معرض أخرج الغاليري من كلاسيكيته الأبدية في رميل 393 : بشارة عطا الله أحيا الذاكرة أثواباً وفناً ورجالاً معنفين

حجم الخط
0

بيروت ـ «القدس العربي»: لم يخطر في بال والدة الفنان بشارة عطالله أن ابنها سينبش ثوب زفافها الأبيض يوماً ليعرضه ويعيد إليها ذكريات عرسها الذي كان سنة 1970. حدث هذا واقعاً، وكانت لنا صورة فوتوغرافية تجمع بين بشارة والثوب. في اختصار اهتمامات بشارة وهو ممثل لبناني، مصمم ومنسق أزياء، كان له بالتعاون مع آخرين وعلى مدى شهر معرض في الجميزة عنوانه السؤال التالي: ماذا حدث في أسبوع الموضة في بيروت؟ بشارة متأثر لأن أسبوع الموضة انتقل بعد عدوان تموز/يوليو سنة 2006 إلى دولة عربية أخرى. في حين أن لبنان معروف في عالم الموضة بمصممين رائعين يعرضون في كافة عواصم الموضة من باريس، وميلانو، وروما، ونيويورك وطوكيو، لكنه محروم من اسبوع للموضة الذي يعتبر حدثاً راقياً يجذب الجمهور من شتى أرجاء العالم.
من هنا بدأت الشرارة، وكان القرار بتنفيذ الأفكار في معرض يضمه غاليري رميل 392و393. ولأني أملك مئات الملابس من حقب قديمة قررت أن يكون بعضها في المعرض. مسؤولة الغاليري نلسي مسعود وبعد زيارتها لمخزن الملابس التي اقتنيها كان اصرارها كبيرا على تنفيذ المعرض. بدأنا تطوير الأفكار مع مجموعة أصدقاء ومتعاونين ومتطوعين. عرضاً للملابس كان واحداً من الأفكار. لم أرغبه كلاسيكياً، فلست مصمم الملابس. وكانت فكرة التعبير من خلال العرض عن العنف الأسري بحق النساء. وافق عدد من أصدقائي على ارتداء ملابس نسائية قديمة، والخضوع لـ»ميك أب» يظهر اللكمات على الوجوه تحدياً وكذلك الجسد. وهكذا ظهر المُعنّف بملابس الضحية وأمام الجمهور خلال حفل الافتتاح وبعنوان «حط حالك محلاّ».
برنامج المعرض توزع لأربعة أسابيع وتالياً أربعة فصول وحمل كل منها فكرة معينة. فيما كان للافتتاح ثيمة مناهضة العنف ضد المرأة وعبر رسالة واضحة ومميزة، كان للأسبوع الأول من المعرض أن يحتفي بحقبة الستينيات والسبعينيات التي يشتاقها كل من لا يعرفها، وتضمنت ملابس بألوان قوية جداً. يرى بشارة نفسه مرتبطاً بتلك الحقبة التي ولد فيها. في رأيه هي الأكثر خصوبة على شتى المستويات، اشتعلت خلالها ثورات التحرر الوطني، وثورات التغيير الفني والفكري، وكان لبنان أفضل مما هو الآن بما لا يقاس. يخبرني والديَ عن ذاك الزمن، وأتحسر لأني لن أجده، لهذا أبحث عنه حيث لا يزال وبخاصة في الموضة.
الاسبوع الثاني جمع ملابس من إثنيات مختلفة منها لبنان، افريقيا، اليابان، مصر، فلسطين، كردستان، الصين، افغانستان وغيرها. والثالث تحولت فيه الصالة إلى ملابس ذكورية احتفاء بمدام كوكو شانيل لأنها أول من ألبس المرأة بنطالاً. ويقول بشارة: الأسبوع الرابع والختام ارتدت شخوص الغاليري اللون الأبيض، منها أثواب من 1901، كانت ترتديه نساء الطبقات الغنية في الحديقة وبعد الظهر وعلى فنجان شاي. فساتين فتيات ترافقن العروس، كذلك ثوب زفاف والدتي الذي كان في بداية 1970. وثمة أثواب من بدايات القرن الماضي من الحرير الدانتيل النادر والرائع. وكل ثوب له حكاية وفكرة في هذا المعرض. أربعة أسابيع قد تُفسر بأنها ربيع وصيف وخريف وشتاء. الختام مع الأبيض علّه يأتينا بالثلج الذي نفتقده منذ سنوات.
في الغاليري الموزع على ثلاث غرف ليست الملابس وحدها من الزمن الماضي تدعو للنظر والسؤال. ثمة نبش للذاكرة الفنية. تواصل بشارة مع أصدقاء وغيرهم يهوون جمع قديم مفيد. تشابكت الجهود لتقديم حدث فني مواز للملابس. ملصقات الأفلام التي تعود لمنتصف القرن الماضي من مقتنيات تمارا اسماعيل. فهذه هواية محببة لديها. وكانت زاوية لتكريم من غادرنا هذا العام. هذه صباح ترتدي ثوباً جلدياً في صورة تجمعها مع ابنها. الثوب كان معروضاً وتمتلكه رنا خليل. وكان ملصق لصباح من تمارا اسماعيل يقدمها في فيلم «ليلة بكى فيها القمر» مع حسين فهمي. وفي الصالة ملصق آخر يعلن: تشارلز برونسون في أقوى وأعنف أفلام الموسم. يقول بشارة أن الملصقات المعروضة جميعها برسم اليد، وعُرضت في الصالات العربية. صور الأفلام والفنانين من الزمن القديم توافرت بأحجام مختلفة لمن يرغب بها من الزائرين كذكرى. تميزت الصالات الثلاث للغاليري بعدد ملحوظ ومميز من مفروشات الخيزران والقصب والبامبو. جميعها لعاصم الجوهري الذي أضفى على المكان لمسات قديمة وحميمة. كما تزينت الصالات الثلاث بثريات مشغولة حديثاً إنما بطريقة مغرقة في القدم. فسنتيا التي صممت تلك الثريات أضاءت ما هو قديم بضوء قديم ومنير معاً. احدى الثريات حملت اسم «مدام باتر فلاي» وهي اوبرا يابانية. في مدخل الغاليري ينتصب «دروسوار» يظهر في صور أكل عليه الدهر وشرب، لكن ندى معتوق اولته عنايتها فجاء خير معبر عن أصالة مصنوعات الأمس مضافاً إليها لمسات التصميم المعاصر. في الصالة الاولى أيضاً صباح وفيلم «كلام في الحب» من اخراج محمد سلمان، كذلك ليلى مراد وأنور وجدي. أم كلثوم في صورة كبيرة انتصبت فوق راديو من الحجم الكبير. هو من مقتنيات «Arcenciel» وهي المؤسسة التي تعمل لدعم كل من يحتاج لكرسي متحرك مجاناً ومن خلال تبرعات الناس. من نشاطاتهم التي يمولون بها عملهم قبول أو شراء أثاث قديم وإعادة ترميمه وبيعه من جديد، وبدله يعود لصالح المحتاجين لمقاعد متحركة. وكافة معروضات تلك المؤسسة بأسعار متواضعة قياساً للزمن الذي تعود إليه.
ولأننا مع الموضة والأزياء فلا بد من مشغل. في الغرفة الثالثة كانت ماكينات الخياطة القديمة موجودة بأكثر من شكل، ومنها تلك التي تعمل باليد، اضافة إلى نول خشبي. كذلك حضرت قطع القماش تذكرنا بنقشات الماضي وساهمت بها مؤسسة تجارية كبرى. عرض القماش بما يوحي بأننا في زمن سوق النورية في بيروت قبل أن تمحو الحرب والشركات العقارية معالمه. فيلم «بنت الحارس» وصورة فيروز على ملصق بوسع الجدار يتصدر غرفة المشغل، ويحرسها.
اجتهد الفنان بشارة عطالله مع الكثير من المتعاونين فكانت أفكارا فنية مبدعة وجديدة. فماذا قدم له هذا الإنجاز؟ بمجرد الإحساس برضى الناس وتقديرهم تتقد في داخلي شعلة ليس لي وصفها. عندما وجدت صباح اليوم مطبوعة تحكي على غلافها عن نشاطنا في مكافحة العنف ضد المرأة لم يعد لي قدرة تحمل ضربات قلبي من الفرح. من الجميل جداً أن تصل أفكارنا عن موضوع هادف. ولكوني تلميذ مسرح، وأعمل في تخصصي وفي المسرح الهادف منذ ما يقارب الـ20 سنة مع العديد من المخرجين والمخرجات اللبنانيات، تكونت لدي قناعة عميقة أن المسرح هو أداة مهمة لتجديد وتفعيل المجتمع. والتأكيد بأن المواجهة تحل المشكلات وليس الهرب، وأننا بالتكاتف نتمكن من الحلول. التكاتف كان عنوان هذا المعرض الذي تحول إلى تظاهرة فنية، وكان وقعه مميزاً على الناس. وفيه العديد من الجنود المجهولين كما منفذ الإضاءة علاء ميناوي، حتى الغاليري قدمت المكان مجاناً ولشهر.
نلسي مسعود تصف نفسها بناطورة الغاليري الذي يتخذ اسمه من رقم العقار المسجل في الدوائر الرسمية باسم 392 رميل 393، مكان متخصص بمعارض الفن التشكيلي. تقول: للمرة الأولى تتبدل معروضاتنا، فبعد لقاء مع الفنان بشارة عطالله اشتغلت خلاله الطاقة الإيجابية بيننا، بدأنا تركيب المعرض. كانت لي زيارة لمخزنه من الملابس القديمة، والذي يشبه المتاهة المنظمة للغاية. وإذا به «يعربش» على كرسي ليطال ثوب عرس كرديا. لهذه الدرجة يعرف مقتنياته. من جهة أخرى رغبنا بمعرض يميزنا عن سوانا من الغاليريهات التي تعرض اللوحات. نعم نجحنا في هدفنا بالانفتاح على جمهور ليست اللوحة فقط هدفه. نعتبره من المعارض الناجحة لجهة الجمهور وتنوعه، ولجهة حركة البيع، ولجهة تسهيل الصلة مع «أركنسيال والصليب الأحمر» بهدف التبرع بمقتنيات لا يحتاجون لها في منازلهم لهاتين المؤسستين. ساعد هذا المعرض الجمهور للتعرف على الماضي والاحساس به، وساعد من هم من الجيل المخضرم لنبش الذاكرة. والأهم أننا استقبلنا زوارا من كافة شرائح المجتمع وكافة الأعمار، حتى الأطفال وجدوا ما يسعدهم. كذلك كان ضيوفنا من الأيدي العاملة الأجنبية العاملة في لبنان في غاية السرور لأن المعرض جذبهم خاصة عندما كان اسبوع الأزياء من أثنيات مختلفة. نجحنا لأننا كنا للجميع، ونسعى لمعارض مستقبلية تجمع كل الناس وليس فئة، فحق الفرجة متاح دون قيود.

زهرة مرعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية