جاء صوتها من باريس عبر الهاتف دافئاً طفولياً. تقول غادة السمان: سأهديك نسخة من كتابي الجديد «يا دمشق وداعاً»، وتواصل حديثها: أي الأماكن تحب في لندن؟ أقول مازحاً: الأماكن التي كنت تأتين إليها، والتي ذكرتها في كثير من أعمالك. قالت: لماذا تذهب إلى الأماكن التي كنت أذهب إليها؟ قلت من دون تردد: تذكرني بغادة السمان. ابتهجت كما تبتهج ياسمينة دمشقية. وقالت: أشكرك، سأرسل لك نسخة من كتابي قريباً.
وجاء الكتاب، وجاءت غادة السمان، ياسمينة مجرّحة في ثياب من الأريج. لغة مضرجة، موجعة، حادة، مشفرة، متمردة، باذخة. أسست غادة لها أسلوباً في الكتابة، جارحاً حد تفجر الدماء، ناعماً حد انبجاس الأريج. أسلوباً احتذاه وسار عليه الكثير في ما بعد. غادة التي وضعت روحها في حقيبة سفر، وعلقت حياتها على أجنحة الطائرات، ومضت مقاتلة عنيدة تقاتل على كل الجبهات، لكن قتالها، هو قتال الياسمين، عندما يحارب القبح باللون الجميل وفوح العبير، غادة «العاشقة المجنونة الخائبة»، التي انسلت ذات يوم من غرفة مغلقة، وغافلت الجميع لتهرب من «فرسان القبيلة»، وتلتحم بالمطلق العظيم، «الحرية، الحرية، الحرية»، كما تسميه.
انطلقت تنشد حريتها من دمشق إلى بيروت، إلى لندن وباريس ونيويورك وكل الدنيا، ورغم ذلك لا تزال في كتابها الأخير، روايتها الأخيرة «يا دمشق وداعاً»، تبحث عن هذه الحرية التي سلبت من المرأة العربية، والرجل العربي، على حد سواء. «القبيلة» ثيمة بارزة في أدب غادة، وتقاليد القبيلة هي انعكاس لتقاليد عبس وذبيان وبكر وتغلب، وجع باذخ في كتب السمان، وجع من القبيلة التي حولت دمشق إلى خيمة يحيط بها رجال مدججون بالحقد والكراهية، وجعلت سوريا صحراء مترامية الأطراف، تنوح فيها نساء عبس وذبيان، ويجول في أرجائها الموت. تحاول غادة السمان الخروج من غبار الخيول التي تدخل دائماً معارك خاسرة في هذه الأرض التي حولتها قبائلها إلى بادية مترامية الأطراف تمتد من ضفاف الماء إلى ضفاف الحريق. تلجأ المرأة للحب أحياناً، لكي تمارس حريتها، تعتنق الحب لتعيش حرة، غير أنها تكتشف أن الحب ربما كان الطريق الخطأ في سعيها نحو الحرية، الحب قيد آخر. الحرية التي خرجت غادة تنشدها ذات يوم، وانسلت من الغرفة، وذهبت تجري في «الميدان» في دمشق، ومنه إلى كل ميادين العالم، التي جابتها بحثاً عن الرجل الغائب، المعنى الغائب، الحب الغائب، الحرية المفقودة، المطلق الذي ينبئ أدب غادة بأنها تحاول الالتحام به، مع وجود دلائل في روايتها الأخيرة أنها لا زالت تبحث عنه، متسلحة بعزيمة فرسان نبلاء، لا فرسان قبيلتها الذين اختصروا كل معاني الشرف في زاوية ضيقة من جسد المرأة.
لا تستسلم غادة. تسقط وتنهض، وتواصل المشوار، بحثاً عن الحبيب الوحيد الذي أفصحت عنه مؤخراً، حبيب ينتهي اسمه بتاء تأنيث مربوطة، «الحرية، الحرية، الحرية». تقول: «الحب مسيرة رائعة، على حبل ممدود بين النجوم، وما من شبكة واقية تحته. وعلى المرء أن يرضى أو لا يرضى بتلك المغامرة. أنا وجدت الأمر يستحق العناء، خسرت، وسقطت، وأحاول الآن تصحيح غلطتي، فأنا بشر، ولن أدع أحداً يسلبني حقي في الحرية… وحقي في الخطأ أيضاً. فالحب مغامرة، وما من بوليصة تأمين ضد الفشل… وأنا فشلت. أنا مجروحة، ومخذولة، وأعترف بذلك، وأحاول تصحيح غلطتي». هذا أدب عظيم، قبل ان يكون اعترافاً موغلاً في خيبته.
ميزة الأدب العظيم، أن قارئه يشعر بأنه هو الذي كتبه، لأنه يطرح روح القارئ على البياض. الأدب الخالد هو الذي يكون فيه القارئ كاتباً، يحس بأنه يكتب نفسه في ما يقرأ. وهذه من مزايا غادة في كتاباتها الحارقة المتمردة المبهجة حد الألم.
غادة التي تخلص منها الكثير من أصدقائها «ولكن بلطف ورقة كحد الشفرة»، لا لشيء إلا لأنها رفضت «لعب دور الجارية الأديبة»، هذه الدمشقية التي تغترف من قاموس مرعب، والتي خرجت ذات يوم تنشد الحب، تنشد الحرية، تلتحم بالمطلقات، فسقطت، ونهضت، وانهزمت، وانتصرت، في قيم نسبية، لم تشف غليلها في الالتحام بالمطلقات الخالدة. غادة التي يلخصها هذا النص الدرامي المثير من كتابها «يا دمشق وداعًا»: «الأمواج الهائجة تلقي بي على قمة جبل… وأنا واقفة على شفير هاوية… أرى بوضوح أنني واقفة على حافة واد سحيق… وأقرر بصدق: أريد أن أموت بعدما فقدت الإنسان الوحيد الذي عرف دخيلة نفسي وأحبني.. أريد أن ينتهي كل شيء.. ويتوقف كل شيء.. أريد أن أموت.. أريد أن أقفز إلى الهاوية.. أن أموت.. أن أغادر ذلك كله.. أن أموت.. أقفز دونما تردد.. أهوي.. وقبل أن أصل إلى قاع الوادي واتحطم، أشعر بالندم.. بالندم الحقيقي العميق الجارح.. لا.. لا أريد أن أموت.. سأطير كي لا أقع.. سأحرك ذراعي كي يصير لي أجنحة.. لي أجنحة ويجب أن أجدها وأطير.. أطير حقاً، إنني أطير.. لا لا.. لا أريد أن أموت». غادة هنا تحكي عن نفسها، وإن أنكرت ذلك بقولها إن روايتها تخص شخصيات متخيلة، وإن وافقت شيئاً من الواقع، فلمجرد المصادفات.
قلت لها على الهاتف: إذا جئت لندن، فسنزور الأماكن التي زرتِها من قبل، وكتبت عنها في رواياتك، وأدب رحلاتك. قالت: أكيد. قال كريم العفنان صديقنا المشترك الجميل سأكون معكما. وقبل أن تأتي غادة لندن جاء كتابها وجبة دسمة من الألم العربي الذي رأيت فيه صنعاء تحترق في دمشق.
إلى لقاء صنعاء، إلى لقاء دمشق، إلى لقاء غادة السمان.
كاتب يمني من أسرة «القدس العربي»
محمد جميح
سلمتما كليكما…..وشكراً.
كاتب وناقد وشاعر وأديب وتمدح الأديبة غادة السمان يا بختها
غادة السمان تعشق الحرية وأنا كذلك يا دكتور جميح
لا حرمنا الله منكما
ولا حول ولا قوة الا بالله
من منا لا يحب حكايا التمرد على طريقة غادة السمان التي دائما ما تسعى الى اعلان حرب انثوية رقيقة بكل ما فيها ، شرسة عنيدة أيضا بكل ما فيها ضد كل من يحاول
طمس معالم الشخصية الانثوية القوية التي لا تُطوع ولا تلين ازاء اي محاولة ارضاخ … هذه هي غادة دوما وهكذا اتوقع ان تكون في روايتها هذه قبل حتى أن أقرأها
أين يمكن لنا الحصول على الرواية بالمغرب
زرت المعرض الدولي للكتاب بالبيضاء منذ فترة … لا توجد منشورات دار الطليعة
احييك يا سيد ( محمد جميح ، و احيي فيك ( غادة السمان ) الحبيسة في رفوف اعيننا المتكابرة في مماطلتنا القابعة في سجون قلوبنا
نحن ( الضعفاء ) امام سحر بيانها و ( الضعفاء ) امام هيام مجازفتها ، بعد ان تغلغلت ( احرفها ) في خواطرنا ، و اذابت ما كنا نمتلك من ( مناعة ) في وجه ( التشظي العاطفي ) !!!
و لكن لا باس لا ( تنزعجوا ) نحن ادخلنا مشكورا ( محمد جميح)
زاوية ( غادة السمان ) و الشكر عائد لها ايضا ، و اعذب كلام الفؤاد اكذبه و السلام .
السلام عليكم
اليكما تحية من أعماق الحرف العربي الذي رسم بحروفه اقدس كلمة بعد الله وهي((الحب))التي سعت انامل في رسمها واجتهدت شفاه في نطقها واتسعت قلوب لإحتوائها ونفرت منها أخرى لأنها ليست على المقاس وتجند لها كل من(( الكاتب :محمد جميح وايقونة الادب:غادة السمان)) وغيرهما من صنّاع الكلمة في نشرها على صفحات الفكر بمداد محلوله مستخلص من السائل المتدفق غبر الاوردة لجسم يقبل حقن ذلك السائل…
لقد وجدت عند غادة ما تمنيت أن ألقاه فقد وجدت: الحب من الوريد للوريد وسفر (ممتع) عبر حقيبة والحرية في لحظة هروب..لذلك كانت ((غادة عندي ايقونة الادب والطيب صالح(رحمة الله عليه)كلمة السر للادب الحديث ومحمد جميح اكتشافي الجديد للكلمة الهاربة عبر الحدود المغلقة..هذه وجهة نظر اجعلها وساما على صدري
ولله في خلقه شؤون
وسبحان الله
كيف يمكن التواصل مع سيدة نساء الأدب الجميلة الجليلة غادة السمان، أنجز أطروحة دكتوراه عن أعمالها الشعرية، و أتمنى من قلبي أن تسعفني الحياة بفرصة فرح التواصل معها، محبتي و امتناني
الأذب وجد ليضعنا على أجنحة الطائرات، وعلى أجنحة النوارس ، ونحن غالباً من يكتب الأدب وهو يقرؤه ،
كانت أحلامنا في بدايات وأواسط القرن الماضي ، بالحرية وكيف نحرر أرضنا المغتصبة من الصهاينة ، بعدما كنّا أصحاب الأرض والعرض ، كيف أصبحنا نخُط الرسوم ونكتب الروايات ، ونحلم بهذا الحلم البعيد، ونذلل ذاك البُعد العربي القومي ، من أجنحة الطيران إلى أرض الواقع ،!؟
هكذا تم أغتيالنا ، بتفجير الأحلام والقتل والطائفية والتحجر والتحنيط بمشاريع وهمية قبيحة المعالم، كنّا نحس أن فلسطين قريبة جداً ، الأن أصبحت خلف ألف عامٍ وعام ، ومعها بيروت ودمشق والعراق العزيز واليمن السعيد الغالي ، أرضينا مسروقة بأيدينا، وهوائها مسمّم بفكرنا الضال …
غادة السمان، أسطورة غنية عن التعريف ، هي وكثيراً من الذين : بقو لنا ، وسيظلون قنديل ، تستنير بهم بهذا الوضع العربي البهيم المُدلهم…
يبقى الحب والحريّة ، الشىء الجميل والمُنتصر علينا ،