ليس كالفتنة الكبرى حدث، خاصةً تفاصيل الصراع بين عليٍ كرم الله وجهه وبنيه من ناحية ومعاوية، فهو بحق يعد الحدث الرئيسي والمؤسس لا للفرق الإسلامية ومن ثم المذاهب فحسب، بل لرؤىً وتصوراتٍ جد متباينة عن الإنسان، عن قيمته وحقوقه السياسية والاجتماعية، عن طبيعة السلطة في الإسلام وفق قراءة التيارات المختلفة واستنباطها وجدلها مع النصوص، وكما لم تنِ تلك النصوص تزداد وتتراكم حتى أضحت ثقلاً مبهظاً كالجبال على كاهل الأجيال اللاحقة، كذلك الحال مع تلك الرؤى والطروحات، التي لم تن تزداد تعقيداً وعمقاً وتركيباً لم يخفف من حدتها ما تسرب إليها من أساطير، وما التحفت به من أوهام تشبث بها أصحابها تعضيداً لمواقفهم، لاسيما حين تطلبت الخطوب تضحياتٍ جسيمة أفنت آلافاً.
أيضاً ليست كزمن الفتنة الكبرى حقبةٌ تشحذ الذهن وتمتع بالقراءة، لذا فليس من عجبٍ أن المهتمين بها ما يزالون يعيدون القراءة عنها وفيها، متعمقين مقلبين أحداثها وحواراتها على شتى الأوجه، ولم تعدم من يكتب عنها أعمالاً ضخمة تتفاوت في الأهمية عبر الحقب.
هي حدثٌ سياسيٌ بامتياز، بل الحدث بأل التعريف، ملأى بالمراوغات والمناورات السياسية، وبستر النوايا ومواراة الأغراض وراء ستارٍ من المبادئ السامية، بشراء الضمائر والرشى بالمناصب والجاه والمال. من جملة ما حفلت به الكتب حوارٌ مدهشٌ دار بين عمرو بن العاص ومعاوية، داهيتي العرب، واثنين من أبطال تلك الرواية وشخوصها المحوريين.
دخل عمرو بن العاص على معاوية فوجده يقص على أهل الشام ويذكرهم بالشهيد؛ لعلهم تأثروا، لعلهم بكوا وشعروا بمدى ما لحق بعثمان، الشيخ القريب بالنسب والعاطفة من الرسول، من عسفٍ وربما ظلمٍ، لكن شيئاً من ذلك لم يمس عمراً أو يثنه عن مقصده، لم يغيم رؤيته الثاقبة لطبيعة الصراع وغرض كل طرفٍ منه، كما لم تشب تفكيره عاطفةٌ ولم تغير حساباته، بل قال لمعاوية وفق الروايات: «يا معاوية قد أحرقت كبدي بقصصك، أترى إن خالفنا عليا لفضلٍ منا عليه، لا والله، إن هي إلا الدنيا نتكالب عليها، أما والله لتقطعن لي من دنياك أو لأنابذنك، فأعطاه مصر».
جدير بالذكر أنه قبيل ذلك كان حائراً فاستشار ولديه، وفي حين أن عبدالله أشار عليه باعتزال الفتنة فإن محمداً قال له: «أنت نابٌ من أنياب العرب، وما ينبغي أن تبرم الأمور وأنت متخلف» ثم أشار عليه باللحاق بمعاوية، وهكذا فعل.
لم تكن لدى الرجل أية أوهام، على الإطلاق، كان يعرف ما يريد، كما يعرف ما يريده معاوية، والاثنان فهما بعضهما بعضا جيداً، فاتفقا. كان يدرك أن مصالح كبيرة وضغائن وأحقادا دفينة ومتوارثة وراء كل ذلك الكلام، وأن عثمان لم يبق منه سوى قميصه، ذاك الذي يتاجر به معاوية، ولن يلبث أن يلقيه جانباً بعد أن ينتهي الغرض منه، ولعل عمراً بذكائه الحاد أدرك ما كان يدشنه معاوية في التاريخ المتعارف عليه بالإسلامي: خلق الروايات والمرويات لأغراضٍ سياسية، لإخفائها.
ربما ما تغير هو نوعية اللاعبين السياسيين، القماشة وفق المقولة الشعبية الدارجة، فمعاوية وبن العاص، أياً كان الرأي فيهما، لاعبان خطيران ثقيلان محنكان وسياسيان مدهشان، شخصان يستحقان أن يذكرهما التاريخ. أما طغاة العالم الثالث وتنابلته، خاصةً في مصر الآن، فلا مكان لهم في متن التاريخ، ولو جاء لهم ذكر فلن يكون أكثر من سطرٍ في ما يحفل به السجل من نماذج الرداءة. الاستثناء الوحيد أن يأتي أحدهم بكارثةٍ تخلده، وأرجو أن يحدث شيء يمنعهم من ذلك فهم منه قريبون.
لقد أطل علينا الفريق سامي عنان هو الآخر باغياً العودة إلى الساحة السياسية، عفواً، الفريق مُستدعى، خرج من السرداب أو نزل من على الرف، وأطلق في الفضائيات ذلك الحديث الذي سمعه الكثيرون. لم يعتبر بما لحق برفيق سلاحه الفريق شفيق فعمد إلى دغدغة مشاعر الناس بتعظيمهم وذكر الأزمات العالقة والكوارث التي تورط فيها السيسي، فكان من بين ما ذكر الإرهاب والدور المتغول للجيش في الاقتصاد. غنى على موال الوطنية، وكان يحسب أن رتبته ستحميه. واهماً كان كما أثبت اعتقاله السريع، ولم يلبث طبالو النظام أن تفننوا في لعنه والتنقيب في ملفه لتعرية أوجه قصوره، وبالطبع رفعوا قميص الوطن والجيش الحامي المكافح للإرهاب، الذي يسعى بإعلان ترشحه تمزيقهما، وتباكوا على شبه الدولة التي يهددها. بيد أن اللطيف في الأمر هو تلك التخريجة البهلوانية القانونية التي تفتقت عنها أذهان قيادات المؤسسة العسكرية.
للأمانة لن أنكر دهشتي من سرعة تدخل النظام ومن مقدار خشونته، إلا أن مضمون التدخل لا يدهش مطلقاً. فقد أكد السيسي مرةً أخرى، وبما لا يدع مجالاً للشك والأوهام أن قواعد اللعبة تغيرت، وأن اعتباراتٍ سابقة كانت تؤخذ بعين الاعتبار قد حطمت وديس عليها بالأحذية العسكرية الثقيلة، كالرتبة والأقدمية والتاريخ العسكري.
أما عن طبيعة الصراع فلم يكن لديّ أوهام أنا الآخر، فوراء غلالة الوطنية الرقيقة المهترئ أغلبها ليس هناك سوى صراع مصالح وطمع، فالفريق عنان لم يكن يوماً ثورياً ولم يرحب بثورة يناير، وكلهم في العداء لمطالب الثوره سواء؛ غاية ما هنالك ربما هو اختلاف في الدرجة في ما يخص الفظاظة والقسوة والعنف، وإني لأرجح أن ثلةً من أصحاب المصالح زينوا له الأمر، مقنعين إياه بأنه «نابٌ» من أنياب المؤسسة العسكرية، ما لقي هوىً وربما تطلعاً من نفسه.
لكن ما حدث في النهاية مفيد، فهو يسقط ما يمكن أن يكون باقياً لدى البعض أو نشأ لدى البعض الآخر من أوهام عن أي مساحةٍ لم تزل مفتوحة للحركة أو لاحتمالات التغيير السلمي من داخل النظام ومن على بسطات سلمه العسكري، أو التصور الساذج في رأيي بالتشبث بهذا الضابط أو ذاك، فهم لا نية لديهم للمشاركة السياسية، لذا فمن هذا المنطلق أدعم قرار الأستاذ خالد علي بالانسحاب. لم يكن لديّ (وربما لديه ولدى جل المنضمين لحملته) وهمٌ باحتمال فوزه، وإنما كنت أعتبرها فرصةً للحشد ومساحة ً لتعريف الناس بالبدائل المدنية والتواصل معها، من طرح أنفسنا على الناس، من المران على التعبئة والتواصل والحراك المنظم لهدفٍ وسط الناس. لكن بعد ما حدث مع الفريق عنان تبدى ما وصل إليه النظام من هوسٍ ومدى نجاح السيسي عن طريق إحلال رجاله الموثوقين في الأماكن القيادية في الجيش واسترضاء رجاله عن طريق رفع الرواتب والمصالح الاقتصادية التي خصهم بها وعرَّض بها الفريق عنان جلياً. لقد تأكد أنها ستكون الانتخابات الأكثر عبثيةً وهزليةً في التاريخ الحديث على ما عرفت مصر من عينتها.
من ناحيةٍ أخرى، فقد حرمنا السيسي بسرعة انقضاضه من متعة مشاهدتهما وهما يفضحان بعضهما بعضا، ويكيل كلٌ منهما للآخر التهم، فاختلافهما كان سينزل برداً وسلاماً على آذان كل الناقمين، كما كان من المحتمل أن يكشف فضائح لم تصلنا رائحتها بعد، وهو أمرٌ جد مفيد.
اختلفت مع السيسي حين وصف الدولة المصرية بشبه الدولة، فهي أكثر تهالكاً وتآكلاً من ذلك، لكن ذلك الهجوم الكاسح على عنان بغلظته وفجاجته يسقط عنها تلك المخايل التي كانت توحي للعالم بأنهم مازالوا يراعون ولو شكل الدولة الحديثة.
كما أن تلك الضربة الاستباقية تطرح بعض الأسئلة: هل مازالت هنالك تلك العينة من الناس بنت الحلال التي تصدق أو تأمل بإمكانية إصلاح هذا النظام من الداخل؟ أنه قابلٌ للإصلاح من الأساس؟ سؤالٌ أخر أهم: متى يتحسس المشاهد رأسه؟ إذا كان هناك من لم يخف فمتى يبدأ في الشعور بالخوف؟
كاتب مصري
د. يحيى مصطفى كامل
مرة أخرى المسألة ليست السيسي او حتى عنان او شفيق. السيسي مجرد طربوش لنظام محكم صاحب المصلحة يتكون من طرف رئيس و اطراف فرعية محلية و خارجية.
وقد وصل هذا النظام الى فكرة التخلص من السيسي كبكش فداء مقابل المحافظة على النظام نفسه كما فعلوا من قبل مع مبارك. و كانت هناك فرصة لاحمد شفيق و عنان و لكن التيار المخابراتي الاعلامي تغلب.
السبب في اخراج شفيق و عنان من الانتخابات هو تجنب كسر الفقاعة الاعلامية الكبرى التي ظنوا انهم خدعوا الشعب بها من حيث الانجازات و استعادة الاستقلال و عودة مكانة مصر الدولية و غيرها من الاكاذيب الكبرى و التي ليس من مصلحة انكشافها. او ان انكشافها سيلحق ضررا اكبر من التخلص من السيسي كفرد.
الدليل على ان النظام الحاكم رأسه خارج مصر هو انه لا يمكن لاي حاكم مصري ان يفعل ما فعله هذا النظام من مجازر و اعتقالات و شروخ اجتماعية و دمار مدن و اقتصاد و صياع حقوق بل دود ومياه و اكبر تزكية يحصل عليها السيسي هو حذاءه الجميل. و ان هذا الرأس الاجنبي للنظام يهمه استمرار مصلحته اولا و اخيرا و من ضمن مصلحته اصلا اصعاف الدول المحيطة به.