في غضون أقل من شهر جرت في ثلاثm بلدان عربية انتخابات اعتُبرت محليا هامة ومصيرية. انتخابات بلدية في تونس وأخرى نيابية في كلّ العراق ولبنان.
من المفارقات أن الانتخابات، في الدول الثلاث، وُصفت بالهامة والحاسمة والضرورية (كل الانتخابات عند العرب هامة وحاسمة، يجب فقط البحث عن المسوغات). في لبنان هي الأولى منذ نحو عقد وبقانون انتخاب جديد (النسبية). وفي تونس هي الانتخابات البلدية الأولى منذ الثورة على نظام بن علي، وتأخيرها أكثر كان سيقود إلى انسداد سياسي وإداري. وفي العراق تعقب الانتصار على تنظيم الدولة الإسلامية وما لذلك من أثر سياسي ومعنوي جماعي.
في هذه الظروف وبهذه المواصفات، وفي وضع مثالي، يجب أن تكون الانتخابات عرسا سياسيا وبوابة نحو مستقبل مختلف، حتى لا نقول أفضل.
بيد أن واقع الحال مختلف ولا يشي بكثير من الفرح. هناك الكثير من الانتقادات والشعور باليأس والتشاؤم رافق المسار الانتخابي منذ الإعلان عنه والشروع فيه. يشعر المرء أن أوجاع الناس تستيقظ في المواسم الانتخابية وتصبح أكثر ألمًا. المقصود هنا شعبيا وبعيدا عن السياسة. (في الأوساط السياسية المشاعر مختلفة لأن هناك أطماعا من وراء كل مسار انتخابي: الموجود في السلطة يطمح للبقاء فيها، ومَن خارجها يحلم بأن توصله الانتخابات إلى موقع سياسي ما. في الحالتين لا يخلو الأمر من نظرة للغنائم والمكتسبات).
عدا عن المشاعر السلبية، هناك نسبة المشاركة المتدنية نسبيا في الدول الثلاث على الرغم من أهمية الاقتراع. النسبة المتدنية هي انعكاس لشعور الناس.
ليست تونس والعراق ولبنان استثناءً. المشاعر السلبية تتشابه في أغلب الدول العربية التي فيها انتخابات. تريد السلطات أن تجعل من الانتخابات حفلا تجني ثماره بانتهازية، فيتحوَّل إلى «مناحة».
يحتاج الأمر إلى قراءة خبراء في علم النفس السياسي والاجتماعي للوقوف على مصدر المشاعر السلبية عربيا تجاه الانتخابات، ومبررات هذه المشاعر. ذلك أن الشعوب في الدول العربية يائسة من الحكام ومحبطة منهم ولا تثق فيهم، لكنها في المقابل تنظر إلى الانتخابات بكل هذه السلبية على الرغم من أن الانتخابات، نظريا، هي طريق التغيير الأكثر تحضراً وأمانا.
لكن مهلا.. في بلد يسمح بتوريث الحقائب الوزارية والمقاعد النيابية بين الأسر والعائلات مثل توريث الممتلكات الخاصة، يحق للشعب أن يفقد الثقة في أهل الحكم والسياسة، ويكفر بهم. وبلد لا شيء يتنفس فيه غير اللصوصية والفساد مثل العراق، يحق للناس فيه أن يحتجوا بأكثر وأقوى مما هو مجرد مقاطعة للانتخابات. وفي بلد يصارع أهله لجني بعض ثمار ثورة أطاحت بنظام ديكتاتوري صلب منذ أكثر من سبع سنوات، يحق للناس أن يشعروا بشيء من الإحباط وفقدان الأمل.
ومع ذلك، لا يجب الإفراط في التشاؤم لأن نسب المشاركة في الانتخابات في بلدان متحضرة وديمقراطيتها موجودة منذ قرون، أقل في الغالب مما شهدنا في لبنان وتونس والعراق هذه الأيام. والخيبة من السياسيين في الغرب موجودة، وإن بدرجات وأشكال التعبير عنها مختلفة.
لأن أغلب البلدان العربية تعوَّدت على نسب المشاركة التي لا تنزل عن الـ95٪، أصبحت النسب المعتدلة أو القليلة نسبيا، كما هو الحال اليوم في تونس والعراق ولبنان، مثيرة للفضول، بل وللاستياء عند البعض.
لا يجب أن ننسى كذلك أن نسبة المشاركة، عند السياسيين العرب، تحيل في طياتها إلى شيء من الكبرياء. فهؤلاء تعوَّدوا على «الفوز» بأرقام مرتفعة حتى بات الفوز المتواضع مرفوضا منهم، ولو نفسيا، لأنهم يرونه يقلل من قوة شرعيتهم الشعبية.
أرقام المشاركة ورقة في يد الطرفين المتخاصمين: السلطة تعتبر ارتفاع الأرقام شاهدh لها، والناس المحبط,ن يعتبرون تدني الأرقام انتقاما من رجال السياسة والحكم. (في العراق قال أحد مرشحي «الحشد الشعبي» إن أعداد ممزقي اليافطات الانتخابية وصور المرشحين فاقت أعداد الناخبين).
المشاعر السلبية تجاه الانتخابات عند العرب هي جزء من صورة أكبر يمكن تسميتها بالقرف الشامل من السياسة. ومقاطعة الانتخابات هي واحدة من طرق الرد على أهل الحكم وحيل من حيل معاندتهم.
معاناة الفرد في هذه المنطقة من العالم أعمق من مجرد ورقة تُقذف في صندوق اقتراع. ناهيك عن الفقر والبطالة والأمراض وغياب الوظائف وتراجع التعليم، أخطر ما يواجه الإنسان في منطقتنا هو السواد الذي يحيط به وغياب الأفق واختفاء متعة العيش من حياة الناس. وأخطر ما يواجه المنطقة كذلك الديكتاتوريات وانعدام الحريات وانتشار القمع السياسي والديني والاجتماعي أفقيا وعموديا في أغلب المجتمعات العربية.
عندما تتوفر هذه الوصفة المخزية، لا تسأل عن انتخابات وكم صوَّتوا فيها ومن فاز بها. بل يجب البحث عن سُبل إنقاذ الناس مما هم فيه وقبل أن يتحوَّلوا إلى قنابل موقوتة.
٭ كاتب صحافي جزائري
توفيق رباحي