مصر والأمطار: ما زلنا ننتظر الكوارث وننساها

حجم الخط
0

«جاءت الأمطار مثل ثورة 25 يناير كاشفة لسوء الأحوال التي يحاول البعض التجاوز عنها، أما الخطاب المستخدم فيختلف حسب الهدف المطلوب من اللحظة، فعندما تكون هناك حاجة للتنديد بثورة يناير، وتقديم الشكر للرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، يتم تعظيم الإنجازات السابقة على يناير، ولكن عندما تكون هناك حاجة للتعامل مع كارثة تهدد صورة النظام القائم، تعلو أصوات الدفاع عنه، من خلال الحديث عن الميراث الثقيل».
لم تأت تلك الكلمات تعليقا على الأمطار التي شهدتها مصر في أبريل 2018، ولكن كانت تعليقا على الأمطار التي شهدتها الإسكندرية في أكتوبر 2015 في مقال نشر في المكان نفسه في نوفمبر 2015 عن «اختزال وانتظار الكوارث».
الكارثة التي ارتبطت باستقالة المحافظ ساخرا بتأكيده في خطاب استقالته أن «الإسكندرية تحتاج إلى سباك وليس إلى محافظ»، تبعها، وكما هو معتاد، دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي، مجلس الوزراء إلى اجتماع عاجل، مع التأكيد على متابعته الوضع وتطوراته باهتمام بالغ، وتكليف رئيس مجلس الوزراء باتخاذ كافة الإجراءات اللازمة للسيطرة على الأوضاع. وبشكل عام كان من السهل إيجاد كبش فداء، تمثل في المحافظ الذي كانت المطالب بإقالته تتزايد قبل الكارثة بدون استجابة، وكان من السهل أن تكون الأخبار التالية مكررة، حيث المتابعة والتوجيهات ومطالبة القوات المسلحة بالتدخل حسب الضرورة.
ولكن بعد سنوات شهدت نهاية الفترة الأولى لحكم السيسي، وارتباط كثير من «الإنجازات» التي يتحدث عنها بالقوات المسلحة، وتركز جزء كبير من الحديث عن البنية التحتية، وأهمية الطرق في إحداث التنمية جاءت الأمطار التي شهدتها مصر وبعدها الاحتفال بعيد العمال لتكشف الكثير عن حالة الأزمات واستمرارها وأسباب تجددها، ليس لأن المحاسبة غائبة فقط، ولكن لأن الاعتراف بوجود الكوارث وتوفر أسبابها غائب، مثل بيئة الأمراض التي لا نعترف بوجودها ولا نوفر الأمصال الكافية لمواجهتها فتستمر في الانتشار حتى إن ظلت كامنة لبعض الوقت.
جاءت الأمطار كاشفة عن عيوب أساسية في البنية التحتية التي تفاخر بها الرئيس وجلس في أكثر من لقاء يفاوض على مدة الإنشاء اللازمة لتطرح أسئلة مباشرة فور الأزمة عن العلاقة بين ما ظهرت عليه البنية التحتية من ضعف وما خضعت له من رقابة أو ضغوط للانتهاء في أوقات زمنية قصيرة. بالطبع لا يمكن الربط بشكل مباشر بين الأزمات التي حدثت والمشاريع التي شهدت تلك المفاوضات العلنية، ولكن الأكثر أهمية تأكيد الرئيس على أن المشاريع لا تتم ولا يتم الإعلان عنها بدون دراسات مستفيضة. بالطبع ظهر الخلل واضحا أكثر من مرة في فكرة الدراسات المستفيضة، كما في مشروع قناة السويس الجديدة والتصورات التي طرحت بشكل مؤكد عن المكاسب الاقتصادية المقبلة وفرص العمل قبل أن يتغير الحديث عنها من فرصة اقتصادية إلى ترس في عجلة الممانعة ومشروع رمزي كلف الشعب الكثير من الموارد الضرورية.
جاءت الأمطار، التي أغرقت أحياء في مدينة القاهرة الجديدة وبعض ضواحي العاصمة، كاشفة للخلل في البنية التحتية في أماكن قدمت بوصفها نموذجا يقاس عليه، لما يفترض أن تكون عليه المدن الحديثة ومدن الصفوة المغلقة على من يملك. ولكن تلك المدن الاكثر حداثة لم تصمد في مواجهة الأمطار وشهدت انهيارات مهددة للحياة، بعد انهيار أنفاق وسقوف مجمعات تجارية، إلى جانب تجمعات للمياه حاصرت السيارات ومن فيها أو أغرقت المساكن في حالات أخرى.
وبالتوازي عن كشف الخلل الذي قاد البعض لوضع صور أحد الأنفاق التي تهدمت ومعها تعليق أنها أقرب للبسكويت الذي ذاب على أثر الشاي، أو الماء في تلك الحالة، كشفت الأمطار عن استمرار الفرز في مجال التناول الإعلامي بين من انتقد على استحياء، لأنه من سكان الأماكن المتضررة، بدون أن يتجاوز عن المعنى الطبقي وتأكيده أن حدوث مثل تلك الأزمات على أثر الأمطار أمور يمكن تقبلها إن حدثت في مناطق عشوائية أو قديمة وكثيفة السكان، ولا يمكن تقبلها في أماكن مميزة دفع فيها الكثير من الأموال وتسكن فيها الصفوة. إلى إلقاء البعض بالتبعية على حكم مبارك، الذي يتم تحميله الإخطاء عندما تكون وسيلة للتجاوز عن مسؤولية النظام القائم فقط.
حتى التناول نفسه ظهر واضحا فيه كيف يمكن أن تحول كميات المياه التي تحيط بالمنازل والسيارات وتمنع الحركة إلى مجرد برك وكأنها أشياء قليلة وغير قيمة، مع نشر صور لا تظهر حقيقة الموقف، ليظهر بسهولة كيف يمكن أن تتغير الحقيقة، عندما تعيد تحديد مساحة العدسة والاهتمام وتتصور أنك مصدر الأخبار الوحيد.
ركز البعض الآخر على تذكيرنا بالمقارنات الخالدة المعتادة والمكررة في وقت الكوارث، حين يتذكر الجميع أننا جزء من العالم الذي يتعرض للكوارث والأزمات، ويشهد تغيرات مناخية وحوادث طرق، في حين لا يتذكر أحد هذا العالم في مقارنات الحقوق والحريات والديمقراطية والمساواة والمنافسة والمكاشفة والمحاسبة. في الجزء الإيجابي من العالم يتم تأكيد أننا حالة خاصة لم نعد للديمقراطية بعد، والرؤساء عندنا يستحقون عقودا من الحكم من أجل تأكيد أننا مثل العالم الآخر في الكوارث فقط.هكذا علينا أن نتعامل مع العالم بانتقائية، تؤكد أننا مثل العالم في الكوارث وغيره في الايجابيات، مثله في المعاناة وغيره في غياب المحاسبة، مثله في وجود رؤساء وغيره في الحق في انتخاب حر وعادل، مثله في الظلم إن حدث وغيره في المحاسبة.
بهذا تفرغ البعض لنشر فيديوهات وصور من كوارث من دول في المنطقة وغيرها، لتأكيد حالة التشابة التي تستوجب وفقا لهم القبول بالمعاناة بدون محاسبة. وتجاوز الأمر فكرة المحاسبة إلى إسقاط الحق في الكلام، أو التعليق بالحديث عن إصدار قانون يؤكد حق مصلحة الإرصاد فقط في الحديث عن الأحوال الجوية، وبهذا بعد أن تم تأميم»تحيا مصر» والحديث عن تأميم الحق في الخوف والقلق يتم الحديث عن تأميم الحق في الحديث عن الأحوال الجوية، ثم ننتقل إلى الحق في السخرية والحق في إصدار النكات وتداولها حتى تملك السلطة الحق في إغلاق وسائل التواصل الاجتماعي وتستطيع إغلاق الدولة على نفسها كما طالب إعلامي من قبل باعتبار أن البناء يحتاج إلى إغلاق الدول والاستمتاع بإعلام الستينيات المفتقد حين يكون الإعلام صوت السلطة.
غضب وسخرية المواطن المصري على هامش كارثة الأمطار وغياب السلطة في مواجهتها، ناهيك عن مسؤوليتها في نشأتها، جدير بالاهتمام ولا يقف عند حدود الفيديو الذي سجلته مواطنة غاضبة بعد قضاء الليل في سيارتها مع طفلتها ووالدتها على الطريق الدائري، بسبب الحدث وغياب الاهتمام، ويمتد إلى التعليقات التي ربطت بين أزمات المحروسة الأخيرة والأمطار، وما كشفت عنه بداية من المطالبة بمحاسبة المسؤول في محاكمة عسكرية على طريقة هشام جنينة، إلى اسئتذان التجمع الخامس للسماح بزراعة الأرز وقصب السكر، أو إنشاء سد لمواجهة سد النهضة.
وإلى جانب كل ما سبق لم يغب الحل الذي يقدم في كل كارثة، من خلال التأكيد بشكل ساخر على أن التفسير الذي سوف يتم تقديمه هو مسؤولية الإخوان عن الأمطار، وعن إيقاف الطرق وغياب المسؤولين عن المشهد. ولكن تلك التخريجة الساخرة ما لبثت أن ظهرت بوصفها تفسيرات «حقيقية»من قبل البعض الذي أصر على إعلان مشاهدته لحوادث وقعت من قبل سائقين صغار في السن، يشك في انتمائهم، بالإضافة إلى قيام الإخوان بإسقاط بعض لوحات الإعلانات حتى تتوقف الطرق ويزيد الغضب، ولا يستطيع المسؤول التوجه إلى الجماهير! تحتاج لمجهود لتصديق تلك المقولات وإن صدقتها تحتاج إلى مجهود لتصديق انتشار تأثيرها وقدرة الإخوان، بافتراض إمكانية التعرف عليهم بالنظر، رغم كل الاستهداف والمواجهات الأمنية ودور الدولة ومؤسساتها، على الانتشار في كل المناطق وإيقاف الطرق الرئيسية ومنع المسؤولين من الوصول إلى المواطنين والرد على استفساراتهم أو إغلاق الهاتف في مواجهة تساؤلاتهم، كما أعلنت السيدة الغاضبة على الطريق الدائري.
في مواجهة كل الغضب الذي تم ترويجه والإعلان عن تولي هيئة الرقابة الإدارية التحقيق والإعلان عن وجود فساد، وإيقاف بعض المسؤولين وتحويل البعض للتحقيق، تبتعد الأضواء عن القيادات الكبرى إلى الصفوف الثانية وما تحتها، ويأتي احتفال عيد العمال ليشهد حديثا عن إنجازات ممتدة ووعود بإنجازات مقبلة وهتافات معلبة لا تغيب من احتفال إلى آخر. وفي المنتصف تغيب تفاصيل الكارثة ما لم يظل البعض ممن تضرر يطالب بحقه في المحاسبة والتعويض لتظل القضايا في مساحات ضيقة تتعلق بالمتضرر المباشر، وليس بالوطن حتى تحدث كارثة جديدة. ولكن الحقيقة كما ظهرت جلية في بعض التعليقات أن الاكتفاء بالبقاء في مدن معلبة لا يمنع من وصول الكوارث إلى بابك، وبالطريقة نفسها لا يمكن تصور أن تكون النجاة فردية ولا الإصلاح فرديا. يستمر الظلم ما دامت السلطة قادرة على تحويل القضايا إلى جزر منفصلة تخص البعض دون عموم الوطن، رغم أن ما يحدث يؤثر على الجميع، فما يحدث في سيناء والتخلي عن تيران وصنافير، وعن أراض أخرى لملوك عرب في سيناء، والأمطار التي تغرق المدن الأكثر ثراء، لا ينفصل عن وسط البلد والوراق والأرز وسد النهضة لأن الجسد الذي يعاني ويدفع الثمن واحد في النهاية.
كاتبة مصرية

مصر والأمطار: ما زلنا ننتظر الكوارث وننساها

عبير ياسين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية