■ طرحت مسرحية «سكة السلامة» لمؤلفها سعد الدين إبراهيم عام 1965 الكثير من التساؤلات حول اللحظة التي كانت تعيشها مصر والطريق الذي كانت تسير فيه، والخيارات التي كانت تواجهها.
جاءت القصة على طريقة الشاطر حسن في سعيه للوصول لست الحسن والجمال، وليس هناك من هو أجمل هنا، من المحروسة، والوصول إليها أو بها في تلك الحالة لسكة السلامة، مع ضرورة تجنب سكة الندامة و»سكة اللي يروح وما يرجعش». لحظة التقاطع التي لم تنج منها مصر وهي تخرج من واقع منتصر في 1956، لواقع هزيمة واحتلال جزء من أراضيها في 1967، كانت حاضرة في يناير عندما وضعت الثورة الوطن بكل من فيه، على طريقة الأتوبيس الذي فقد مساره في القصة، في مواجهة الذات واختيار الطريق. كان من الممكن اختيار طريق السلامة والإصلاحات الحقيقية، ولكن بدلا من هذا سرنا في عمق الصحراء، لنواجه لحظة العطش التي واجهت أبطال القصة، وليصبح علينا أن نختار بين تجربة مياه البئر التي يحتمل أن تكون مسممة، أو التضحية بمن يجربها من أجل المجموع، حتى ان تم التلاعب بالاسماء واختيار من لا يستحق الحياة بسبب وضعه الطبقي.
كان من الممكن اختيار طريق الحريات والحقوق ودولة القانون، كما يفترض بالمحروسة. ولكن وعلى طريقة القصة كانت لحظة الحقيقة التي أحاطت بالجميع مؤقتة، عندما تصور الركاب أنها لحظة الموت، وعندما تصور البعض أنها لحظة انتصار الثورة. في القصة ظهرت اللحظة في علانية الاعتراف بالاخطاء التي وقع فيها كل طرف بمن فيهم الصحافي الذي قادهم إلى الخطأ من أجل مصلحته، والمحامي الذي أحرق السيارة التي كان يمكن أن تنقذ فردا واحدا لانه لم يقبل ممارسة سائقها للسلطة، والسائق الذي عاتب نفسه لمحاولته ممارسة سلطة لا تليق به في تقسيم واضح وممتد للأدوار وتقاطعها مع خط المال والسلطة.
في الثورة، تراجع البعض أمام رياح التغيير، وتغير خطاب البعض من دعم مبارك ونظامه والتنديد بالثورة ورموزها، إلى دعم الثورة والدفاع عنها، قبل أن يعود الكثير منهم لدعم السلطة على حساب الحرية، والطبقة على حساب الفقراء، وصاحب المال على حساب العيش والكرامة، والكرسي على حساب الوطن.
كان من الممكن أن تكون كل كارثة دافعا حقيقيا للتغيير، وأن نعيد رسم الوطن ونحن نستعيده من الحياة كالأموات، ولكن كما انتهت محاولات إعادة رسم بعض الركاب لحياتهم في القصة مع ظهور النجاة، انتهى دعم البعض للثورة مع تراجعها. تصور من حنث بوعوده من الركاب أن الفرصة ممتدة كالحياة، وتصور من يغير مواقفه من الثورة أن لديه مناعة تمكنه من التصدي للتغييرات، باعتبار أن آفة الحارة هي النسيان. عاد معظم الركاب إلى الطريق القديم، وهكذا تفعل مصر أو يراد لها. وفي كل كارثة يتم الدفع نحو المزيد من تقييد الحقوق والحريات التي تقدم، كما قدمت الثورة نفسها، بوصفها مهددا لأمن الوطن وأن التضحية بها ضرورية كالسائق الذي لا يهتم أحد بموته، مادام الجميع بخير، أو هكذا يبدو.
وفي وسط الدم الذي لا يجف، وصور شهداء الجيش في سيناء، وأسرهم المفجوعة بالفقد وطريقته، والجرح الذي لا يغادرنا، يجد البعض الفرصة لرسم السكة المفترضة للوطن، حيث لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ومن يعترض بالنسبة لهم لا يهتم بالدم ولا يعرف معنى الوطن. يعتبرون أن لديهم الحق في اختيار المسار بشكل منفرد، واختيار ما يتم ومن يتم التضحية به للوصول لمكان ليس لنا الحق أن نسأل عنه، لأن السؤال يعد تشكيكا في المواطنة. يرون أن المطلوب هو الصوت الواحد، والابتعاد عن التساؤل والنقد لأنه لا يؤدي إلا إلى إضعاف الروح المعنوية للمؤسسات. بالطبع لا تقول تلك الأصوات أنها تتبع تعريف السلطة للحرية التي تعني الفهم بدون التعبير، ولدور الإعلام في التعبير عن رأى السلطة ورؤيتها للأحداث ودعمها المطلق في تعاملها معها. ولا تقول إنها بهذا تتخــــلى عن دورها الأساسي في أن تكون صوت الوطن وأداة محاسبة لكل مسؤول في موقعه. لا تعترف تلك الأصوات بأن التعدد في الآراء دليل صحة وطريق للفهم والمعرفة والحقيقة.
يقترب المشهد المصري في الكثير من التفاصيل من مقولة «لابد أن تأتي أيام نضحك فيها من مرارة هذه الأيام» للشاعر الرومانى أوفيديوس. مقولة تعودت أن أتعامل معها على طريقة العملة ذات الوجهين، وجه إيجابي يعني انتهاء السلبيات الحاضرة، ووجه سلبي حيث اللحظة مجرد جزء من سلبيات أخطر. لحظة نتصور أننا خرجنا من طريق الندامة، ولحظة ندرك أننا في عمق الطريق، قد نضحك في الحالتين على انتهاء المرارة التي كانت أو الشوق لها مقارنة بالمرارة الحاضرة. وضعية تقترب من التعامل المصري، والعربي في عمومه، مع الثورة. بين من يرى الحاضر سببا للضحك من تحمل الجماهير للمرارات السابقة ويدعم الثورة، ومن يرى أن المرارات الجديدة أخطر فيكون الضحك على الحاضر والحنين للماضي لدى أعداء الثورة.
جزء كبير من اللحظة يقدم في إطار البكاء على الماضي، الذي يعاد إلينا بصور متعددة، بين من يخاطب روح ناصر، ومن يخيف من هزائم سابقة، ومن يستحضر انتصار أكتوبر، مع ربط الايجابيات بخط ثورة يوليو الممتد، كتأكيد على دور الجيش ومكانته التي تدفع البعض لتوسيع نطاق وضع الطوارئ، ليتجاوز مناطق محددة في سيناء، وتوسيع نطاق المحاكمات العسكرية ليشمل الوطن كله لسنوات وسنوات. يتم كل هذا وسط خطاب إعلامي قائم على التقسيم المستمر، سواء على أساس المواطنة والولاء أو الدين، بشكل يزيد من مساحة التخوين والانقسام الذي يفرز صورا أخرى من الانقسام، ويعمل على تقديم وقود متجدد لتضييق النطاق العام، فما لم تقيده السلطة بعد تدعو تلك الأصوات إلى تقييده.
نعود للتركيز على ما لدى العالم من سلبيات، كما كان الإعلام في عهد مبارك، فعندما تحدث كارثة نؤكد أن الدول المتقدمة لديها كوارث. عندما ينتشر التحرش نستشهد بفيديو من الولايات المتحدة لتأكيد أنه ظاهرة عالمية، وعندما نتحدث عن إخلاء منطقة حدودية يعلن البعض ببساطة انه وضع طبيعى للحدود الدولية. لا يقارن أحد في الإيجابيات كنوع من التغيير، ولا يحاسب أحد على سقوط شهداء من الجيش والشرطة والمدنيين أحيانا عند الهجوم على المواقع نفسها، ولا على سقوط طلاب نتيجة الوجود في مدارس غير صالحة للاستخدام، ولا على الاعتراف بوجود مئات المدارس المهددة بالسقوط، ولا يحاسب مسؤول يؤكد أن مجانية التعليم هي سبب العنف في الجامعات الحكومية متبنيا لتصور طبقي، ومساويا بين الحق في التظاهر والعنف، وبين دور المؤسسة التعليمية والجهات القانونية والأمنية. لا يردد أحد أن الاختلاف بين أن تكون متقدما أو لا تكون يرتبط بوجود قانون ودستور وشفافية ومحاسبة ونقد بناء ومساءلة.
ندرك أن المرض يمكن أن يصيب أي شخص أو مجتمع، لكن القدرة على المقاومة تتوقف على الكثير من العوامل التي تحصن الفرد والمجتمع ذاتيا. فسكة السلامة لا يتم الوصول إليها بالمزيد من القمع، وإلا لكنا قد وصلنا لها منذ سنوات بدلا من الثورة والدعوة للتغيير، ولأننا جربنا هذا الطريق من قبل علينا أن نجرب طريقا آخر إن أردنا الوصول لسكة السلامة تلك المرة ربما نصل إلى المحروسة حقا.
٭ كاتبة مصرية
عبير ياسين
شكرًا لحضرتك هذه هي الحقيقة بعينها كما تفضلت في هذا التحليل الواقع والمر،
جاء فى المقال ان مسرحية «سكة السلامة» لمؤلفها سعد الدين (إبراهيم ), و هذا خطاء لانها من تاليف سعد الدين (وهبه ).
أكيد معك حق أ. ياسر فى ما أشرت إليه بخصوص مؤلف العمل وانه الاستاذ سعد الدين وهبة، خطأ غير مقصود بالطبع.. تحياتى وشكرى
schukran anesse Abier