حكايتي اليوم «حلبيّة»، ما تزال حكاية طريفة بقدر ما هي مرعبة محزنة وجديرة أن تروى..
انقسمت مدينة «حلب» الشهباء إلى منطقتين إحداهما تحت سيطرة المعارضة المسلحة والأخرى تحت سيطرة النظام الحاكم وقد اتصفت في أحد الأوقات بالمراوحة إذ اقتنع كل جانب فترة من الزمن بحصته من المدينة من دون اشتباكات كبيرة واكتفى الطرفان بالحواجز المنيعة والقناصة المهرة للدفاع عن جهته، وكان لا بد للسكان الذين يريدون الالتحاق بمراكز شغلهم الذي يقتاتون منه من أن يلفّوا حول المدينة وصولاً لمراكزهم الواقعة في المنطقة المجاورة المعادية مما يتطلب جهوداً شاقة إلى أن وقع اختيار الطرفين على طريق مختصر يشكل مساحة محايدة بين الطرفين يمكن اجتيازها بسرعة بالرغمِ من الأخطار المحيطة بها من قناصة الطرفين الذين كانوا يتدخلون أحياناً برصاصهم لمنع أحد المارة اشتبهوا به كمخرّب مؤذٍ فأردوه قتيلا، غير أن القتل كما يبدو مع تطاول الزمن والعادة يتحوّل إلى هواية جذابة وإن كان ضحاياها من الناس الأبرياء، وهكذا أطلق الناس على ذلك الشارع تسمية تليق به فسمّوه «معبر الموت» إلى أن قررت السلطات الحاكمة إغلاق ذلك الطريق بالحواجز الترابية العالية ومن جديد عاد المساكين المضطرين إلى الإلتحاق بأعمالهم الواقعة في الجانب الآخر أن يلفوا ويدوروا طويلاً حول المدينة وصولاً إلى مراكز أعمالهم..
تنتهي هذه الحكاية عند هذا الحد، غير أنها لم تنته بالنسبة لبعضهم ممن يروون بعض الأحداث ذات المغزى العميق كخاتمة مناسبة لهذه الحكاية المخيفة مثل نزول أحد القناصة من ذلك الطرف أو ذاك لإنقاذ جريح مُصاب في ساقه وعاجز عن الهرب أو انقطاع سيل الرصاص المنهمر ذات مرة حين سقطت إحدى الصبايا على الأرض متعثّرة ولم تُصَب بعد، فسلتت الطلقات من هنا وهناك حتى نهضت الفتاة ـ الجميلة كما كان يبدو ـ وتابعت طريقها ونجت.
حكايات كثيرة تروى عن «معبر الموت» هذا إلا حكاية واحدة لم يتطرق لها أحد وهي عن القنّاصة المتربّصين على السطوح أو في النوافذ او في فجوات في الجدران يتوارون وراءها فهل كان القنّاص يختار ضحيته وحده أم أنه كان يتشاور مع قائده أو بعض رفاقه، وما هي المواصفات التي كان يتخذ قراره بالقتل حسبها في الأشخاص الذين كان يختارهم كي يموتوا على يده.
ذكّرني هذا بمسرحية طريفة لزياد الرحباني مثّلَ الدور الأول فيها اسمها «فيلم أمريكي طويل» حضرتها في المنطقة الغربية في بيروت أثناء الحرب الأهلية اللبنانية وخلاصة حكاية المسرحية تدور حول وقائع كانت تجري في مستشفى للمجانين أو الموشكين على الجنون بأسلوب ساخر يجمع بين الإضحاك المرير والإفجاع التهكّمي، وقد فهمنا من السياق أن الشاب المهزوز عقلياً بطل المسرحية (أي زياد نفسه) كان قناصاً يترصّد المارّة من موقعه على سطح إحدى البنايات و أنه قتلَ فعلاً عدداً لا بأس به من المارّة. وإن أنسى لا أنسى ذلك الحوار الفاجع والممتع المضحك الذي جرى بين أحد الأطباء وذلك الشاب القناص إذ سأله الطبيب قائلاً:
ـ كيف كنت تختار ضحاياك؟ ولماذا كنت تقتلهم وأنت لا تعرف شيئاً عنهم؟
أجاب «زياد» بلسان القناص المهزوز عقليا قائلا:
« ما في شي.. كان الواحد منهم يمرّ وهو مطخّي راسو فما عجبني شكلو فقوّصتو..»
لكم تمنيت أن تُتاح لي الفرصة لأطرح السؤال نفسه على أحد القناصة المتربصين بالمارّة العابرين في «معبر الموت» كي أسمع جوابه هل كان بأسلوب زياد الرحباني أم بأسلوب آخر مستوحى من الجماعة التي ينتمي إليها؟. هل كانت وجهة نظره عن القتل مختلفة أم أنها العادة التي تسيطر على المقاتل مع الزمن أن يقتل بلا سبب مقنع؟
وها أنذا أسألكم جميعاً: هل كنتم تقتلون خصومكم وأنتم واثقون أنهم خصوم لكم فعلاً؟ وإلى متى تتقابلون ويسقط من الأبرياء أكثر بكثير مما يسقط من الخصوم المقاتلين وعلى الأخص الطرف الذي يملك أسلحةً أقوى وأقدر على التدمير؟.. ولماذا لا تسمحون بمعبر للسلام بدلاً من «معابر الموت» المتكاثرة في الوطن الذي نحبه جميعاً كما يقولون»..
شوقي بغدادي
قمة في الوصف والتوصيف يا عم شوقي أطال الله بعمرك المديد
كانت حكايات القنص في بيروت مرعبة للمارة ولا تمحى من التأريخ
لقد كان القناص يختار ضحاياه بمزاجية وقحه وبلا وازع ولا ضمير
فعلا كثرت معابر الموت ببلادنا بفضل هؤلاء القناصة البغاة
ولا حول ولا قوة الا بالله
عزيزي الأستاذ شوقي البغدادي. أنا أعرفك شخصياً و كنت أحد طلابك في إحدى المدارس في مدينة دمشق.أحييك على مقالك الرائع و الذي يعبر عن محبتك للوطن الحبيب سوريا و الرغبة الكامنة داخلك ليعود هذه الوطن كما كان. لكن هيهات مع وجود الطاغية بشار و ملته الطائفية ، تلك الملة التي مازالت تحكم سوريا و منذ 50 عاماً. لن تعود سوريا بلداً رائعاً كما عهدناه في صغرنا إلا باقتلاع تلك الطائفة الفاسدة