض قدره 1.76 مليار دولار، وبدا الأمر واضحا أن أولاد عرفة حلوا محل آل حسين سالم، وعقدوا صفقة ضخمة أعادت التطبيع التجاري والمالي إلى حجم أكبر مما كان قبل الثورة، وأحمد عرفة كان رقيبا (أومباشي) وزميلا لحسني مبارك في كلية الطيران، ويمتلك أحمد وعلاء وأشرف عرفة مجموعة «غولدن تيكس»؛ امبراطورية لتصميم وصناعة الملابس الجاهزة واحتكار أشهر توكيلات الملابس والتصميمات، وهذه المجموعة كانت مدينة للمصارف بـ4 مليارات جنيه، ولم تُسَدد.. وساعدها جمال مبارك في تأجيل استصدار قرار فتح باب استيراد الملابس الجاهزة تطبيقا لاتفاقية «الغات»؛ حماية لأولاد عرفة من المنافسة الخارجية، ومقابل ذلك استحوذ مبارك الصغير على حصة مجانية قدرها 30٪ من القيمة الفعلية للمجموعة. وكشفت تقارير صهيونية عن توقيع «خطاب نوايا» لتصدير الغاز لمصر لحساب تحالف غير حكومي يقوده أولاد عرفة في أكتوبر 2014. وصادق وزير الطاقة الصهيوني في كانون الأول/ديسمبر 2015 للشركات العاملة بحقل «تمار» الصهيوني على تصدير الغاز لمجموعة «دولفينوس» المصرية المملوكة لمجموعة عرفة.
وأصبح لـ«صندوق تحيا مصر» التابع لـ«المشير» نصيبه من عائد صفقات «مجموعة عرفة»، ففي آب/أغسطس 2014 استقبل إبراهيم محلب، رئيس مجلس الوزراء علاء عرفة، وقدم له تبرعا بـ 20 مليون جنيه لصالح «الصندوق»، وتسلم محلب مبلغ 5 ملايين جنيه، ويتم دفع الباقي على دفعات خلال سنتين. وأكد محلب، خلال اللقاء، «ثقته الكبيرة في أبناء الشعب المصري كافة، وأنهم سيقفون بعزيمة وإصرار وتضحية لإعادة بناء وطنهم من جديد»!!
ومن بين من حضروا «الحفل» كذلك مقاول ومالك مجموعة عقارية كبرى؛ هو هشام طلعت مصطفى، وذاعت شهرته بسبب قربه من جمال مبارك ووالدته، وأشيع أن السيدة سوزان مبارك في مقام خالته، وأعطاه ذلك قوة تجاوزت ما أعطته الثروة حسب ما نشرت «المصري اليوم» في 04/ 09/ 2008، وقت أن كان يقضي فترة الحبس الاحتياطي؛ على ذمة مقتل الفنانة اللبنانية سوزان تميم. ووجد شراكة ودعما قويا من مستثمرين سعوديين وخليجيين، وهم بوابة ملكية للتطبيع، وانفتحت أمامه أبواب الاستثمار في الأسواق السعودية والخليجية، وكثير من المستثمرين في هذين السوقين يحتفظون بعلاقات علنية وسرية بشركات ومؤسسات صهيونية.. وأضحى هشام مصطفى ركنا من أركان التطبيع الكبار.. وكان دائما على رأس قوائم المدعوين لحضور هذه المناسابات.
وكان هشام مصطفى قد أحيل إلى محكمة الجنايات في قضية سوزان تميم، وقضت بإعدامه هو وشريكه في الجريمة؛ محسن السكري، ضابط مباحث أمن دولة، وتم نقض الحكم وأعيدت المحاكمة وخُفف الحكم إلى 15 سنة له والمؤبد لشريكه في الجريمة، ثم خرج مصطفى بعفو رئاسي، وعاد لممارسة نشاطه في عالم المقاولات والمال والصفقات.. وفور انتشار خبر الإفراج عنه ثارت مواقع «التواصل الألكتروني»، وأعرب كثير من روادها عن دهشتهم من شموله بالعفو رغم ثبوت الإدانة في قضية القتل، وهي نفس الدهشة التي حدثت بعد عفو «المشير»، الأربعاء قبل الماضي على «صبري حنا نخنوخ»، وهو من أكبر زعماء عصابات البلطجة، وكانت وزارة الداخلية تستعين به في ترويع المتظاهرين والاعتداء عليهم منذ عام 2005، ومارس نفس الدور إبان ثورة يناير 2011، وضبطت الشرطة في مزرعته ترسانة أسلحة ثقيلة ومتوسطة وخفيفة وحيوانات مفترسة في 2012، وصدر ضده حكم بات بالسجن المؤبد عام 2014، ومِثْل هؤلاء مشمولون بالعفو الرئاسي دائما؛ تحديا لأحكام القضاء الباتَّة والأدلة الدامغة؛ أما الثوار والشباب والطلبة المتهمون في قضايا الرأي والتظاهر محرومون من الاستمتاع بمثل هذا «الحنو الرئاسي»!!.
ولا زال الملف مفتوحا.
٭ كاتب من مصر
محمد عبد الحكم دياب