من أجل شرعنة الهمجية يؤجل المؤتمر الدولي العقيم السلم إلى آخر!

حجم الخط
2

كثيراً ما رددنا عبارة اللحظة التاريخية طيلة مرحليات نهضتنا الاستقلالية المعاصرة. كنا نطلبها بسهولة على كل حدث نحس له ثمة فعالية وطنية أو توعية. ولكن معظم لحظاتنا التاريخة المسجلة هذه سريعاً ما كانت تتساقط وعودها الضمنية التي كنا نحملها إياها، وهي مازالت في عالم الغيب. تلك اللحظات كأنها أخطأت وعودها التاريخية. غالباً ما كان التاريخ يقدم أحداثه باستقلال تام عن كل إرادة بشرية تدعي قيادته أو فهمه، في الوقت الذي كانت آمال الناشطين في كل تنظيم تتهاوى وتتبعثر تحت صخب المفاجآت الطارئة.
اللحظة التاريخية رغم أن كل المتشبثين باللفظ لا يحاولون تفسير مضامينها، وذلك جرياً على عادة العقل العربي العام الذي ينساق مع أصدار ألفاظه الجرسية أكثر من اهتمامه بدلالاتها الموضوعية. فالقيمة البلاغية للمصطلح طاغية غالباً على مفهومه، فلا حاجة للتفسير والتحليل كيما لا يصاب جرْس اللفظ بما يشوه صفاءه..
لم تنتظر ثورة الملالي أن تنال إذناً أو سماحاً عندما قررت تفجير العالمين العربي والإسلامي من حولها، مذهبياً؛ لقد اختارت توقيتها التاريخي مع انهيارات التجارب التقدمية التي انهكت قوى هذين العالمين لعقود عديدة، فلم يخرجا من تحت الأطلال المتراكمة على عقول وقلوب أجيالهما القريبة منذ الأمس وإلى اليوم. فإذا كان الهدف هو التفجير النووي يوما ما وهذا مستحيل حتى الآن _ فإن التفجير العقائدي بالغيبيات الماضوية سيقوم بالمهمة. بدلاً من التدمير الكلي بالنووي يمكن أن يتحقق تدمير العقول، ودفع الجماعات إلى عواصف الانتحار الذاتي، وكأنها أمجاد عظمى تُكَلُل هامات تاريخها الراهن.
إنها الردة الطوعية إلى اسطوريات القرون الأولى من المسيرة البشرية، وليس إلى مجرد حقبة مظلمة من قصة العرب والإسلام مع الغيبيات وحدها. فقد باتت جماعاتنا المتقاتلة مبدعة لنماذج الفظائع كبدائل فريدة عن أية منتوجات حضارية، كانت طلائع النهضة تبشّر بها أبناءها وأحفادها، وتعتبرها واقعة متحققة في الغد القريب.
نعم! يجب القول بل الإقرار الصريح أن ملالي (قمْ) قد نجحوا في نشر شعار إعادة أسلمة المسلمين، بإعطائه دلالة عملية واحدة وهي إعادة مقتلة الإسلام بأيدي المسلمين أنفسهم؛ تلك هي لحظة الخطأ الأعظم. كل أعداء الخارج ينسحبون إلى الصفوف الثانية المتوارية لكي تظهر عداوات الداخل وحدها لاعبة حرة في تفجير تناقضات ثانوية تجاه قطبيات جديدة متصارعة فيما بين أركانها المستحدثة فورياً. كأنما أصبح على قادة العرب والإسلام الانشغال باختلاق نمذجيات عداواتها، من لحمها وعظمها فحسب.. بينما يبدو واقع الأمور هو أن شعوب القادة عاشت على استيراد مختلف أسباب الحياة والرفاه العرضي من خارجها. لكنها في المنعطف العجيب من تطورها أضحت هي المنتجة والمورِّدة ذاتياً لبضائع الحروب التي جرى توزيع جحميها حصصاً متناسبة طرداً مع حجوم الكوارث المفتعلة، حتى في جذورها المتوارثة والمكتسبة.
هذه هي مشاهد الفوضى الدموية والدبلوماسيات المراوغة تغطيان معاً مسارح المشرق. هناك حيثما يولد كلَّ يوم تنظيمُ أو تنشبُ معركة ما بين منظمات قائمة لا تكاد تتمايز أسماؤها وأفعالها عن بعضها؛ لم يعد أحد يسأل عن الأسباب ولا تهمه الأهداف التي قلما استوعبها مقاتل ما وهو منشغل فحسب بتصويب نيرانه على أنداد له في المعسكر المقابل.
هذا المشهد الدموي العبثي هو يومي نَسِيَ بدايته، ولا تهمه نهايته. إنه المشهد الذي باتت الدول العظمى نفسها مأخوذة بعشقه القاتل إلى درجة التذرع به لاستدامة شغفها الجنوني بالمزيد من مذابح الآخرين ضحايا لمناوراتها المتذاكية. إنهم هذه الأيام يستردون أسطورة الحل السياسي مجدداً، كأنهم فعلاً أمسوا قابضين على أسرار خلقه من تحت رميم الأهوال طيلة هذه المقتلة السورية المشؤومة. فالجميع من زعماء أجانب وقادة محليين يصيرون دفعة واحدة دعاة سلام. لم تعد اجتماعاتهم المتوالية تكتفي بنقاشات حول الحل السياسي، بل تخطوا هذه المرحلة لما بعده. إنهم منهمكون بتداول صيغ عن الحكم لما بعد الديكتاتور، عن عناصره المرشحة، عن بعض برامجه الملتبسة تحت شعارات حقوق الإنسان إنْ تذكروها.
يحدث كل هذا في الوقت الذي لا تزال فيه أصوات المدافع تهز أجواء العاصمة المغدورة. فقد تحولت سوريا إلى خارطة مغمورة بالجبهات المفتوحة على كل نماذج الحروب المعروفة منها والمستحدثة، وذلك لحساب أقذر المهالك العبثية المستبيحة لأبسط حق إنساني في أمنه وكرامته.
كل هذا العنف المجنون اللاأخلاقي يعم البلاد من أقصاها إلى أقصاها ومع ذلك نجد الكتلة العظمى من الأهالي لاتزال محافظة على التأني النفسي والاجتماعي عن بؤر الموت وجماعاته. فكلما غرقت هذه البؤر في ضلالاتها ازداد الرأي العام السوري تبرؤاً من أية مسؤولية عن أفعالها وأهدافها. فقد تحتل مهرجانات القتل والصراع أمكنةً وأزمنةً معينة من جغرافية البلاد، لكنها تبقى من طبيعة عابرة وسطحية، ويظل الزمكان (الوطن) السوري ملكاً خالصاً نقياً لأمته.
كأن الجريمة الكبرى بالنسبة لمذهب السفاح الطاغية هو منعه، أو توقفه عن ارتكاب الجريمة تلو الأخرى. وفي فلسفة القانون حتى ما قبل تدوينه في شرائع الأمم الحية، أن الساكت على القاتل هو قاتل كذلك. لكن المحزن بل المفجع أن أقوياء ما يسمى بالمجتمع الدولي، وهم الأكثر تقدماً، حسب مقاييسهم عينها، باتوا هم الأعداء الفعليين الأصليين لمدنيتهم، عندما يتنازل بعض كبار قادتهم عن بداهة العقل الجماعي، ويحل الفراغ الأهم في صدورهم، بعد أن هجرتها ضمائرهم البائسة. ما نفع أية مدنية إن تحول ساستها ومثقفوها وقضاتها إلى نوع آخر من الجلاميد مرصوفة ومنضدة مع أحجار قصورها وكنائسها ومتاحفها. ما قيمة مدنية الصروح الحجرية وأشباهها إن تمكنت فقط من تحقيق قدرتها على حماية نفسها مقابل انحدار بقية العالم، كل العالم إلى هاوية الهمجية المطلقة. فليس مؤتمر فيينا بالأمس سوى العرض الأخير لمسرحية إعادة تأهيل حضارة الهمجية. (بالرغم من تناقض اللفظة) هذا المجتمع الدولي لم تلتق شخصياته من أجل وضع حد لمنع القرار الخبيث باستمرار المقتلة السورية، بل لإعادة إنتاج مشروعية دولية تُسبغ على الهمجية بعد أن غدت هي الأيديولوجيا المفضلة لدى الأمركة المصممة عالمياً.
مؤتمر فيينا اليوم وسلالته غداً هو عنوان المنعطف الكوني من أسطورة مدنية المدنية التي شُغل العالم بها طيلة عصور متواصلة وصولاً إلى مدنية الهمجية وحدها كأنها هي تتويج ما يسمى بالنظام العالمي. هؤلاء القادة الغربيون بجناحيهما الأطلسي والموسكوفي (الروسي القيصري) لن يقدموا للشعوب المحرومة سلاماً مشرقاً لمستقبلهم في الوقت الذي أصبح فيه معظم زعماء السياسة الدولية حلفاء موضوعيين لتجار السلاح.
مؤتمرات السلام الكاذب هي مصانع دولية للتقوية. لتجديد حروب الأمس واليوم كيما تدوم غداً وبعده..

٭ مفكر عربي مقيم في باريس

مطاع صفدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    بسم الله الرحمن الرحيم
    وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) القصص

    القرار بسوريا هو للشعب الذي ثار على الظلم
    ولن يسرق أحد هذا القرار أو يشتريه بالأموال
    فهذا القرار قد كتب بدم الشهداء الذي لم يجف

    الشعب السوري قال :
    ما لنا غيرك يا الله – وقائدنا للأبد سيدنا محمد – وواثقون بنصر الله

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول ريما كمال:

    مقال تحليلي أكثر من رائع لمن أصغى وتدبّر ، ولا حول ولا قوة الا بالله

إشترك في قائمتنا البريدية