الهجوم المباغت الذي شنته الفصائل المعارضة على جبهة جوبر، شرقي العاصمة دمشق، خلخل الوضع القائم في تلك المنطقة منذ سنوات، بل غير صورة الوضع الميداني تغييراً انقلابياً في عموم سوريا، الأمر الذي ستكون له تداعياته السياسية في اجتماعات جنيف التي تستأنف يوم الجمعة 24 آذار/مارس، لحظة كتابة هذه السطور.
فقبل معركة جوبر، كانت الصورة قاتمة من وجهة نظر المعارضة بعد هزيمتها القاسية في شرق حلب، وتجريف وادي بردى من سكانه ومقاتلي المعارضة فيه، ووصول مفاوضات تسليم حي الوعر في حمص إلى لحظاتها الأخيرة. انتشى المحور الروسي ـ الإيراني بانتصاراته تلك وجعل تابعهما السوري يستعيد آماله القديمة في قول كلمة «خلصت» (انتهت).
أما اليوم فالنظام في أقصى حالات ارتباكه، لا يعرف كيف يحرك قواته المحدودة والميليشيات الشيعية متعددة الجنسيات الداعمة له من جبهة إلى أخرى، بخاصة بعدما اندلعت معركة موازية في ريف حماة الشمالي والغربي، مع استمرار القتال في الجبهة الجنوبية في مركز محافظة درعا بالذات. وها هي الصواريخ تطلق للمرة الأولى على بلدة القرداحة ـ عاصمة الدولة الأسدية ـ في توكيد رمزي على استهداف رأس النظام نفسه وعصبه الاجتماعي.
فإذا أضفنا إلى كل هذه التطورات، الضربة العسكرية الإسرائيلية الأخيرة في عمق الصحراء الشرقية قرب حمص، والتعاطي المختلف لإسرائيل معها بالقياس إلى الضربات السابقة الروتينية، اتضح مدى الضعضعة التي بات النظام يعانيها، ومدى انقلاب التوازنات لغير مصلحته. ترى هل يمكن الاستنتاج من هذه التطورات أن السياسة السورية للولايات المتحدة بإدارتها الجديدة قد ارتسمت وبدأ وضعها موضع التطبيق؟ أم أن الأمر يتعلق بحلفاء واشنطن التقليديين، دول الخليج العربي وتركيا وإسرائيل، الذين يحاولون، كل لدوافع تخصه، وضع خريطة جديدة لتوازنات القوى في سوريا أمام الإدارة الأمريكية لأخذها بعين الاعتبار في رسم سياستها السورية؟
في كلتا الحالتين، ثمة وقائع جديدة قلبت، مبدئياً، آمال موسكو وطهران وتابعهما السوري في دمشق، وسيكون عليهم إعادة النظر في سياساتهم الحالية لمصلحة رؤية أكثر واقعية.
إدارة ترامب التي سبق وأعلنت موقفها العدائي من إيران، و«غازلت» الروس ظاهرياً، ولا مشكلة لديها ـ إلى الآن ـ مع نظام بشار الكيميائي، بدأت تنخرط عسكرياً في سوريا بصورة جدية في إطار الحرب المعلنة على «داعش»، وتتسارع استعداداتها لمعركة الرقة من خلال زج المزيد من القوات البرية، وزيادة وتيرة القصف الجوي للرقة وما حولها، والقيام بإنزال مظلي شارك فيه مقاتلون كرد من قوات حماية الشعب، قرب سد الطبقة. الغزل الظاهري مع روسيا بوتين لا يمكنه أن يغطي على قلق الدولة الأمريكية العميقة من تمادي روسيا في محاولاتها لتوسيع مجال نفوذها العالمي. فإضافة إلى قضم موسكو لجزيرة القرم والمقاطعات الشرقية لأوكرانيا، وتفردها بالمشكلة السورية حرباً ومساراً سياسياً، امتدت طموحات القيصر بوتين إلى شرق ليبيا من خلال نظام السيسي في مصر التي أجرت موسكو معها مناورات عسكرية مشتركة قبل أشهر قليلة. وأخيراً قبرص اليونانية التي ترى في روسيا الأرثوذكسية حامية لها من تركيا بأكثر مما يمكن لليونان أن يقوم به في دور الحماية هذا.
إذا نظرنا إلى خريطة النفوذ الروسي الآخذ في الاتساع، لرأينا أنها تسعى إلى تطويق أوروبا من الشرق والجنوب من خلال السيطرة على خطوط إمدادات النفط والغاز، الأمر الذي يشكل السلاح الأقوى لروسيا في صراعها الدولي مع المعسكر الغربي.
من غير المتوقع أن تقف واشنطن مكتوفة اليدين أمام هذا التحدي الروسي. ولعل الخطاب العدائي لترامب ضد إيران يستهدف أصلاً فك عرى التحالف الإيراني ـ الروسي الذي يتجلى بأكثر صوره وضوحاً في سوريا، على غرار ما فعلته روسيا مع تركيا لفك عرى تحالفها التاريخي مع الغرب في إطار حلف الناتو.
ويلاحظ أن الناتو هو الذي يواجه التوسعية الروسية بصورة مباشرة، إلى الآن، بدلاً من واشنطن. فالتعزيزات العسكرية البحرية الأطلسية متواصلة في البحر الأسود. وقبل أيام قليلة أعلنت قيادة الحلف عن توجه 120 جنديا بريطانيا، معززين بأسلحة ثقيلة بريطانية وفرنسية، إلى أستونيا في بحر البلطيق المحاذي لروسيا مباشرةً. (نسجل هنا، بين قوسين، حصول الهجوم الإرهابي على مبنى البرلمان في لندن الذي قتل فيه خمسة أشخاص وجرح آخرون، بعد أيام معدودة على إرسال الجنود البريطانيين إلى بحر البلطيق. تبنت داعش العملية، ولكن من يدري من يقف وراءها من أجهزة الاستخبارات التي تخترق هذا النوع من المنظمات؟ ألم يتزامن إعلان داعش الحرب على تركيا، أيضاً، مع تداعيات ما بعد إسقاط تركيا لطائرة السوخوي الروسية؟ ولا نعرف شيئاً، بعد، عن ارتباطات القاتل القرغيزي الذي نفذ الهجوم الدموي على ملهى ليلي في إسطنبول في ليلة رأس السنة. فقد غابت أخباره عن الإعلام تماماً بعدما وقع في أيدي المخابرات التركية. ألا يحتمل أن تكون العملية هي الرد الروسي «العميق» على اغتيال سفيرها في أنقرة قبل مجزرة ملهى راينة بأسابيع قليلة؟).
إذا كانت علاقة المخابرات الروسية بالعمليات الإرهابية المذكورة أعلاه هي من باب التكهنات المستندة إلى تاريخ طويل من حروب الجاسوسية القذرة بين الدول، فالتنافس الأمريكي ـ الروسي في سوريا تجلى بوضوح وعلنية في تسابقهما على كسب ود قوات حماية الشعب الكردية وتأمين حمايتها من تركيا. وإذا كان الأمريكيون يدربون المقاتلين الكرد على الإنزال المظلي في الشرق، فالروس تمركزوا عسكرياً في عفرين غرباً. وعبر الأتراك عن استيائهم من الحماية الروسية للقوات الكردية في عفرين، بأن استدعت الخارجية التركية القائم بالأعمال الروسي في أنقرة لإبلاغه احتجاجها على مقتل جندي تركي على الحدود، برصاصة أطلقتها قوات حماية الشعب من منطقة عفرين.
ويمتد التنافس الأمريكي ـ الروسي على كسب ود الحليف المحلي، من «روج آفا» كما يسمي حزب الاتحاد الديمقراطي مناطق سيطرته في شمال سوريا، إلى إسرائيل التي يفوق عدد زيارات رئيس حكومتها نتانياهو إلى موسكو عدد زياراته إلى واشنطن، منذ اندلاع الصراع في سوريا وعليها. لعل الجديد في الغارة الإسرائيلية الأخيرة على مواقع قرب تدمر، هو تظاهر موسكو بعدم الرضى عنها إرضاء لحليفها الإيراني، في حين أن التنسيق العسكري قائم بين روسيا وإسرائيل منذ التدخل الروسي المباشر في سوريا، بما في ذلك «الخط الساخن» بين قاعدة حميميم الروسية في اللاذقية وتل أبيب. ولكن، مع ذلك، من المحتمل أن العملية الإسرائيلية هي أقرب لأجندة واشنطن، وفيها تسجيل نقطة لمصلحتها ضد موسكو.
بالعودة إلى الجبهات التي أشعلتها المعارضة المسلحة في قلب العاصمة دمشق، إضافة إلى الجبهة الجنوبية وجبهة حماه، يمكن القول إن مجمل هذه التطورات الميدانية تأتي في ظل غطاء عربي واضح من التغطية الإعلامية لوسائل الإعلام التابعة لهذه الدول.
من زاوية النظر السورية، لا تشكل هذه التطورات الإيجابية بدايةً الطريق لإسقاط النظام، وإن كان من المتوقع أن مصيرها لن يكون كمصير سابقاتها في حلب. بل المرجح أن توازن القوى الجديد في قلب العاصمة سيتحول إلى وضع جديد لفترة مديدة، حارماً النظام من «نعمة» استقرار الوضع الأمني في عاصمته. لن يكون بوسعه، بعد اليوم، أن يستقبل الوفود البرلمانية والإعلامية الغربية في «بيته» ليقول لها: انظروا إلى الحياة الطبيعية في دمشق. هذا هو مستقبل سوريا بقيادتي. فالحركة مشلولة في كامل شوارع العاصمة التي قطعتها قوات النظام بحواجز ونقاط تفتيش، على ما نقلت مختلف وسائل الإعلام.
سنرى كيف ستنعكس مجمل هذه التطورات على «العملية السياسية» المستأنفة في جنيف وما زال الأمريكيون غائبين عنها. وإن كان من المتوقع أن تدور في الحلقة المفرغة ذاتها بدون أي نتائج عملية.
بكر صدقي