للراحل محمد حسنين هيكل مريدون مفتونون أو كارهون حاقدون، مشطـّـــون في ما يشبه التقديس أو مسرفون في الذم والقدح. لست من هؤلاء ولا أولئك، أحترم الرجل قامة صحافية نادرة وشبكة علاقات رهيبة وتجربة سياسية ثرية، لكن ذلك لا يعني بالضرورة التماهي التام مع كل ما قاله أو كتبه أو فعله.
اختارتني «الجزيرة» عام 2006 لإجراء أول مقابلة معه ثم تعددت بعد ذلك هذه المناسبات لتصل إلى أكثر من خمس عشرة تشعبت مواضيعها من الشأن المصري الداخلي إلى شجون المنطقة وتعقيداتها إلى الانتخابات الأمريكية وصولا إلى الثورات التي حصلت في تونس ومصر وليبيا فاليمن وسوريا… ليرتسم معها تدريجيا الفراق الذي حصل بعد ذلك بين الرجل والمحطة.
طوال هذه السنوات العشر، بُـني بيننا ما يقترب من الصداقة، وكان واضحا في كل المقابلات على الهواء الاستلطاف المتبادل التي يطبع كل واحدة منها ما جعل بعضها أقرب إلى الدردشة الودية بين صديقين رغم الفرق الشاسع بداهة في المكــــانة والمعرفة والتجربة. التقيته عشرات المرات في شقته الملتصقة بمكتبه في القاهرة أو مزرعته في «برقاش»، كما التقيته في لندن عندما رفضت السلطات المصرية ذات مرة منحي تأشيرة دخول. في كل مرة كنا نخوض في قضايا شتى مهنية وشخصية وسياسية قبل أن نتطرق إلى محاور كل مقابلة وتسلسلها، ثم يترك لي تفاصيل إدارتها دونما تدخل في طبيعة الأسئلة أو مضمونها. كان فقط يسأل في النهاية عن لون بدلتي وربطة العنق، خاصة وأن كلينا متيم باللون الكـحلي ولا يلبس غيره تقريبا!!
آخر مرة التقيته كان مباشرة عقب انتخاب محمد مرسي رئيسا لمصر في حزيران/يونيو 2012، زرته للسلام ويومها قال لي بطريقته اللمـــّاحة المعبـــّرة أنه متابع لكل ما أكتبه، بما يكفي لفهم أنه لا يتفق مع الكثير منه. لم يقل المزيد لكن كان واضحا من خلال نقاشات تلك الجلسة أن موقفينا مما يجري في سوريا بالخصوص وتشعباته مختلف تماما، وهو الخلاف الذي كان بدأ يرتسم جليا في آخر مقابلة بيننا على الهواء مطلع تشرين الثاني/نوفمبر 2011على امتداد ثلاث حلقات حول مآلات الثورات العربية. كانت تلك آخر طلة له على شاشة الجزيرة.
ظللت أتابع بعد ذلك كل ما يقوله هذا «الجورنلجي»، كما يفضل أن يصف نفسه، عبر المحطات المصرية. في المرات التي كنت أتصل فيها به هاتفيا للسلام كان يسأل بلهفة عما إذا كنت تابعت مقابلته الأخيرة فأرد بأني قرأت ما جاء فيها فقط، فيرد «لا.. لا.. ضروري تشوفها»… فأعده ولا أفعل. وفي آخر اتصال جرى بيننا قبل زهاء الثلاثة أشهر، سألت عن صحته وأخباره فقال «تعال لزيارتنا في القاهرة..وحشتنا يا راجل!!».. فقلت له «بحول الله».. إذ لم أشأ أن أعكــّـر مزاجه بأي تعقيب آخر من أي نوع.
تعاملت مع الرجل طوال هذه الأعوام بتقدير كبير بادلني إياه بما هو أحسن. لم أشك لحظة في كونه قمة صحافية كبرى، ظل إلى الآخر حاضر الذهن متقده وكان في كل مرة يعطيني الانطباع بأنه يتصرف كمن يشرف على آخر لمسات الصفحة الأولى قبل طباعة الصحيفة. اتفقت مع بعض ما كتبه أو قاله سابقا أو مؤخرا وأختلفت مع بعضه الآخر وخضنا في ذلك قليلا أو كثيرا، رغم أني كنت أفضل في الغالب الاستماع إلى وجهة نظره أكثر من مناقشته. من قال إن على الصحافي أن يتطابق مع ضيوفه في آرائهم ؟! ولماذا لا نوطـّـن أنفسنا على التفريق بين احترام الشخص والتباين مع بعض أفكاره؟!! ومتى كان على الصحافي أن «يتبرأ» من مواقف هذا أو ذاك ممن التقى بهم أو حاورهم وهو المدعو لمقابلة المئات من ملل ونحل ومشارب لا تعد ولا تحصى؟!.
مريدو «الأستاذ» ومحبوه الخلـّــص لم يروا شيئا من عيوبه ولا هم جاهروا بمخالفته، أما كارهوه ومبغضوه فلم يروا منه إلا ذلك تحديدا معطوفا عليه عداوات سابقة متأصلة تعود في أغلبها إلى مواقف هيكل منذ الفترة الناصرية فضلا عن مواقفه الأخيرة. استمر «حواريوه» في حبه بلا تحفظ.. فيما استقر «أعداؤه» في بغضه بلا تردد. لا هؤلاء عـــدّلوا قليلا ولا أولئك!!
مرض هيكل لفترة قصيرة فدعوت له في محنته، ثم رحل عن دنيانا الفانية فترحمت عليه، فيما لم يتورع البعض الآخر، والعياذ بالله، عن الشماتة في المرض والموت معا !!. ورغم ما خلـّــــفه ذلك من مرارة على ما آلت إليه بعض النفوس، فإن ما لم يتجرأ عليه أحد أبدا هو الطعن في قيمة هيكل الصحافية وقلمه الساحر وسلاسة حديثه وسعة اطلاعه إلى أن صار أبرز صحافي عربي في العقود الماضية على الإطلاق، تقصده شخصيات دولية ووسائل إعلام كبرى ومراكز بحثية دولية مختلفة للوقوف على تقديراته للموقف في منطقتنا، فهل يطمع الصحافي في أن يُـــذكر بعد رحيله بما هو أكثر من ذلك؟!! أما غــــــيره، فهو إما بين يدي المؤرخين، أو بين الرجل وخالقه وهو أرحم الراحمين.
٭ كاتب وإعلامي تونسي
محمد كريشان
اصطف مع الاستبداد وهذه لوحدها الطامة الكبرى وتقصم ظهر الرجل. فماذا بقي له بعد ذلك.