ثمة شعور عام بان المناهج الدراسية في العراق تعاني من إشكاليات بنيوية حادة تضعف او تقيد قدراتها في اعداد طلبة يواكبون التطور الحاصل في العالم، أو يتمتعون بقدرات و مؤهلات تعليمية عالية. قد يكون هذا حال عموم المنطقة، لكن الوضع العراقي يبدو اكثر حدة وتعقيدا بسبب حضور عامل ضاغط آخر، هو صراع السرديات الهوياتية في متن مناهج التعليم!
ففي المجتمعات التعددية اثنيا، ودينيا، ومذهبيا، كما هو في حالة العراق (عرب، وأكراد، وتركمان، وأكراد فيليون، وشبك، وأرمن/ مسلمون، ومسيحيون، وصابئة، ويزيديون، وكاكائيون، ونصيريون/ شيعة وسنة، آشوريين وكلدان، أرثوذكس وبروتستانت وكاثوليك)، وفي ظل الغياب التام لمدونة متفق عليها قادرة على إنتاج هوية جامعة، تشكل مسألة المناهج التربوية في المدارس الابتدائية والمتوسطة والإعدادية، قضية مركزية في عملية صياغة هوية «وطنية» قادرة بالحد الأدنى على الوصول إلى سردية مشتركة من الرموز والأساطير المؤسسة.
لقد كان التعليم منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة في العام 1921 يقوم على فكرة مركزية تتمثل في ضرورة أن يكون التعليم عاملا في توحيد العراقيين ثقافيا، وكانت استراتيجية الملك فيصل الأول (1921 ـ 1933) في بناء الأمة/الدولة في العراق تقوم على ركنين أساسيين هما التعليم والجيش. وكتب في مذكراته أنه يريد، بسبب من عدم وجود أي فكرة وطنية، أن يشكل «شعبا نهذبه، وندربه، ونعلمه».
ولكن بسبب من طبيعة الدولة الناشئة حينها، من حيث انتماءات النخب السياسية فيها، والتوجهات الإيديولوجية للقائمين على استراتيجيات التعليم، انتهينا إلى محاولة فرض تأويل أحادي فيما يتعلق بأكثر الموضوعات حساسية، ألا وهي مناهج التعليم الديني. والى اعتماد مدونة محددة فيما يخص موضوع مناهج التاريخ الإسلامي والحديث والمعاصر، فضلا عن ما يرتبط بهذين الموضوعين ضمن مناهج التعليم الأخرى.
وهكذا، وبدلا عن سياسات التعليم المعلنة المتعلقة بالتوحيد والاندماج، كنا بإزاء مناهج تكرس الاختلاف، وتعزز الانقسام، وتغرس الإحساس بالتهميش بإزاء خطاب الدولة/السلطة ذي التوجهات الإيديولوجية. لقد بنيت المناهج على أساس هوية الدولة السنية، مع محاولات تجاوز الخلافات ذات الطبيعة الإثنية والمذهبية ما أمكن ذلك. ولكن هذه المحاولة لم يكتب لها النجاح، وقد شهد تاريخ التعليم الحديث الكثير من المواجهات بسبب ذلك. ولعل واقعة المواجهة بين ساطع الحصري من جهة، و الشاعر محمد مهدي الجواهري، ثم المواجهة بين الأول عبد المهدي المنتفجي، وزير المعارف حينها، بشأن كتاب لأنيس النصولي يتعلق بالدولة الأموية من جهة أخرى، الأشهر في هذه المواجهات، خاصة فيما يتعلق بتأويلاتها الطائفية. وعلى الرغم من الاتهامات والاشاعات الكثيرة التي ترتبط باسم ساطع الحصري في هذا المجال، والتي تبدو في معظمها قراءات إيديولوجية غير موضوعية. وعلى الرغم أيضا من حقيقة استئثار الوزراء الشيعة بحقيبة التربية منذ بداية تأسيس الدولة العراقية الحديثة إلى نهاية العهد الملكي، إلا أن الأمر كان يبدو أكبر من دور الجهتين في هذه المسألة.
كما كنا أمام مناهج تكرس الصورة النمطية للمرأة، وعلى الرغم من بعض المحاولات لإصلاح هذا الواقع، فان النتائج ظلت محدودة إلى حد كبير، خاصة فيما يتعلق بمعرفتها بحقوقها وواجباتها وتحديدها لدورها ووظائفها في المجتمع، أي في تغيير وعي المرأة بذاتها. هكذا يحدثنا كتاب التربية الإسلامية للصف الخامس الأدبي عن أن «عدم تبرج المرأة والتزامها الحجاب هو صيانة لها من أطماع ضعاف النفوس»! كما ظلت صورة الآخر في مناهج التعليم، وما يرتبط بذلك من قيم أساسية مثل التسامح والتعصب وقبول الآخر بما هو عليه، أو العنف وشرعنته.
لقد كانت لحظة 8 نيسان 2003، لحظة تحول دراماتيكي في تاريخ العراق الحديث، وكانت مناهج التعليم في صلب الخطاب السياسي لدعاة التغيير، بمن فيهم الأمريكيون. لكن السؤال الذي ظل مسكوتا عنه هو هل ثمة تحول ابستيمولوجي/معرفي حقيقي في مناهج التعليم المختلفة باتجاه مناهج تعليم مختلفة بديلا عن مناهج تعليم مؤدلجة ومعيارية وذات صوت واحد؟ أم أننا كنا باتجاه تحول أيديولوجي/سياسي محض، مع بقاء المناهج على النسق المعرفي نفسه؛ أي اعتماد خطاب طرف محدد تبعا لموازين القوى القائمة بعد نيسان 2003، لا سيما في ظل هيمنة القوى والأحزاب الإسلامية، ذات المرجعية المذهبية المحددة بالضرورة، على المشهد السياسي في العراق اليوم، بل وفي ظل إصرارها على تولي حقيبة وزارة التربية.
إن الذاكرة العراقية لا تزال غير قادرة على إنتاج سردية مشتركة، فهي ذاكرة متشظية بين مدونات التأريخ الرسمي منذ أربعة عشر قرنا، ومدونات التاريخ الموازي له والذي يراد له أن يكون رسميا بأثر رجعي. من دون أن يصار إلى إعادة التفكير بماهية هذا التاريخ وتجاوز الميثولوجيا التي أنتجته، وانه لا يجب أن ينظر إليه بوصفه نصا يصف واقعا حقيقيا، وإنما بوصفه خطابا يجب موضعته في الإطار السياسي والاجتماعي والثقافي المنتج له. وهي الذاكرة/التاريخ التي أعيد إنتاجها بعد نيسان/ابريل 2003 بشدة.
فمناهج التعليم ما زالت تقدم معلومات متناقضة للطالب من دون مرجعية فلسفية محددة بين تربية دينية تنتج مفاهيم مختلفة تماما عن تلك التي تنتجها دروس التاريخ والتربية الوطنية و مبادئ التوعية بحقوق الإنسان. وأقصى ما يمكن التفكير به الجمع التلفيقي بين النسقين. هكذا نكون أمام مصطلح «الأمة الإسلامية»، وأمام حديث عن الجسد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له الآخرون في كتب التربية الدينية، مقابل حديث عن «الأمة العربية المجيدة»، والاحتلال العثماني او الفارسي في كتب التاريخ!
في ظل هذا كله لا يمكن التفكير إلا بامكانيتين، الأولى مناهج تؤمن بالاختلاف، وباحترام هذا الاختلاف. وتؤمن بالنسبية، وبأن ليس ثمة حقيقة واحدة، أو تأويل واحد، أو تاريخ واحد، أو مدونة واحدة، أو خطاب واحد فيما يتعلق بالدين والتاريخ معا. بدلا من صياغة مناهج تلفيقية، تجمع بين «رئيس الدولة» في الإشارة إلى الخليفتين الأول والثاني، و«أمير المؤمنين» في الإشارة إلى الخليفة الرابع. أو تفرض مدونة أحادية تقرر أن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) «أول المؤمنين بالإسلام»، أو تجعل الحسن بن علي (رضي الله عنه) خامس الخلفاء الراشدين، كما هو حاصل اليوم! وبالتأكيد هناك صعوبات تواجه مثل هذه المحاولة، ولكنها تبقى الإمكانية الأهم. أما الإمكانية الأخرى فهي إلغاء مناهج التربية الدينية ودرس التاريخ الإسلامي، وربما بعض التاريخ الحديث من المناهج الدراسية. لأنها بصيغتها القائمة تعيد إنتاج الاختلافات، بل وتكرسها.
٭ كاتب عراقي
يحيى الكبيسي
يجب أولاً تبعية العراق للعرب وليس العجم , ثم البحث الجدي عن الروايات التي يتفق عليها الطرفين – ولا حول ولا قوة الا بالله