معيرةُ اللغةِ هي تهيئةٌ لغوية، من خلالها تخضع اللّغةُ للتنميط والتقعيد لنقلها من موضع اللهجة أو اللغة الشفوية إلى مستوى لغة الكتابة والمؤسسات التعليمية والإدارية والإعلامية. وقد ظهرت معيرة الأمازيغية في الجزائر والمغرب في ثمانينيات القرن الماضي لإخراج الأمازيغية من الفكرة والشفهية إلى مستوى اللغة المكتوبة، بتنميط الحروف ووضع القواعد الإملائية وتثبيت البنيات النحوية والصرفية، فنشأت في الجزائر السكرتارية العليا للأكاديمية الأمازيغية سنة 1995، وفي المملكة المغربية المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية 2001.
ومن العوامل التي تعقّد عمليات معيرة الأمازيغية، مقارنة بلغات أخرى مثل الكتلانية أو الباسكية أو العبرية أذكر على وجه الخصوص:
الشساعة الجغرافية
فأول حاجز تصطدم به عمليات معيرة الأمازيغية هو الامتداد الجغرافي الكبير الذي تشغله اللهجات الأمازيغية، وتباعد المسافات بين المجموعات الناطقة بها، المتفرقة في رقعة جغرافية شاسعة، من النيل إلى الأطلسي، ومن المتوسط إلى أعماق إفريقيا، ما يصعِّب التواصل والتنسيق، ويمنع إنشاء لغة أمازيغية واحدة لكل الأمازيغ.
سياسات مختلفة
تُضَاف للتباعد الجغرافي، حواجز الحدود السياسية. فالقبائل الأمازيغية موزعة على بلدان لها سياسات مختلفة. تقول نورة الأزرق، باحثة في مركز التهيئة اللغوية التابع للمعهد الملكي المغربي، «إنَّ تحقيق اللغة المعيار صعب لأنّ سياسات البلدان التي توجد فيها الأمازيغية متضاربة». فالتقسيم السياسي يرغم مشاريع معيرة الأمازيغية على الانحصار في حدود الوطن الواحد، وبموافقة سلطاته ودعمها، ويجعل مشروع تحقيق لغة أمازيغية موحدة عابرة للأقطار حلما بعيد المنال حتى لا أقول مستحيلا.
تعدد اللهجات الأمازيغية
وتصطدم المعيرة بواقع تميِّزه كثرة اللهجات، أذكر منها: السوسية، والزناتية والريفية والزيانية في المملكة المغربية. والقبائلية، والشاوية، والميزابية، والتارقية، والشنوية والشلحية في الجزائر. والأطلسية، ولهجة أمازيغ الواحات في تونس. والنفوسية، والغدامسية، والأوجلية، والسوكنية في ليبيا. والسيوية في مصر. وتانسلمت (تمبكتو)، وتاضاغت (كيدال) في مالي. وآزناك في موريتانيا والسنغال…
اختلاف اللهجات الأمازيغية
وقد أدى التباعد الجغرافي إلى اختلاف اللهجات اختلافا لا ينحصر في مسميات الأشياء وحسب، بل يتعداها ليشمل النظام الصوتي ومخارج الحروف مثلما أكّد الباحث اللغوي مرزوق الحقوني: «المقام الكلامي في اللغة الأمازيغية يختلف من لهجة لأخرى، كما أنه من اللافت للنظر أن بعض الكلمات مثلا عند أمازيغ الريف في المغرب لا يفهمها أمازيغ زيان ولا أمازيغ سوس».
صعوبة تحديد معايير الصواب والخطأ
إذا كانت العربية منبثقة من لغة قريش التي نزل بها النص القرآني، فصار مرجعا للقياس تستمد منه العربية قواعدها، فإن الجدل يبقى قائما في أصل الأمازيغية، مما يُصعِّب تحديد معايير واضحة للصواب والخطأ في هذه اللغة كثيرة اللهجات. يقول الحقوني: «الفرق بين اللغتين العربية والأمازيغية، هو أن اللهجات العربية منبثقة من العربية الأصل التي نطلق عليها لفظ «الفصحى» التي كانت سائدة عند القريشيين. أما الأمازيغية، فحتى الآن لم يتفق الباحثون على أصلها وعائلتها».
مسألة الهيمنة
وما يعيق المعيرة أيضا إمكانية سعي قبائل كبيرة لفرض أفكارها وقواعدها، وحتى لغاتها على قبائل أصغر، وما يقابله من تخوّف القبائل الصغيرة من الهيمنة، مما قد يحملها على الانغلاق على ذاتها حماية لنفسها.
التعصب القبلي والصراع الأيديولوجي
ولعلّ أكبر عائق، هو التعصب العرقي والنزاع الفكري والتفكير في الذات بدلا من التفكير في لغة عريقة عمرها نحو 3000 سنة، كأن يسعى بعضهم لفرض الحروف العربية لاقترانها بلغة القرآن، أو سعي بعضهم لفرض الخط اللاتيني من جانب واحد تأثرا بالفرنسية. قال أحدهم: «سأكتب مدى الحياة بالخط اللاتيني حتى إذا قرر كل الأمازيغ الكتابة بخط تيفيناغ!».
اختلاف اللسانيين
ويبقى الجدل قائما بين المختصين حول قواعد اللغة وحروفها. ويذهب بعضهم إلى حد اعتبار طلب استبدال حروف تيفيناغ «تحاملا»، ومن هؤلاء الباحث اللغوي المغربي أحمد عصيد، الذي يعتبر الحرف الأمازيغي تفيناغ من «المكتسبات النهائية التي لا رجعة فيها، تقرّرت داخل مؤسسات الدولة وتبنتها وزارة التربية الوطنية، وأصبحت من أسس منهاج تعليم اللغة الأمازيغية في المغرب. والعودة إلى مناقشة مكتسبات الأمازيغية هو أشبه بمن يعود إلى مناقشة حق المرأة في الخروج للعمل».
خلق لغة أجنبية
اللغة المعيار أكاديمية، معجمها يحتوي على مفردات تمّ تجميعها من مناطق متنوعة، مختلفة عن لغة الفرع، لا يفهمها إلاَّ من درسها وتعلَّم قواعدها. يقول الحقوني: «أمازيغية المنشأ مخالفة تماما للغة التدريس، فيجد الطفل نفسه أمام لغة تعتبر أجنبية بالنسبة له، وهي أصعب من اللغات الأوروبية لأن هذه الأخيرة مقعدة يسهل توضيح المسند والمسند إليه فيها للطفل، أما اللهجة الأمازيغية المفروضة فغير مقعدة.. فيحس الطفل بالألم والغربة الذاتية حينما يقال له إنك تدرس اللغة الأمازيغية».
تدمير الثقافات والتراث
للشعوب الأمازيغية عادات وتقاليد وفولكلور يختلف من منطقة إلى أخرى. فمثلا، الطابع المتفتح للأغنية القبائلية في الجزائر يختلف عن الطابع المحافظ للأغنية المزابية. ولا يصعب مطلقا التمييز بين الغناء القبائلي والغناء الشاوي والطارقي والشلحي صوتا ونغما، إضافة إلى العادات والتقاليد ومظاهر أخرى من التراث الأمازيغي المتنوع والثري، الذي يشارك فيه بشر من مختلف الأجناس والألوان موزعين على عدد من البلدان العربية والإفريقية. فقد ينتج عن الأمازيغية الوسيطة تلاشي فولكلور متنوع وتراث عريق ورثه الأمازيغ عن الأجداد.
التأثير السياسي
وإن كان الجدل لسانيا، فإن قرار معيرة الأمازيغية يبقى خيارا سياسيا تحدده الحكومات، وهذا ما أكده عبد السلام خلفي في كتابه «معيرة اللغة الأمازيغية في ضوء بعض التجارب العالمية»: «الاختيارات المبدئية تظل في العمق اختيارات سياسية، رغم مظهرها اللساني، إذ بقرار سياسي، يمكن أن تمعير اللغة في اتجاه الانفصال عن الفرع /الفروع (التعقيد المختبري/معيرة الفرع الجهوي)، أو في اتجاه الاتصال وبناء ما يمكن تسميته» المتصل اللغوي» (معيرة اللغة الوطنية)».
معيرة لغة أم لغات أمازيغية
وإن اختلفت تصورات علماء اللغة للنموذج الأفضل لمعيرة الأمازيغية، فإنّ الصيغة الأرجح في بلدان مثل الجزائر والمغرب هي السعي لتوحيد اللهجات الأمازيغية وإنشاء لغة معيار وسيطة على أساس «بناء المفرد بصيغة الجمع»، وهو ما يوضّحه رائد الحركة الأمازيغية في ليبيا مادغيس أومادي: «الفكرة الأساسية للغة المعيارية هي البحث عن القاسم المشترك بين التنوعات، بمعنى أن هذه اللغة تهتم بالبحث عن الكلمات والمعاني المشتركة للهجات الأمازيغية، التي يختلف نطقها بين منطقة وأخرى. ويتم توحيد هذه الكلمات وإنشاء لغة وسيطة يفهمها الجميع، وسماها الباحثون الأمازيغ اللغة المعيارية». «أصوات مغاربية»
وإن كان لهذه المعيرة بعض المزايا إلاَّ أنّها لا تخلو من العيوب والأخطار. فهذه اللغة المعيارية ليست عابرة للأقطار، وإنما تنحصر في حدود الأوطان كمعيرة الأمازيغية الجزائرية أو المغربية. وعلى ما يبدو، فإن إنشاء لغة أمازيغية واحدة لكل الأمازيغ غاية لا تدرك… ومن نتائج هذه المعيرة خلق لغة أجنبية تختلف عن لغة الفرع، ينحصر استعمالها في المدرسة والإدارة ووسائل الإعلام، وخلق واقع لغوي أمازيغي شبيه بالواقع العربي الذي تحيا فيه العربية الفصحى إلى جانب العامية. يضاف إلى ذلك صعوبة تعلّم اللغة الوسيطة التي تجمع مفردات من عدة لهجات، بدون أن ننسى خطر محو التراث اللغوي والفولكلوري العريق. فلعلّ الحل الأنسب والأقل ضررا للغة والتراث ومستقبل الطفل هو معيرة الفروع اللغوية الموجودة في الواقع وتطويرها بشكل منفصل، مثل معيرة لغة تاريفيت، أو اللغة القبائلية، أو اللغة التارقية، وترك مشروع اللغة الموحدة ـ إن كان ذلك قابلا للتجسيد ـ للأجيال القادمة، مع المحافظة على الأسس المشتركة للغات الأمازيغية والخصوصيات المحلية، وإثراء هذه اللغات بالمفردات والمصطلحات، وضبط قواعدها ونظام كتابتها، وإفادتها بالوسائل التكنولوجية كتصميم برامج لتعليم اللغة يحمّلها الطفل على جهاز الكومبيوتر أو الهاتف الذكي أو الآي باد، وإصدار المعاجم والكتب المدرسية وغير ذلك، بما يمنح اللغات الأمازيغية فرصة التطور الطبيعي، بعيدا عن المخابر وأي عبث. وسيتيح ذلك للطفل تعلم لغته الأم بسهولة وسرعة بدون أن يشعر بأنه يتعلم لغة وسيطة أجنبية غريبة عنه، تُشَيّد على أنقاض لغات بقيت حية لمئات السنين. فاللغة كيان يحيا في بيئة ما، ولهذا الكيان روح مستقلة، لا يمكن مزجها بأرواح أخرى حتى إن كانت أرواحا شقيقة خرجت من رحم واحد.
٭ كاتب جزائري ـ بريطانيا
مولود بن زادي