مغناطيس

في حوار شيق مع شقيقي طاهر، وهو قارئ مطلع في مجال الدراسات السيكولوجية والفلسفية، كنت أشتكي له غرابة التناقض الدائم الذي نعيش فيه كعرب وكمسلمين والذي طالما كتبت عنه في مقالاتي ها هنا، كيف نعيش الشيء ونقيضه؟ كيف نقول الشيء ونفعل عكسه؟ كيف ندعي أخلاقا ونأتي بما ينفيها؟ تذكرت ونحن نحكي كلام د. محمد قاسم، وهو العالم الكويتي الذي أعلنته مجلة Nature Middle East أحد أهم ست شخصيات عربية المشجعة للعلوم في الشرق الأوسط، حول الأشياء التي لا يمكـــــن للعـــــقل البشري أن يتصورها، منهــــا مثلاً العدم، العوالم غير ثلاثية الأبعاد (أي عوالم ثنائية أو رباعية الأبعاد)، والشيء ونقيضه.
يقول د. قاسم إن العقل البشري لا يمكن له أبداً أن يتخيل الشيء ونقيضه في آن، أي لا يمكن له أن يتخيل إنسان حي وميت في الوقت ذاته على سبيل المثال، الا أننا وبقدرة قادر، تحدينا القدرات العقلية البشرية، واستطعنا أن نعيش الشيء ونقيضه، أن نؤمن بالشيء وعكسه، أن نقول الشيء ونظيره، ظاهرة عربية إسلامية بامتياز.
وحين كنت أشتكي لأخي إنجازنا القاهر هذا، حين كنت أتذمر من الإدعاء المتعالي بالأخلاق المتزامن والأداء الهابط المفصول عن هذه الأخلاق، دلني على مفهوم مهم جداً، ينطبق على كل البشر، ألا أننا «البروتوتايب» أو النموذج الأول الأفضل له. شرح لي طاهر مفهوم compartmentalization أو بالعربي لربما ما يترجم إلى التحاوز (أي ما ينقسم الى أحياز) حسب قاموس المعاني، حيث يعمل العقل ليس بشكل هرمي، شيء يحدث بسبب حدوث شيء آخر، ولكن بطريقة مقسمة تدفع بالأفعال والأفكار بشكل منفصل عن بعضها البعض.
ببحث بسيط حول الموضوع، تبين أن التحاوز هو عملية «فرق تسد» كما يصفها موقع changingminds.org «والتي من خلالها تتم تفرقة الأفكار التي يمكن لها أن تتعارض مع بعضها البعض. يمكن لذلك أن يحدث إذا ما كانت هذه الأفكار تشكل إيمانيات مختلفة أو حتى إذا ما كانت قيما متضاربة». يعرض الموقع سريعاً طريقة علاجية لهذه الحالة متعاملاً معها كحالة خلل نفسي على الرغم من وجودها بنسب مختلفة في كل نفس بشرية تقريباً.
نحن، على عادتنا، لا نألوا جهداً في الإندفاع بأقصى سرعتنا في طريق المعضلات الإنسانية. إذا كان كل البشر متعصبين فنحن ملوكهم في التعصب، إذا كانوا كلهم يحوزون درجة عنف، فنحن أسياد عنفهم، إذا كانوا كلهم يعانون المخاوف، فنحن نعيش في رعب دائم، إذا كانوا كلهم على درجة من الأنانية فنحن النرجسية متجسدة. هكذا نحن، نأتي المركب الإنساني من أقصاه، نتمادى ونتهادى، نحوز المعضلة ولا نتركها أبداً. هو واقعنا، هو غيابنا عن الحاضر وإستمرار عيشنا في أعماق تاريخ بعيد، هي مشاكلنا السياسية القمعية، هي معاناتنا مع آخر حالات الاحتلال الشرسة، كلها ظروف تفسر ولكنني لا أعتقدها تبرر، ولكن يبقى الواقع هو الواقع، ونبقى نحن أيقونة المتناقضات، وصندوق المعضلات البشرية.
وهكذا، تجده لا يفوت فرضاً ولكنه يصوت لفاسد، تجدها تحرص على إخفاء كل شعرة من شعيرات رأسها تحت غطائه لكنها لا تستنكر أن «تشتم» الآخر بجنسه وانتمائه. أبعد من ذلك، أن مشايخ هذه الأمة أسسوا لحالة «تحاوز» دينية عامة أسست لحياة متناقضة ومشاعر متضاربة ورغبات متنافرة في العموم، يحرمون الخمر ويعدون به المؤمنين في الجنة، يضعون ألف قيد على العلاقات البشرية بين الجنسين، ويجتذبون به المحرومين في الآخرة (الرجال دون النساء على اعتبار أن النساء مخلوقات بلاستيكية لا رغبة لديها تعذبها ولا مشاعر لديها تحترق بها جراء ما يوعد به شريكها في الجنة)، كل حرام الدنيا يصبح حلالا في الآخرة، كل الرغبات والشهوات والتطلعات والاشتياقات الممنوعة في الدنيا، تصبح مسموحة ممنوحة عن طيب خاطر في الآخرة، حالة من التناقض والإزدواج الفكري تجعل العقل العربي الإسلامي مقسما ليس فقط لأقسام وحجرات عدة، بل إلى طوابق وشقق وفلل وملاحق، كل يحتوي على فكرة متناقضة والآخرى، قيمة متنافرة مع جارتها، لا يمكن لها كلها بتناقضها وتنافرها وتصادمها أن تجتمع إلا في عقل تقسم بخطة بعيدة المدى ومع سبق الإصرار والترصد.
هذا التناقض متعب، مرهق، كأننا نعيش طوال الوقت متواجهين وطرف مغناطيس متنافر معنا، نقول ما يتناقض وتصرفاتنا، نفعل ما يتباعد والقيم التي ندعيها، أي حالة من التمثيل المستمر المجهد والخداع الدائم المضني نحن نعيش؟ متى ينتهي هذا «التحاوز» ونفتح عقولنا حجرة واحدة متسعة متسقة يدخلها كلها الهواء وتتسلل الى كل أجزائها الشمس دون حواجز أو فواصل؟

مغناطيس

د. ابتهال الخطيب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Harry/uk:

    عزيزتي الرائعة ,,, د. ابتهال الخطيب
    دائما انتظر قلمك السحري الذهبي و كلماتك المحايدة العادلة ,,, ان نقدك السلبي لعالمك العربي و اسلامي شجاعة من اجل مستقبل افضل و ليس كراهية او خيانة ,,, و حقا اصبتي عندما تحدثتي عن تعصب بل انا اعتبرة ,, مااستر العنصرية ,,, و جدا اعجبني جملتك التالية ,, أن مشايخ هذه الأمة أسسوا لحالة «تحاوز» دينية عامة أسست لحياة متناقضة ومشاعر متضاربة ورغبات متنافرة في العموم، يحرمون الخمر ويعدون به المؤمنين في الجنة، يضعون ألف قيد على العلاقات البشرية بين الجنسين، ويجتذبون به المحرومين في الآخرة (الرجال دون النساء على اعتبار أن النساء مخلوقات بلاستيكية لا رغبة لديها تعذبها ولا مشاعر لديها تحترق بها جراء ما يوعد به شريكها في الجنة) ,,, كل حرام الدنيا يصبح حلالا في الآخرة، كل الرغبات والشهوات والتطلعات والاشتياقات الممنوعة في الدنيا، تصبح مسموحة ممنوحة عن طيب خاطر في الآخرة، حالة من التناقض والإزدواج الفكري تجعل العقل العربي الإسلامي ,,, كلماتك ذكرتني بصديق لي مسلم بريطاني من اصول عربية يمتلك مطعم و يعلق لافتة ,, حلال ,,, لكنة ايضا يبيع الخمر ,, كنت في زيارتة و كان هناك ٢ سائح من دولة خليجة ,,, سألوة بحزم ,,, هل الطعام حلال ؟؟ , فاجاب بكل ثقة ,,, حلاااااال ,, فقالو لة ,,, اعطنا ٢ مشاوي لخوم و زجاجة نبيذ

  2. يقول ع.خ.ا.حسن:

    بسم الله الرحمن الرحيم. الاخت ابتهال المحترمة، ان لا الذين بغمطون حقوق النساء في الحياة الاخرى _في الجنة_جهلة. واذكرك بقوله تعالى (انا انشأناهن انشاءا. فجعلناهن ابكارا. عربا اترابا. لاصحاب اليمين )ويتنعمن ويتمتعن كما الرجال ان كانوا وكن من اهل الجنان.ونسأله تعالى ان نكون واياك من اهلها بصدق ايماننا وصالح ايماننا

  3. يقول احمد الفرحان:

    نعم.. ان مفهوم التحاوز جديد لدي ولكن كنت افكر في المعنى او السلوك المتناقض نفسه.. حيث كنا نسمع ونحن صغار مثلا بان الكذب حرام ولكن اهالينا يمارسونه امامنا… او ان الطبيب يقول لا تتناولون الحلويات.. ولكن الثلاجة في عيادة الطبيب تبيع الحلويات عبر وضع النقود المعدنية فيها… ومن هنا تبدأ الافكار تتضارب وتصبح لدينا شخصيتين او اكثر…. او شيزوفرينيا بالمفهوم الاشد.

  4. يقول محمد حسنات:

    نعم، سيدتي، طالما نعيش ،الظاهر والباطن معآ ،سنبقى في
    حالة تناقض،متوالية لا نهاية لها،ما لم يتصدى لعلاجها أهل،
    إختصاص،ودراية بطبيعة النفس البشرية !.
    الخروج من ظلام الكهف،الى نور الشمس ،قد يكون فيها الحل!

  5. يقول Hany Martini - Croatia:

    مقال رائع يوصف بشكل دقيق نفسية الانسان العربي بصورة عامة والمسلم بصورة خاصة من حيث انفصام شخصيته التي تظهر بوضوح التناقض الفظيع بين مايعتقده ويفكر به وبين مايقوله وبين مايفعله ، وليس هذا الانفصام الثلاثي الأبعاد في شخصية الفرد فحسب بل هو واضح ايضا في المجتمعات وفي قمتها الحكومات في جميع الدول العربية وخذ مثلا الحكومة السورية التي غسلت ادمغة شعبها على مدى خمسين عاما بشعار الوحدة والحريّة والاشتراكية والمقاومة والممانعة ولم يطبق من كل هذا سوى عكسه ، فالحزب البعثي انشطر الى سوري وعراقي وأصبحوا ألد الأعداء ، ولم ير الشعب السوري طعما للحرية حتي ولا في تفكيره ، اما الاشتراكية فقد كانت لتقاسم السلطة وثروات البلد بين أفراد العائلة الحاكمة ، اما المقاومة فقد كانت على مدى خمسين عاما ضد أية رصاص تنطلق باتجاه اسراءيل العدو المعلن والصديق الحميم في السر .

  6. يقول محمد حاج:

    وهل هناك اكثر من التناقض الذي نعيشه الان؟ الدول العربية تدعم الشرعية في بلد عربي ، وفي نفس الوقت تدعم الانقلاب في بلد عربي اخر ضد الشرعية !! ، فكيف لن تنشأ فينا أمراض الجنون والقهر والتناقضات ؟ وكيف لن يخرج جيل متهور مندفع بسبب الظلم الواقع عليهم من جراء التمسك بالمبادئ والقيم ، الدول العربية تتهم ايران بالتآمر على الوطن العربي ، بسيطة أقطعوا العلاقات معها وواجهوها علميا وعسكريا واقتصاديا .

  7. يقول سيف كرار .السودان:

    مقالة ممتازة ، معادلة صعبة ان يعيش البشر في تناقض بين الباطن والظاهر معاً..وكل علوم ما وراء الطبيعة ….،وكل التدخلات الشخصية الشيطانية (انتربيرسونال ماجيكال) …عالمنا العربي والاسلامي يمر بطور رهيب في العلوم الانسانية وصولاً الي مرحلة البروتايم والعودة الي العصور المتحجرة ..لذا الاهتمام بدراسة الانسان وسيكلوجيتة من اهم الامور ،في العالم العربي والاسلامي الفرد من الشعب لا يعرف معني الديمقراطية ، ولا الاشتراكية الاسلامية ولاحتي الرأسمالية الاسلامية ،ولا حتي معني الضمير …

  8. يقول عبد الكريم البيضاوي . السويد:

    الإسلام في البلدان العربية خصوصا ( بحكم عامل اللغة ) يفهم فيه الناس ولوكل بحسب مقدوره لبعض القواعد والشروط , وبحكم الغاية النبيلة من طرف المسيرين السياسيين وحتى بشروط من قادة العالم المتحكمين, صار المسلم العربي في الكثير من البلدان العربية لايسمع ولايقرأ إلا ما لايتعارض مع الفكر الإنساني المعاصر, وذاك شيء جيد, لكن الأجزاء الأخرى قد لايسمع بها المسلم المعتدل إلا من لدن المتطرفين السلفيين والجهاديين.
    لهذا يتساءل المسلم بل وحتى ينكر أن الإسلام المسوق من الإرهابيين في المشرق العربي لايمت للدين بصلة , نسمع عن الأزهر وغيره عن مواقف وتصريحات يبتعدون فيها عن هذا الفكر, لكن لايكفرون مزاوليه.
    فأركان الإسلام الخمس قد يتفق عليها كل المسلمين لكن حين الوصول لأحكام الحدود مثلا:” كالجلد والرجم وقطع يد السارق وقتل المرتد إلخ …) هنا يبدأ البعض في التساؤل. قد نجد البعض يحبذ فكرة الخلافة ( لمافيها من فكرة ربما الوحدة والقوة إلخ …) لكن عند فرض فكرة الجزية عن المواطن المسيحي مثلا أو اليهودي تجدهم يفكرون مليا.
    أنا مع رأي الأخت ابتهال, المسلم قد يجد نفسه في موقف لايدري فيه أهل سيأخد الكل أو سيستفتي عقله وضميره, أرى أن على رجال الدين ( إن أرادوا ) مسؤولية الإتيان بخطاب عصري جديد وأن لأحداث التاريخ سياقاتها وأسبابها , حتى يتحرر المسلم في عقله وفكره وينظر لأمور الدنيا ومشاكلها بنظرة مستقبلية وليست تاريخية.

  9. يقول سوري:

    مصطلح التحاوز لخصه علامتنا اللغوي أبو أسود الدؤلي ببيت واحد

    لا تنه عن خلق وتأتي بمثله عار عليك اذا فعلت عظيم

    شكرا للاستاذة ابتهال على هذا المقال البديع

  10. يقول Ossama Kulliah أسامة كليَّة سوريا/المانيا:

    يقول بعض الفلاسفة أن العقل هو آلة منطقية أي آلة تعمل بالمنطق وهذا ما يجعلنا نستغرب في بعض الأحيان أجوبة الأطفال وأسئلتهم ونفرح جداً بها ونستغرب كيف لم ننتبه لها رغم بساطتها وعلى الجانب الأخر هناك السلوك الفطري الذي الأولي الذي يعود إلى الاستجابة السريعة كضرورة لإنقاذ الحياة عند تعرضها للخطر المفاجئ والذي يملأ الحياة اليومية في الغابة حيث الخطر المباشر ينتظر الجميع في كل لحظة وكل مكان وهذا الأخير هو الذي أو من المفترض أن التطور الحضاري للإنسان تغلب علية جزئياً وهذا ما تعنيه الأخت ابتهال في الجزء الثاني من المقال حسب اعتقادي “الإندفاع بأقصى سرعتنا في طريق المعضلات الإنسانية” والذي يتحول إلى التعصب بأشكاله المتعددة بالإضافة إلى كافة أنواع المشاعر اللإنسانية والتطرف الديني والاجتماعي والسياسي التي أصبحت رائجة في الفترة الأخيرة والمثال الواضح على ذلك ليس فقط داعش والأنظمة العربية بل أيضاً الرئيس المنتخب رامب وبعض التيارات المتطرفة في عالمنا المعاصر. بالنسبة لمجتمعنا العربي وبسبب التردي السياسي الاجتماعي الذي نعيشه أصبح الموضوع على أشده وبرأيي الحل الأكثر فاعلية هو التحرر المتكامل السياسي الاجتماعي الفكري الثقافي والذي يبدأ طبعاً بتحرير العقل العربي من تناقضاته الفظيعة وقد كتب في ذلك الكثير من علماء الاجتماع والمفكرين والأدباء العرب ولكن أكثر ما ينقصنا هو الإرادة السياسية والاجتماعية لفتح آفاق هذا التحرر ولتدخل إلى عقلنا وحياتنا الشمس بحرية ودون حواجز أو فواصل.

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية