(أنا لم أقتل عجوزاً، بل قتلتُ نظاماً) (راسكلنيكوف «الجريمة والعقاب» فيدور دستويفسكي)
(أنا لم أقتل شيخاً هرماً، وإنما قتلت وعياً صاعداً) («مقتل بائع الكتب» سعد محمد رحيم)
كان المستل الأول صحيحاً، مأخوذاً من الرواية، بينما التصريح الثاني، كان مفترضاً من كاتب المقال، أو هو تأويل القراءة للنص بكل مكوناته التي سندرسها. كما أن التقارب هذا، لا نعني به نوعاً النسخ أو توارد خواطر، بقدر شكل طبيعة الوعي لوظيفة السرد، لأن كلا الكاتبين (دستويفسكي وسعد) يشتغلان على متن فكري بحت بغلاف سردي. والأمر الذي يُعطينا حرية اجتراح مثل هذين الاستنتاجين هو الفعل الروائي، الذي أتى على مكونات النصين بشكل تلقائي، وماثل واضح لواقعية نقدية.
التقديم والبحث
إقامة عمارة أي نص تتطلب التفكير في أسس البناء، إذ كيف استطاع نجيب محفوظ مثلاً، أن يحول «الحرافيش» إلى قطعة نادرة؟ وندرتها في بنائها العام، سواء في شكل بناء النص، أو بناء الشخصيات، ثم تفعيل المخيال السردي باتجاه وضع ثيمة النص هي الأقرب إلى البناء الأسطوري، مستغلاً نماذجه نفسها في الحارة المصرية المسحوقة تحت عجلة صراع الإنتاج والمنتجين من طبقات متنفذة في المجتمع، مطوراً وموسعاً رؤيته لوجودها وتأثيراتها وصراعها مع المركز المختلف. في هذا نجد أن البناء العام هو الذي رسم المكون للنص. فتحويل الثيمة من مهدها التقليدي باتجاه سحر البناء؛ مسألة تحدث في تشكلها صعوبة بالغة، بسبب متطلب الفعل هذا، لأنها تخص العقل السردي أساساً، والذي أجراه سعد محمد رحيم هو فعل التصرف بذكاء في تشكيل شخصيته الرئيسية (محمود مرزوق) بمعنى تشكيل تاريخها عبر مفردات يمكن أن نقول عنها كونها مبعثرة، وضمن وثائق شفاهية ومدونة، هي عبارة عن قصاصات بعيدة عن بعضها، غير أن القدرة على جمعها كان يمثل الجهد، وسحر التناول ليس من باب ثيمتها التقليدية التي ربما هي أقرب إلى «سراب» محفوظ في تقصي أخبار الأم. كان اختيارها الشكل في البناء ينضوي تحت قدرة التخييل على صياغة النادر من مكونات يمكن لها أن تكون تقليدية، كما فعل كتّاب كثر في تاريخ الرواية. غير أن ما يسم الرواية الحديثة هو الكيفية التي اشتغل عليها المخيال، الذي أوقع البعض في إشكالية التطرف في التوظيف، محولاً النص بكل تشكيلاته إلى نمط من عبث الخيال المفرط، بدون الرجوع إلى حضور الإجراء من أساس ومتطلبات جدلية السبب والنتيجة. فالإفراط في الخيال يؤدي إلى خلل في تقديم أسس الإقناع من فعاليات النماذج المكونة للنص. بينما يحتكم المخيال السردي إلى اتباع تقديم العيّنات التي لا تخرج عن المنطق، مع امتلاكها لسحر الطرح. وما فعله سعد في مثل هذه الأسس، هو تفعيل المسكوت عنه. ولعل تنوعها في الصياغة المرجعية، بدد الرتابة السردية، باعتماده على جملة مُعينات للنص وهي:
ــ الفوتو: أي توظيف الصورة الفوتوغرافية، شأنه شأن محمود عبد الوهاب، لؤي حمزة عباس مثلاً، وجعلها تضفي على تتبع المعلومة عن الشخصية المركزية عبر الصورة التذكارية، التي لها زمانها ومكانها.
ــ القدرة على تقديم حراك روائي، ووضعه ضمن حركة السرد.
ــ اللوحة: ونقصد بها اللوحة التشكيلية، باعتبارها وثيقة لا تختلف عن الصورة.
ــ حوار الأقربين: أي ممن في استطاعتهم تقديم ما يُدعم الثيمة المركزية في تقصي السيرة بشكل محايد.
ــ المذكرات: ونعني بها ما تركته الشخصية المركزية من تدوينات.
ــ الرسائل: وهي متعددة المصادر، ولعل رسائل الشخصية المركزية أكثر جلاء لترميم فراغات السيرة.
هذه المكونات ساهمت في سد الفراغات في السيرة العامة للمرزوق، التي واجهها (ماجد) الصحافي المكلف بتدوين سيرة مجهولة بالنسبة له، فقط يحمل في ذاكرته شيئاً من صورته البوهيمية التي كان عليها، لذا كان موقفه شائكاً. والشائك في هذا ينحصر في؛ الأول: هو مرامي من طلب منه تدوين السيرة لقاء مبلغ سخي من المال. والثاني: حضوره ضمن مواقف حرجة في مهمة مثل هذه، لاسيّما أن شخصية نموذجه إشكالية، صاغت وجودها إشكاليات متعددة، لعل يساريته هي الأكثر حراجة، والبوهيمية وضعته في مركز حرج وقلق. ثم علاقاته الواسعة مع النساء؛ شكلت صورة فيها حذر من طرح السؤال. فالصحافي بدا كمن يبحث عن إبرة في كوم من القش أو التراب. فكل الذي اكتشفه يضعه أمام مساءلة محفوفة بالحذر، خاصة الأمني منه. وأعتقد أن هذا يشكل عصب الرواية، أرى أن الانبهار في الكشف والالتفاف حول الأحداث، التي يخلقها جديد السيرة ومراوغة المصدر وتعقيد الزمن حالات تلبست المتقصي خارج إرادته، لكنها بالتراكم غدت مهمة ذاتية، يُحيطها حب الاستطلاع ، بمعنى أصبحت قضيته بامتياز. يكون هذا وفق ما عرفنا؛ أن الصحافي يتقصى كل هذا في مدينة محفوفة بالإرهاب، فــ(بعقوبة) لها خصوصية في الهم الكبير الذي فرض وجوده على البلد، سواء في كثافة عناصر الإرهاب، أو تطرف بعض سكانها من الشباب والمتلونين سياسياً بمعنى (العمالة)، لذا كان التقصي عن المعلومة محفوف بالحذر والخوف من الوقوع في الخطأ، الذي فعلاً أوقع المتقصي في مطبات هي من باب مستلزمات النص، التي اصطلحنا عليها (التبئير) في النص. فالكاتب وظّف مجموعة تبئيرات، قصد من ورائها الالتفاف على الحدث، وتثويره ما أن يستكين أو يحفه التنميط. وهي دربة في الكتابة، أعانها عمق تجربة الكاتب ضمن تاريخ سردياته القصصية والروائية السابقة لهذه الرواية أولاً، وقدرته الفكرية، فهو كاتب قدّم شيئا كبيرا من الدهشة والموضوعية في كتبه ذات المعالجات الفكرية، لعل الاستشراق واحد من مداولاته، التي أعانته على تفعيل العــقل في توفير قناعة من طروحات مخياله في هذا النص. ولعل التجربة هذه اقتربت من تجربة روائي آخر هو علي عباس خفيف في روايته «عندما استيقظت من الحلم».
٭ كاتب عراقي
٭ «مقتل بائع الكُتب»
دار سطور للنشرــ بغداد 2017
جاسم عاصي