مقاطع عديدة لسايكس بيكو جديدة

حجم الخط
0

بعد مرور مائة عام على الاتفاقية المشؤومة بين الدول الاستعمارية الكبرى آنذاك، بريطانيا وفرنسا، تتواصل سياسة التقسيم والتفتيت، وتعلو اصوات التمزيق وتضخيم التباينات في اوساط امة المسلمين، حتى يبلغ الامر ان تكون اصوات الوحدة مرفوضة يتعرض اصحابها للسخرية والتنكيل. وما ان يظهر قادة يرفعون شعار الوحدة حتى يتعرضوا لأبشع اشكال المواجهة والتنكيل.
لقد فعلت سايكس بيكو فعلها، وساهمت في تمزيق اوصال الامة مائة عام، خصوصا بعد الاعلان الرسمي عن انتهاء الدولة العثمانية. فبرغم ضعفها وسلبياتها، كانت تمثل محور الارتكاز لأمة المسلمين في حقبة كانت القوى الاستعمارية تتقاسم النفوذ على بلاد المسلمين. وخلال القرن الماضي استهدف كل من سعى لاستعادة «المجد الضائع» باقامة دولة جامعة لشتات الامة، او توحيد كلمة مكوناتها. اصبحت كلمة الوحدة، كما هي اليوم، مرفوضة، ليس من اعدائها فحسب بل من بعض قطاعات الامة نفسها. رفع الامام الشهيد حسن البنا، لواء الدولة والوحدة، فكان نصيبه الاستهداف ثم الاغتيال في واحدة من اشد تاريخ الامة سوادا، متزامنا مع احتلال فلسطين واقامة الكيان الاسرائيلي. واذا كانت الوحدة تحت شعار الإسلام مرفوضة، فقد بقي المفهوم نفسه موضع تهكم وان كان بعناوين اخرى، كالقومية. ولذلك استهدف جمال عبد الناصر حين سعى لايجاد ارضية مشتركة بين العرب على اساس القومية العربية. وحين رفع الامام الخميني شعار الوحدة الإسلامية استقبل ذلك الشعار بعداء مكشوف من اعداء الامة.
هذه المرة كان الإعلام سلاحا ماضيا لمحاربة محاولات التقريب والوحدة. واستخدم هذا الإعلام وبقية اسلحة التمزيق بعد ما بدا من يقظة حديثة لشعوب الامة. فالربيع العربي انطلق من اجل حرية الشعوب العربية. لأن الحرية شرط للوحدة بينما العبودية تسلب حق القرار والاختيار. هذه المرة كانت ردة فعل اعداء الامة غير مسبوقة في وحشيتها وجنونها. فوضعت خططا ليس لمنع التحول الديمقراطي فحسب، بل للقضاء على مظاهر الصحوة والوعي، واعادة الجماهير إلى السبات مجددا.
ان ما حدث بعد قمع ثورات الربيع العربي لا ينفك عن مشروع النسخة المجددة لسايكس بيكو. وحيث ان من المستحيل تفكيك الامة الواعية التي يتمتع افرادها بحرية القرار، فقد انطلق دعاة التمزيق لتنفيذ مشروعهم بطرح ايديولوجيات تقضي على الوعي وتخدر الجماهير وتشغلهم بما لا طائل فيه من الجدال العقيم، وترويج مقولات الانتماء العرقي والمذهبي لضمان عدم تحقق الوحدة. فالباحثون عن الحرية في شوارع العواصم العربية في ربيع 2011 كان لدى قطاع كبير منهم بصيرة عميقة بضرورة توحيد الصف الوطني لأن ذلك شرط لانتصار الثورة. انطلق الثائر التونسي او المصري او اليمني او السوري او البحراني على اساس الانتماء للانسانية، فالبشر جميعا، على اختلاف اعراقهم واديانهم، يستحقون الحرية والكرامة، ولا يجوز معاملتهم باية وسيلة حاطة بالكرامة الإنسانية.
المنخرطون في مشروع التغيير الثوري كانت لديهم تجارب وخبرات في مجالات الحرية وحقوق الانسان، ولم يكونوا مشدودين للايديولوجيات المدمرة التي تحول دون وحدة الامة وشعوبها. كان الهتاف موحدا من تونس إلى البحرين: الشعب يريد اسقاط النظام (الذي مزق الامة وفشل في مواجهة الاحتلال). تلك الجماهير الواعية كانت تعي ان غياب الحرية عن المجتمعات من اهم اسباب الفرقة والضعف، وان ضعف الامة في مواجهة الاحتلال الذي استمر اكثر من ستين عاما، لا يمكن تلافيه إلا بان تكون الشعوب حاضرة في الميادين لتضمن قدرتها على اتخاذ القرار. وكثيرا ما قيل ان انهاء احتلال فلسطين لا يحتاج اكثر من حفنة تراب من ايدي المسلمين لتغمر ارض فلسطين وتنهي الاحتلال. فكان لا بد من تغييب الوعي الذي يفضي إلى قيام كيان إسلامي بهذا الحجم. وهذا يقتضي دعم الاستبداد والتصدي لمحاولات الشعوب نيل حريتها وتقرير حق مصيرها وانتخاب انظمة حكمها وتحديد سياساتها المحلية والدولية. انه صراع سياسي يتخذ من الاختلافات الطبيعية والدينية وسائل لضمان التفوق في المعركة الفاصلة بين الامة الواعية والكيان المسجى على المغتسل.
هذه الحقائق لا يختلف عليها الواعون والمخلصون من ابناء الامة، فليس هناك من رواد الحركة الإسلامية المبدئية من لا يقول بذلك. ولكن الجانب التطبيقي للقناعات مختلف تماما. مع ذلك لا بد من العمل الحثيث لتحقيق الوعي العملي الذي يتجاوز مؤامرات الآخرين، وذلك باستيعاب الحقائق التالية: الاولى: ان ايجاد كيان إسلامي متماسك واجب ديني، اي ان وحدة المسلمين ليست من القضايا التي يمكن اخضاعها للمناقشة او المساومة، بل ان مفهوم الامة لا يتحقق إلا بوحدة ابنائها «وان هذه امتكم امة واحدة وانا ربكم فاعبدون». وحتى في احلك الظروف فان على رواد الحركة الإسلامية العمل لمنع التفكك والخلاف «ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، واولئك لهم عذاب عظيم». فالامة ستكون مستحقة للعقاب الالهي ان هي تفرقت في الدين. الثانية: ان الامة المتوحدة قادرة على تقرير مصيرها، وذلك بالتعاون والتكاتف ومواجهة الظلم والدفاع عن المظلومين ليس من ابنائها فحسب بل من المنتمين للانسانية. الثالثة: ان الاختلافات الاجتهادية ضمن الدين الواحد امر طبيعي لتطوير السجال العلمي والبحث واثراء التفاعل الفكري والمعرفي، ولا يجوز تحويلها إلى صراعات تؤدي للفرقة والتناحر. الرابعة: ان صراع القوى في العالم يهدف لامور من بينها الهيمنة على بلاد المسلمين والسيطرة على ثرواتهم، خصوصا النفط، بالاضافة لفتح اسواقها امام الاطماع الغربية. الخامسة: ان ما يجري في بلاد المسلمين ليس امرا طبيعيا، بل امر مفتعل. فالتعدد العرقي او الديني او المذهبي ليس جديدا، بل انه موجود منذ القدم ليس في بلاد المسلمين فحسب، بل في اغلب بقاع العالم. فتلك ارادة الهية «ولو شاء الله لجعلهم امة واحدة ولا يزالون مختلفين». السادسة: ان الانشغال بالصراعات الداخلية يحول دون تحقق النهضة او حماية الحدود او تطوير الامكانات او الحفاظ على السيادة. والمنطقي ان ينبري المخلصون من ابناء الامة، كل من موقعه، لانهاء الفصل الاسود الذي أبعد الشعوب عن الصراع الحقيقي وأطمع الآخرين فيها، وذلك بالتركيز على الثوابت، وبث الأمل ولملمة الشمل. فتلك خطوات على الطريق الصحيح.
لقد توسعت دائرة التفتيت والتمزيق حتى اتسع الفتق على الراتق. مع ذلك ما يزال ثمة مجال للسيطرة على الامور ومنع المزيد من التداعي. ولكن ذلك يتطلب وعيا حقيقيا بالمخطط نفسه، والسعي لتجاوز العصبيات العرقية والدينية، بالاضافة لاستيعاب الحقائق المذكورة آنفا. الولايات المتحدة الأمريكية مستمرة في فرض ظاهرة القطب الواحد على النظام السياسي الدولي، ولا تريد منازعا لها سواء على المستوى الاقليمي او الدولي. وبروز روسيا كلاعب اساسي في شؤون المنطقة لا يغير كثيرا من الواقع، لأن روسيا ليست طرفا مستقلا في الصراع المحتدم، ففي الوقت الذي تتعاون فيه مع إيران حول القضية السورية فانها تتعاطى مع السعودية كذلك، وتزود دول الخليج بالسلاح المتطور لديها. ووجودها العسكري في سوريا ينطلق من رغبتها في تثبيت موطئ قدم لها في المنطقة بعد عقود من الاستحواذ الأمريكي عليها. وليس سرا القول بان أمريكا تسعى لتفتيت البلدان العربية الكبرى وفق خطوط التمايز العراقي والمذهبي. والواضح ان داعش اصبحت الشماعة التي توفر مادة للقوى المتعددة لتبرير التدخل الاجنبي الذي لم يؤد إلا إلى المزيد من التمزق. فالعراق يدفع ضريبة التدخل الأمريكي الذي فرض عليه نظاما سياسيا شاذا تحت عنوان «المحاصصة». وتتواصل ضغوط واشنطن على الساسة العراقيين للقبول بمقولة «الفيدرالية» التي تعني عمليا، تقسيم العراق. اما في سوريا فتكشف وثيقة صادرة عن وكالة الاستخبارات الدفاعية الأمريكية في العام 2012 كشف النقاب عنها في أيار/مايو 2015 الرغبة الغربية في تقسيم سوريا: «هناك احتمال اقامة مقاطعة سلفية معلنة او غير معلنة في شرق سوريا (الحسكة ودور الزور). وهذا ما تريده القوى الداعمة للمعارضة بالضبط لعزل النظام السوري الذي يعتبر العمق الاستراتيجي للتمدد الشيعي». ومن المؤكد ان الغربيين لا يبحثون عن مصالح السنة او الشيعة، بل يسعون لتنفيذ خططهم. ويؤكد الاستهداف الأمريكي لقوات النظام السوري في دير الزور الاسبوع الماضي هذا التوجه. فواشنطن تسعى لتقسيم البلدان الكبرى في المنطقة مثل العراق وتركيا وإيران ومصر واليمن. يفعلون ذلك تارة بتمكين المجموعات المتطرفة واخرى بترويج مقولات تضعف السلطات المركزية في هذه البلدان تحت مقولة «حقوق الاقليات». فتحويل العراق إلى نظام فيدرالي انما هو تقسيم فعلي للعراق وليس حماية مصالح الاقليات. وما يحدث في ليبيا كذلك ليس منفصلا عن مخطط التقسيم الذي يعتبر مقدمة لهيمنة غربية جديدة في اطار نسخة جديدة من سايكس بيكو.
هذه القضايا واضحة في اذهان الكثيرين من ابناء الامة، خصوصا السياسيين من الحكام والمعارضين، ولكن ارادة التصدي لها غائبة عن الجميع، بل ان الانتظار المصحوب بعدم الاكتراث او التخطيط اصبح سيد الموقف. وهذا ليس موقفا مسؤولا بل يعكس تردي الاوضاع لمستويات دنيا غير مسبوقة. فاذا كان الامر كذلك فالنتيجة الوحيدة المتوقعة تتمثل بالمزيد من التقسيم والتجزئة والتناحر الداخلي وضياع بوصلة الجميع في اتون حروب تعيد للذاكرة ما حدث بين «امراء الطوائف» في الاندلس قبيل السقوط النهائي للوجود الإسلامي هناك. هذه المرة يتكرر ذلك في عصر المعلومات التي توفر الادلة والتجارب السابقة، ولكن ما جدوى ذلك حين يغيب الوعي ويموت القلب؟

٭ كاتب بحريني

مقاطع عديدة لسايكس بيكو جديدة

د. سعيد الشهابي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية