الكاتب ياسر أيوب المعروف لدى القراء بمقالاته في كرة القدم وأيضا بمقالاته في شؤون الحياة المصرية الاجتماعية والسياسية هو من الصحافيين الكبار الذين يجعلون بين الثقافة والصحافة رباطا كبيرا، بل يقرر في كل ما يكتبه إنه لا عمل في الصحافة بدون ثقافة عميقة.
سبق لياسر أيوب أن أصدر كتابا منذ حوالي عشرين عاما بعنوان «الانفجار الجنسي في مصر» كان ولا يزال فريدا في بابه اجتماعيا ونفسيا وسياسيا. ياسر أيوب أصدر أخيرا كتابا بمثابة ملحمة عن تاريخ مصر والرياضة، على هدى الحديث عن كرة القدم المصرية في التاريخ المصري الحديث. لا شك في أن ياسر أيوب أمضى في هذا الكتاب سنوات طويلة في البحث لا يذكرها، وإن قال إنه أنفق فيه وقتا طويلا.
الكتاب يقع في خمسمئة وستين صفحة من القطع الكبير وثلاثة وثلاثين فصلا كبيرا، يبدأها المؤلف بشكر كبير لكل من كتبوا في الموضوع من قبله أجانب أو مصريين، ويذكرهم بالاسم عبر أكثر من مئة سنة سابقة. لنقطع معه بعد ذلك رحلة طويلة غنية بالتحليل السياسي والاجتماعي مع كرة القدم ومصر. اللعبة التي أجبرت الأغنياء على الاعتراف بها، بعد أن مارسها الفقراء في الشوارع متأثرين بالجنود البريطانيين. وعلى عكس ما يقال أن انتشار اللعبة كان بسبب مقاومة الإنكليز يقول، إن هذه خرافة فاللعبة انتشرت لسببين رئيسيين، أولهما يتعلق بالمصريين أنفسهم الذين حرموا من الألعاب كثيرا على طول التاريخ. والسبب الثاني يتعلق باللعبة الجميلة السهلة الرخيصة التي لا تكلف لاعبيها شيئا. أما الإنكليز فشجعوا المصريين عليها مادامت ستأخذهم بعيدا عن المطالبة بحقوقهم. ويعود إلى التاريخ منذ أيام الفراعنة حتى العصر الحديث فقد كانت هناك ألعاب مقدسة لا يمارسها الشعب خاصة بالملوك، وألعاب ساذجة للناس، كما كانت ألعاب أطفال الملوك والأمراء تختلف عن ألعاب أطفال الشعب. واستمر الأمر مع استعراضه لهذه الألعاب المسموح بها والممنوعة مرورا بالتاريخ اليوناني والروماني ثم المسيحي، حيث لم تكن للمسيحية عناية بالألعاب باعتبارها ديانة روحية، بل كانت لعبة مثل المصارعة مثلا تذكرهم بما كان يفعله بهم الرومان من إلقاء المتصارعين للأسود في الملاعب، فضلا عن أنها لعبة للجسد وليست للروح، وكيف أن الكنيسة منعت في العصر الحديث اللعب أيام الآحاد حتى وقت قريب.
كل العصور بعد ذلك، الإسلامية عربية أو طولونية أو أخشيدية أو فاطمية أو أيوبية أو مماليك أو عثمانيين، لم تترك للشعب اللعب إلا في الموالد والاحتفالات الدينــــية، وعادة ما تكون ألعابا رثة ذكرها إدوارد وليم لين وغيره، بينما ظلت سباقات الخيول والعربات والمبارزات ألعاب الملوك والأمراء. ولم تكن لعبة كرة القدم هي الوحيدة التي حملها الإنكليز إلى مصر، بل حملوا معهم ألعابا مثل التنس والاسكواش والبــــولو، لكن هذه الألعـــاب فازت بها الطبقات الراقية وتُركت كرة القــــــدم للصعاليك في الشوارع.
وكما كان المصـــــريون ينقسمون إلى فقراء وأغنياء، كان الإنكليز ينقسمون إلى ضباط وجنود، وكانت لعبة كرة القدم للجنود في المعسكرات والشوارع، ومنهم أخذها المصريون. ظلت لعبة كرة القدم لوقت طويل لعبة يخجل منها الأغنياء في مصر.
لقد تعلم المصريون اللعبة، وكما حدث في أمريكا الجنوبية، أضافوا إليها فن التغزيل والتكسير بالكرة أي المهارات الفردية. كرة القدم مشت مع الإنكليز في العالم كله، لكن ليس كل العالم أحبها، ففي الهند المحتلة وجدوها لا تتناسب مع العقائد الهندوسية، وأحبوا الكريكيت مثلا. لقد تعلم المصريون كرة القدم من الإنكليز كما تعلمها أهل أمريكا اللاتينية وإيطاليا وألمانيا وفرنسا وغيرها من البلاد التي يصل إليها الإنكليز عبر الموانئ وليس ضروريا أن يكونوا مستعمرين لها. وليس ضروريا أنها كانت سلاحا في مواجهة الاستعمار. وفي مصر عام 1895استطاع محمد أفندي ناشد لاعب الكرة الهداف الرائع أن يشكّل أول فريق مصري بعنوان «التيم المصري» لا بعنوان من عناوين الفرق المنتشرة في شوارع البلاد مثل «الأسد المرعب» أو «فريق الشجعان» أو غيره من الألقاب. واستطاع أن يلعب في مواجهة الفريق الإنكليزي لا ليثور عليهم، ولكن ليثبت لهم أنهم رغم تعلمهم اللعبة منهم فقد تفوقوا عليهم. لقد قرر اللورد كتشنر الحاكم البريطاني أول القرن الماضي أن تصبح لعبة كرة القدم أساسية في المدارس المصرية، وبهذا بدون أن يدري جعل منها اللعبة الشعبية الأولى في مصر. كان يقصد إلهاء الناس بها لكنها جمعتهم حولها وشيئا فشيئا دخلها الأغنياء ودخلت النوادي التي كانت للصفوة. وفي عام 1913 شهدت مصر أول بطولة رسمية لها في كرة القدم. شهد هذا العام بناء أول محطة مصرية لتوليد الكهرباء بالطاقة الشمسية، وغير ذلك من تطورات في الحياة، وهكذا يربط ياسر أيوب دائما بين اللعبة والنهضة المصرية في كل جوانبها، ويمشي مع ظهور النوادي ومجهود الباشوات الكبير في ترويج اللعبة، ويتابع اللعبة في زمن الحرب العالمية الأولى وما بعدها وزمن الحرب العالمية الثانية وما بعدها حتى اليوم، وكيف نشأ اتحاد الكرة بعد زيادة النوادي واحدا بعد الآخر، حيث أنشأت مصلحة السكة الحديد أول ملعب كرة حقيقي تملكه في منطقة جزيرة بدران، وأسس الباجوري باشا أول ناد مصري في الإسكندرية وتأسس النادي الأهلي ثم الزمالك، وبدأ تنظيم بطولات كرة القدم في المدارس وتداخلت اللعبة مع السياسة بعد ثورة يوليو/تموز 1952 لكنه لا ينسى وهو يقف عند الأحداث الكبيرة أن يدخل في التفاصيل الصغيرة مثل لهجات المصريين التي تأثرت بالمفردات الإنكليزية فقالوا «جول» بدلا من هدف و«بنالتي» بدلا من ضربة جزاء و«ريفري» بدلا من الحكم ثم راحت العامية تلعب بدورها فصار الجول «جون» والبنالتي «بلن» والريفري «رِف» وهكذا، ما كان مدعاة لدراسات لغوية لبعض أساتذة اللغويات في العالم.
الكتاب لغته ممتعة لا زيادة ولا ثرثرة، رغم صفحاته التي تزيد عن خمسمئة صفحة، وبقدر ما يحتفي بالكرة وتاريخها يحتفي بروادها الذين يضيق المقال عن أسمائهم مثل حسين حجازي في وقت مبكر للغاية مع بداية القرن العشرين إلى اليوم ونجومه. كما يضع بين يديك كثيرا جدا من الصحف التي اندثرت والكتاب الذين ربما نسيناهم أو لم تعد كتبهم تطبع، وتابعوا هذه اللعبة لكن ياسر أيوب يذكرهم بكتاباتهم الجميلة وآرائهم التي مهما اختلف مع بعضها يعطيها حقها من الاحترام. هذا كتاب يحتاج إلى أكثر من مقالة. عظمته في جهده البحثي وآرائه ولغته التي ليست غريبة على كاتب مثل ياسر أيوب مثقف كبير وأحب أن أهديه للقارئ هذه الأيام، خاصة بعد خسارة فريقنا في كأس العالم فمنه نعرف تاريخ اللعبة وتاريخ بلادنا وما وصلنا إليه من مكسب أو خسارة في الكرة أو في الحياة.
٭ روائي مصري
إبراهيم عبد المجيد
هناك ملحوظات بحكم العرض الذي قرأناه نوجزها فيما يلي:
أولا- لا يوجد في مصر عصر اسمه العصر المسيحي. هناك عصر روماني عاش المسيحيون في ظله، وعانوا فيه معاناة شديدة حتى جاء الفتح الإسلامي، وحرر مصر من قبضة الرومان الغزاة، وانتهي ما كان يسميه النصارى عصر الشهداء نظرا كثرة الضحايا الذين قضوا على يد الغزاة الرومان.
ثانيا- كان في مصر دائما على المستوى الشعبي ألعاب خاصة بالفقراء أو الفلاحين. فقد عرفوا دائما في الفترات التي يقل فيها العمل في الحقول كرة المضرب، وكانت موجودة في الريف المصري إلى عهد قريب، وهي عبرة عن كرة شراب وعصا قصيرة نسبيا وهناك فريقان يعمل كل منهما للتغلب على الآخر. ويعمل الفريق المهزوم على استرداد كرامته في اليوم التالي. كما كانت هناك لعبة أخرى اسمها “البوّ” وهي عبارة عن كرة من الخيش محشوة بالهلاهيل(الملابس القديمة)، ويلعب بها الشبان في الليالي القمرة، وكانت العصي تحركها بدلا من الأقدام.
ثالثا- بعد انقلاب52 لجأ البكباشي بمشورة مصطفى أمين إلى إنشاء جريدة المساء، ووضع على رأسها صديقه الصاغ الأحمر خالد محيي الدين، لتهتم بالدرجة الأولى بكرة القدم، فاستطاعت أن تملأ الفراغ السياسي بعد أن حلّ الأحزاب والتنظيمات الإسلامية، وجعل الناس في مصر ينقسمون إلى حزبين كبيرين أحدهما الأهلي، والآخر الزمالك. وهكذا صارت الكرة سياسة في بلادنا المنكوبة بالعسكر!