لا جدال في كوننا نعيش لحظة تشوش ظاهر، واختلاط هائل في الصور المتلاحقة.
وفي لحظات التشوش واضطراب الرؤية وزحام الغبار الكثيف، تزيغ الأبصار.. تتراكم الأخبار والمعلومات وتضيع المعارف المجمع عليها، ويكون بوسع أي أحد أن يدعي ما يريد، وأن يؤلف قصته الشخصية، وبحسب المزاج النفسي، أو الهوى الأيديولوجي، ويصير ممكنا تطبيق قاعدة عبثية قديمة، تقول ببساطة: إعطني أي عدد من الكلمات والحروف، وأنا كفيل بأن أصنع لك منها ما تريد، قطة أو فأرا بحسب الطلب.
والتشوش عظيم في المنطقة العربية، فثمة مخاض مرعب، الثورات الجديدة تعاني اختناقاتها، وبحور الدم تغلي وتفيض في حروب أهلية مجنونة، وجولات قطع الرؤوس تنافس مباريات كرة القدم، والتفتيت اللامتناهي سمة اللحظة، فقبل مئة سنة تقريبا، كانت اتفاقات سايكس ـ بيكو، التي قسمت الأمة جغرافيا إلى أقطار، بالورقة والقلم، والآن تجري التجزئة الأفدح، فالأقطار يجرى تقسيمها إلى أمم صغرى، وسكاكين الأعداء القريبين والبعيدين سالكة فينا، والأمة العربية في غربة عن الزمان والمكان، والإسلام عاد كما بدأ غريبا، ولم يعد إسلام النبي العربي الأمين، بل إسلام «الدواعش» والإخوان ومساخر انتحال الخلافة.
وفي الداخل المصري مركز المنطقة، يبدو الوضع مثيرا للتشوش، ولن تعدم اختلاط الصور، ومن يقول لك ـ بثقة ـ اننا عدنا كما كنا زمان مبارك، أو أن ما يسمى «ثورات الإخوان» قد تفسح لها الطرق، وهي استنتاجات عقيمة تقود إليها غواية القص واللصق، فوجود مظاهر قمعية يكفي عند البعض لتصور العودة إلى ما قبل الثورة، وتضخيم تظاهرات الإخوان الميكرسكوبية، يكفي عند آخرين لتوهم احتمالات نجاح ثورتهم المزعومة، بينما لا هذا ولا ذاك، مما يبدو، دقيقا ولا صحيحا، فالإخوان ليسوا قوة ثورية، بل قوة ثورة مضادة بامتياز، والقلق الاجتماعي الحاصل الآن في مصر، لا تعبر عنه قيادة الإخوان، فهي جماعة يمينية كاملة الأوصاف، وعقيدتها السياسية والاجتماعية متطابقة مع جماعة مبارك.. صحيح أن الثورة المصرية المعاصرة لم تحقق بعد انتصارها النهائي، وأن ظلالا من اختيارات اللعنة لاتزال في الصورة، وأن الثورة لم تبن بعد حزبها الوطني الاجتماعي الديمقراطي الجامع، ولم تتجاوز عتبة الارتباكات التاريخية، ولم تمسك بعد بالسلطة كاملة، وعلى نحو ديمقراطي، يكفل فوزا لحزب الثورة الغائب في الانتخابات البرلمانية الوشيكة، التي قد تنتهي إلى برلمان مبرقش كجلد النمر، وبغير قوة حاسمة تدفع للأمام، وبحضور لن تخطئه العين لفلول جماعة مبارك أو فلول حكم الإخوان، كل ذلك وارد جدا، لكنه لا يعني أن القصة انتهت، ولا أن الثورة هزمت، بل سيظل الصراع جاريا، ليس بين الإخوان وحكم السيسي، فقد انعزل الإخوان شعبيا، هزمهم احتراف الكذب السياسي، ويهزمهم اختلاط الطابع التخريبي الإرهابي الصريح بالطابع شبه السلمي لتحركاتهم محدودة الأثر، وهو ما يضيف إلى قوة دولة السيسي.
فالدولة المصرية لا تهزم أبدا في حروب مع جماعات الإرهاب، والصراع الجاري محسوم النتيجة، وهو لا يؤدي سوى دور التشويش على الصراع الحقيقي المؤثر في صياغة المستقبل، وهو الصراع بين الفلول وجماعات الثورة المتناثرة، والأخيرة لا تبدو موحدة ولا مبلورة بما يكفي، وإن كان الفرز جاريا في صفوفها، بغاية بناء قوة ثورية مؤثرة جماهيريا، وهي عملية قد تستغرق سنوات، لكن المستقبل لها بالتأكيد، المستقبل لقوة وطنية اجتماعية ديمقراطية، تتشكل في صورة حزب جامع، أو في صورة تحالف لعدة أحزاب، يلزمه وجود عمود فقري ناظم، ينهي قصص الاحترابات الصغيرة، ويعيد سيرة الارتباط بجوهر الثورة المحاصرة، وباختيارات بديلة تجمع اختيارات الديمقراطية إلى الاستقلال الوطني والتصنيع الشامل والعدالة الاجتماعية، وتصل ما انقطع مع سيرة «كفاية» وأخواتها، فقد كانت كفاية ـ بحق ـ هي أم الثورتين، عارضت بذات الثبات حكم مبارك ثم حكم الإخوان، وامتازت بنسيجها الثوري الوطني الواسع، والمطلوب الآن بناء حزب على مثال كفاية، لكنه لا يكتفي بأداء أدوار الاحتجاج والإلهام، ولا بقوة الفكرة والدعوة وحدها، بل بقوة الارتباط المرئي مع القواعد الشعبية الأوسع، التي صنعت معجزة ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، وتجاوبت مع حملة «تمرد» البنت العفية لحركة كفاية، وقادت أعظم خروج ثوري في هبة 30 يونيو/حزيران 2013، فقوة الناس هي الأساس، وقوة الناس هي الضمانة العظمى للثورة، وقد تغير مزاج المصريين إلى الأبد، وخُلق وعي جديد في صفوف كتل شعبية بعشرات الملايين، وهؤلاء هم «حائط الصد» ضد أي تراجع أو انتكاس إلى ما قبل 25 يناير، أو إلى ما قبل 30 يونيو، وهم ضد الفلول وجماعات الإرهاب معا، وقد تتشوش الصورة عندهم بتداخل الخطر الإرهابي مع قمع الدولة الأمنية، وهو تشوش يبدو موقوتا جدا، رغم غباره الكثيف، ولا يحول دون رؤية الحقيقة كما هي، فالثورة قد لا تكون حققت نصرا كاملا بالضربة القاضية، لكنها تنتصر بالنقاط في حرب سياسية واجتماعية عظيمة الشراسة.
وصحيح أن الدستور الجديد يعطي البرلمان سلطات واسعة نسبيا، وإلى حد إمكانية عزل وسحب الثقة من رئيس الجمهورية بأغلبية الثلثين، وهذه ضمانة للحد من تغول سلطة الرئيس المنتخب، غير أن هذه السلطات الواسعة تبدو مقيدة جدا مع التشكيل المتوقع للبرلمان الأول المقبل، فلن تكون فيه ـ كما نقدر ـ قوة حاسمة متجانسة، ثم انه لن يكون ـ كما نقدر ـ برلمانا له من صفة الثورة نصيب كبير، وهو ما قد يجعل صلاحيات البرلمان محدودة في الممارسة الفعلية، ويضيف عمليا إلى سلطات الرئيس السيسي بشعبيته الاستثنائية، التي تأثرت قليلا بإجراءات الرفع الجزئي لدعم الطاقة، وبهدف تقليل عجز الموازنة المتفاقم، وزادت في المحن الاجتماعية للفقراء والطبقات الوسطى، وهم أغلبية المصريين الكبرى، وقد احتمل هؤلاء قسوة الإجراءات إلى الآن، مع ما صاحبها من انهيار الخدمات وانقطاعات المياه والكهرباء، على أمل لا يزال موصولا في نهوض يجيء، وفي عدالة اجتماعية ترد الحقوق المنهوبة للبلد وأهله، وفي انتظار ضربات السيسي لطبقة النهب العام والفساد البيروقراطي المستفحل، وقد بادر السيسي بتوجيه ضربة رمزية مؤثرة لفساد الإدارة العليا، وقرر التطبيق الصارم لقواعد الحد الأقصى للأجور، وفي كل المؤسسات العامة بغير استثناءات، وهو ما ولد حالة تربص بالسيسي عند الفاسدين، تكاد تتزاوج مع تربص مليارديرات المال الحرام بخطوات الرئيس، وامتناعهم عن تلبية مناشداته بدفع نصيبهم لصالح صندوق «تحيا مصر»، الذي يستهدف السيسي الوصول برصيده سريعا إلى مئة مليار جنيه على الأقل، بينما لم تدفع المليارات بعد، وهو ما دفع السيسي إلى الانتقال من مرحلة المناشدة إلى مرحلة الإنذار، وقالها بوضوح لمليارديرات النهب، وعلى طريقة «هتدفعوا يعني هتدفعوا»، والإنذار مفهوم، فلدى الرئيس السيسي، ولدى أجهزته المخابراتية والرقابية، ملفات هؤلاء جميعا، وما عليه سوى أن يوجه ضربته الكبرى التي ينتظرها الشعب، ولو فعلها، ونظنه سيفعل بمشيئة الله، فسوف تصل شعبية السيسي إلى ذرى لم تصلها من قبل، فلن تنفع مع هؤلاء محاكمات عادية لا تصل إلى نتيجة، وهؤلاء يملكون كل فضائيات الإعلام الخاص، ويملكون غالب الصحف الخاصة، ويتصورون أن بوسعهم ترويض السيسي، بينما الرئيس هو الطرف الأقوى بشعبيته، وبأمل الناس فيه، ويملك أن يطيح بالسارقين، وأن يسترد ثروات البلد المنهوبة، أن يسترد مئات المليارات لا مئة مليار جنيه فقط، وأن يكون ثروة عامة يبني بها مصر الجديدة، التي هلت بشائرها مع البدء العفي في تنفيذ مشروع تنمية قناة السويس، ومع النية الظاهرة في تشغيل مصانع القطاع العام المتوقفة، ومع مشاريع استصلاح أربعة ملايين فدان جديدة، وكلها تستحق استنفارا عاما بالاكتتاب الشعبي، وبشرط أن يترافق إنجاز الرئيس مع انحيازه للطبقات الشعبية الواسعة، فالزعامة الحقيقية إنجاز وانحياز، وقد أثبت السيسي بضرباته المتلاحقة في الداخل والخارج، أنه مشروع زعيم حقيقي، بأكثر من كونه رئيسا منتخبا بأغلبية ساحقة.
وباختصار، مصر هى المعيار، وهي القضية المركزية للأمة في لحظة التشوش الراهن، وهي تقوم الآن من رمادها وتبني مجدها من جديد، وهذا هو الفارق النوعي الحاسم بين ما كان وما يكون.
٭ كاتب مصري
عبد الحليم قنديل
ناسف لعدم النشر بسبب طول التعليق
مصر تختنق فى رمادها وتتجرع خيبة أملها
(أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)
انت مبهور ومساند لرئيس غير شرعي، المليارات سوف يلتهمها السيسي واعوانه
مع كامل احترامي لكل كتاب و قراء هذه الجريدة وجرائد اخرى. لانه يعترني بوءس شديد لكوني عربي نشأت في وسط مختلط بين ءامازيغي وعربي (وكم أحب الامازيغ: الناس الاحرار). وترعرعت في وسط غربي بين فرانكفوني وءانكلوسكسوني(لا فرق على اي) لكن ما يحيرني هو هذا النوع من الكتاب اللذين يحسنون الكتابة أفضل مني. والله لاننا أمة في الاندثار. فكيف لمرء ان يتبجح لخاءن أمانة على مرءى 300 مليون بشري او اكثر من العرب (ثم انني لست لا باءسلامي ولا علماني ولا غير ذلك)
الله يرحمك ياءمة
المرجو النشر
الاستاذ قنديل : أنت تعيش في الاوهام ، حكم العسكر والقتل والظلم وسجن البشر وتعذيبهم وقهرهم ، وما أخبار من تم قتل أبنائهم واخوانهم ؟ هل هم حشرات ؟
هذا نكران للواقع المصرى لامثيل له ، ثورة يناير أنتهت بالكامل ، والعسكر عادوا للحكم ومن يقول غير ذلك يعيش فى عالم من الخيال هو وحده صانعه . وضع الحريات فى مصر أسوأ من أى فترة دكتاتوريةً فى تاريخها وأسوأ من أى عهد إستعمارى ، الناس تموت بصفه يوميه ، صحافه وإعلام سئ لابعد االحدود، قضاء أجمع العالم بأسره بأنه فاسد، جهاز شرطه فاسد ، عن أى ثورة تتحدث لد ماتت ٢٥ يناير منذ الإنقلاب المشئوم ، للناس عقول يستطيعون بها تمييز الطيب من الخبيث ، إذا كانت المظاهرات هزيله وهى مستمره منذ عام فلماذا تقمعها السلطات ؟ بل تقتل المتظاهرين، مصر دخلت فى نفق مظلم .
سيثبت السيسي قريبا أنه بطل قومي وزعيم من طراز عبد الناصر ومانديلا وغاندي … يكفي أن لديه شجاعة اتخاذ القرار الصائب وترويض المليارديرات لتحقيق الاكتفاء الذاتي وبناء قناة السويس الثانية واستصلاح ملايين الأراضي وبناء آلاف الوحدات السكنية للفقراء وغيرها .. هو من يتخذ القرار وليس صبيا عند أحد (مجلس الإرشاد/ قطر/ أمريكا) .. يكفي أنه أعاد هيبة الدولة ومكانة الرئيس بعد أن ضاعت أيام المعزول الله لا يرده .. امض يا ريس في الإنجازات .. فالقافلة تسير .. وستظل تسير
نحبك ككاتب شريف ونلاحظ تغييرا في توجهك نحاول ان نحسن الظن فيه على كل معظم العرب ولن اتطرق لأخواني المصريين لا يرون ما ترى وهم الذين لهفت قلوبهم لعبدالناصر واحبوه حتى اكثر من المصريين ولكن لا يبادلون السيسي نفس المشاعر ولا يرونه الا استمرار لمشروع مبارك واظن ان هناك كثير من القرائن التي تثبت هذا الرأي ولنرى
للاسف مصر اليوم,تتكون من شعبين الاول هو شعب السيسي المؤلف من الاعلاميين والمطبلين والنخب السياسيه المعروفه والفلول والمخدوعين والقضاة المسيسين واصحب رؤوس الاموال , اما الشعب الثاني فهم جماعة الاخوان المسلمين ومن ناصرهم وغلابى الشعب المصري وهم كثر.الشرطه تقمع المتظاهرين وتقتلهم ,في مظاهرات الاخوان الميكروسكوبيه, بحيث تخوف كل من تسول له نفسه التظاهر,وذلك لا يحدث حتى في اكثر دول العالم تخلفا وشوفينية المتظاهرون, على قلتهم ,يمثلون اشجع ما في مصر لانهم يغامرون في حياتهم امام بطش السلطه. ان ما يجري في مصر لا يوحي بالنهوض وانما بالغوص في بحار من الوحل مع الاسف الشديد.
ان الله لا يصلح عمل المفسدين / ما حصل في مصر من انقلاب على الشرعية وما تبعه من قتل واعتقالات وتشريد واغتصاب ومصادرة للممتلكات والاموال ونشر للاكاذيب والشائعات الباطلة بحق الفئة الراقية والمحترمة من الشعب والاستخفاف والتهديد لبقية الشعب انما هو افساد كبير في مصر الحبيبة الغالية من قبل اصحاب المصالح غير المشروعة وابقاء لمصر في نفق مظلم من التخلف والتبعية . اعانك الله يا مصر .