في ذكراها الخامسة والستين، لم تزل حركة الضباط الأحرار المصريين، والنظام الذي ولد من رحمها، تثير الاهتمام والجدل والانقسام. ما الذي فعله نظام ضباط الجيش في مصر الحديثة؟ هل أنقذت جمهورية يوليو/ تموز مصر من خراب حتمي كانت تسير إليه، أو دفعتها إلى الانحطاط؟ وهل يمكن، أصلاً، تفسير أحوال مصر الراهنة بما أقدمت عليه مجموعة الضباط الشبان فجر ذلك اليوم من تموز/يوليو 1952؟ لم يظهر المصريون فقدان ثقة في دولتهم وطبقتهم الحاكمة كما أظهروا خلال العقد الأول من هذا القرن، ولا حتى بعد هزيمة حزيران/يونيو 1967 المؤلمة؛ ولم تكن ثورة كانون الثاني/يناير 2011 استفتاء شعبياً حاسماً على وضع البلاد، وحسب، ولكنها كانت محاولة المصريين الكبرى لانقاذ الجمهورية من مصير محقق. ولبرهة قصيرة من الزمن، بدا وكأن المصريين، كشعب وليس كطبقة حاكمة، أنفذوا إرادتهم الجمعية، وامتلكوا قرارهم. ولكن الهزيمة التي أوقعت بالثورة، وبعملية التحول الديمقراطي التي أطلقتها، أعادت مصر من جديد إلى قبضة ضباط الجيش. وربما كانت هذه الدائرة المفرغة ما أضفى على ذكرى 1952 الخامسة والستين معنى مختلفاً.
نشر مايكل مان، أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، في تسعينيات القرن الماضي عمله الكبير، مصادر القوة الاجتماعية، في أربعة أجزاء. ولد عمل مان اهتماماً واسع النطاق، وجهت إليه انتقادات عديدة، وقورن أحياناً بحجم وأثر مشروع ماكس فيبر الفكري في مطلع القرن العشرين. ابتداء من 2012، أعاد مان نشر أجزاء الكتاب الأربعة، بمقدمات طويلة، رد فيها على بعض الانتقادات، اعترف بجوانب قصور ارتكبها، وأوضح بعضاً من الغموض الذي تسلل إلى مقاربته التحليلية، التي تكاد أن تغطي تاريخ القوة وتجلياتها الاجتماعية منذ العصور القديمة وحتى بعد نهاية الحرب الباردة. ما لم أجد خلافاً كبيراً حوله بين مان ومنتقديه كان النظرية الأساسية التي ارتكز إليها الكتاب في أجزائه الأربعة. مصادر القوة الاجتماعية، يقول مان، تنتمي إلى دوائر أربع: الدائرة الاقتصادية، السياسية، العسكرية، والأيديولوجية. ولكن هذه المصادر لا تعمل بصورة متوازية، بل في تفاعل دائم، بحيث يترك كل منها أثراً لا يمكن فصله على الدوائر الأخرى، وينجم عن هذا التفاعل نتائج وتحولات يصعب التنبؤ بها أو توقعها بصورة قاطعة أو حتمية.
فإلى أي حد يمكن يمكن تطبيق نظرية مان الأساسية على جمهورية تموز/يوليو وتحولاتها خلال العقود الستة التي سبقت اندلاع ثورة كانون الثاني/يناير 2011؟
لم يكن الضباط الأحرار، على الأرجح، يقصدون بتحركهم ثورة شاملة واستيلاء سافراً على السلطة. ولكن، وبمجرد نجاح الانقلاب، أدرك الضباط، بالرغم من عقبات محدودة، أن الدولة المصرية دانت لهم، وأن ليس ثمة قوة يمكنها تحدي استمرارهم في الحكم. خرجت الأسرة المالكة من البلاد، بيسر غير متوقع، أبعدت الطبقة الحاكمة السابقة بدون معارضة تذكر، أطيح بجماعة الإخوان، الشريك المبكر ثم المعارض، بعد ذلك، وفرض الصمت على الجماعات الليبرالية الصغيرة بأقدار متفاوتة من القمع.
ولكن الجمهورية أسست على تصور براغماتي، أكثر منه أيديولوجي. التوجه الأيديولجي، القومي العربي، والاشتراكي (المحدود)، لم يتطور إلا لاحقاً؛ كما أن الإصلاحات الاقتصادية، سواء في مجال الملكية الزراعية، أو الإسراع من عجلة التصنيع (التي كانت انطلقت في العشرينات)، لم تؤد إلى تغيير ملموس في البنية الطبقية المصرية. بمعنى، أن الجمهورية استندت إلى مصدرين رئيسيين للقوة: الجيش ومؤسسة الدولة. من قاد الجمهورية، هيمن على مؤسساتها، أمضى سياساتها وبرامجها، كانت بيروقراطية عسكرية ـ مدنية، لم يكن بناء نظام ديمقراطي بين همومها.
الحقيقة، أن العلاقة بين جناحي البيروقراطية الحاكمة، العسكري والمدني، لم تكن سلسة دائماً ولا مستقرة. حتى طوال العقد ونصف العقد الأول بعد تموز/يوليو 1952، حاول عبد الناصر، الزعيم الكاريزمي للنظام ورئيس الجمهورية، إعادة العسكريين إلى الثكنات، وقطع الحبل السري الذي ربط بين الجيش، من جهة، وإدارة الدولة والحياة السياسية، من جهة أخرى. ولكن ليس حتى هزيمة حزيران/يونيو 1967 أن استطاع تحقيق نجاح ملموس في وضع نهاية لدور الجيش السياسي المباشر. ولكن هذا النجاح كان مؤقتاً على أية حال. الأثر الأكبر لهزيمة 1967، على أية حال، كان فرض حدود على المصدر الأيديولوجي للقوى التي تستند إليها الجمهورية، الفكرة القومية العربية، وقيادة مصر للحركة القومية العربية، التي اكتسبتها، بصور حثيثة، منذ نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات. وبتولي أنور السادات مقاليد الحكم، لم يتبق من القوة الأيديولوجية القومية سوى ذكرى شاحبة، تسرع الخطى إلى النسيان.
أرسى السادات، سيما بعد حرب تشرين الأول/اكتوبر 1973، قواعد جديدة لعلاقة البيروقراطية العسكرية بالحكم، تكفل للجيش حصة في النظام، بحيث تعزز الصورة المدنية للجمهورية وتحظر على الجيش ممارسة دور مباشر أو صارخ في الحكم أو الحياة السياسية. ولكن مقعد رئاسة الجمهورية، المنصب الأقوى في النظام على الإطلاق، ظل حكراً على الطبقة العليا من ضباط الجيش. وفي ظل مناخ عالمي متنام من صعود الفكرة الليبرالية الجديدة، حاول السادات صناعة مصدر قوة اقتصادية للنظام باعتماد ما أسماه سياسة الانفتاح الاقتصادي، التي استهدفت دفع دماء جديدة للطبقات العليا المصرية، وتوسيع نطاق الطبقة الوسطى. كانت خطوات السادات الاقتصادية بطيئة وحذرة، نوعاً ما، ولم تصل هذه السياسة ذروتها إلا في عهد الرئيس التالي، الرئيس حسني مبارك. عادت طبقة كبار الملاك وعائلات الطبقة الوسطى العليا من العهد الملكي إلى مقدمة المجال الاقتصادي المصري، ومعها أعداد متزايدة من أبناء البيروقراطية المدنية والعسكرية الجمهورية. بذلك، أصبحت مصر، بالفعل، جزءاً لا يتجزأ من السوق العالمية، وشهدت، وإن لفترة قصيرة، تدفق رؤوس أموال خارجية استثمارية، عربية وأورو ـ أمريكية.
بيد أن النتائج كانت كارثية. فبدلاً من أن تصنع السياسة الاقتصادية الجديدة رفاهية متدرجة، فاقمت من التفاوت الهائل في مستوى المعيشة، والحياة ككل، بين نسبة بالغة الثراء، ضئيلة من السكان، وعشرات الملايين من الفقراء أو ممن هم حتى تحت مستوى الفقر.
ولأن لا السادات ولا مبارك كان جاداً في دمقرطة نظام الحكم، استمر تحكم البيروقراطية العسكرية ـ المدنية في مؤسسة الدولة؛ التي عملت، سواء بفتح أبواب السوق أمام المؤسسة العسكرية، أو باعتماد وسائل استرضاء سخية، على تأمين حصتها في مجال الثروة المتاح والمحدود. في نهاية عهد مبارك، عشية انفجار ثورة كانون الثاني/يناير 2011، كانت مصادر قوة الجمهورية قد عادت إلى ما كانت عليه في الخمسينيات، بعد أن تحللت كلية من القوة الإيديولوجية، خسرت وعود الرفاه الاقتصادي، وأحجمت عن التقدم ولو خطوة واحدة نحو بناء شرعية ديمقراطية. ولكن الفرق بين شعب خمسينيات القرن العشرين والعقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، البنية الاجتماعية للشعبين، علاقتهما بالعالم من حولهما، وحجم طموحاتهما، كان كبيراً. وهذا ما أدى إلى انفجار الثورة الشعبية.
أجهض الانقلاب إمكانية إصلاح الجمهورية، وصنع نظاماً أكثر ضيقاً وتشوهاً من ذلك الذي انتهت إليه جمهورية مبارك. وهذا ما يجعل النظام الجديد أكثر ضعفاً وهشاشة. في ذكرى ولادته الخامسة والستين، يبدو نظام تموز/يوليو، وتبدو الجمهورية، في أسوأ أوضاعها.
٭ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
د. بشير موسى نافع