بدءا وجبت الإشارة إلى أن الأسس النظرية التي شكلت معرفة خلفية لجمالية التلقي، على اختلافها وتباينها، قد اهتمت بالظاهرة الأدبية في شموليتها، غير أن «جمالية التلقي» كنظرية في الأدب سوف تركز اهتمامها، أولا وأخيرا، على المتلقي، اعتمادا على أهم خلاصات هذه الأصول والمصادر المعرفية. لقد أعادت جمالية التلقي النظر في كل هذه القراءات التنظيرية، كما أعادت صياغتها وبناءها في تصور نظري جديد ينبني أساسا على الحوار، منتقدة في ذلك ما لا ينسجم ومنطلقاتها. نذكر من أهم هذه المصادر، الأبحاث الشكلانية والبنيوية، خاصة مع جماعة براك، وكذلك السيميائيات مع كل من رولان بارت، وأمبرتو إيكو،، من دون نسيان الأبحاث الهرمينوطيقية مع كادامير، إذ كان للأخير «تأثير كبير، بتوجهه الهرمينطيقي، على أعمال ياوس في المقام الأول»، وكذا ما توصلت إليه الظاهراتية مع رومان إنكاردن من نتائج وخلاصات. يقول ستاروبانسكي في تقديمه لكتاب ياوس الموسوم بـ «من أجل جمالية التلقي»: « إن طريقة ياوس في الكتابة تقوم على الحوار، فهو لا يعتمد النقل والتسليم بما هو موجود، كما لا يتبنى نسقا مغلقا يتجاهل جهود الآخرين، بل قد يصل الحوار، عنده، إلى حد المساجلة، فيحرص على المحاسبة والمناقشة المستفيضة. وهو يحاور نفسه أيضا، يصلحها ويتجاوز أطرافا منها «. بهذا الحوار المترف والمتعدد، الذي يروم التنظير، كان بمكنة جمالية التلقي الجمع، بعيدا عن أي نزوع توفيقي ـ تلفيقي، بين كل هذه التصورات التنظيرية على أرضية تقاطعاتها المتعددة والمتشعبة.
ولئن كان منظرا «جمالية التلقي» ياوس وإيزر، قد انتقدا الشكلانية والماركسية في آن، بحيث آخذ، على الشكلانية، اعتبارها النص بنية مغلقة مستبعدة في ذلك شروطه التاريخية، أيضا وعطفا على ذلك، أخذ على التصور الماركسي فهمه لتاريخية الأدب انطلاقا من عكس الأخير لتاريخية المجتمع، أي في العلاقة بين بنية فكرية وأخرى اقتصادية، فإنهما، في المقابل، سيستفيدان كثيرا من هذين المنهجين المتشامخين، خصوصا الاتجاه الشكلاني بروافده المتعددة. ومن جملة ما أخذه ياوس عن الشكلانيين، اعتقادهم بأن «الأدب لا تتحدد أدبيته فقط سانكرونيا، أي بالتعارض بين اللغة الشعرية واللغة العملية، بل تتحدد أيضا دياكرونيا، أي بالتعارض الشكلي والجمالي الدائم والمتجدد للأعمال الجديدة مع الأعمال القديمة التي سبقتها في السلسلة الأدبية». وهو تقليد جمالي، أسسه الشكلانيون الروس، مركزين بذلك، الاهتمام على النص كشكل له علاقة بالقارئ، باعتبار الأخير ذاتا تعي جيدا هذه البنية، وعليه أن يكشف عن تجاويفها المتخفية وراء علائقها الدالية، أي عن كيفية اشتغالها الداخلي.
وفي السياق ذاته سوف يحاور كل من ياوس وإيزر تفرعات وامتدادات النظرية الشكلانية بقصد استثمار مكتسباتها التي ما فتئت أن أصبحت راشحة بانشدادها المفرط إلى القراءة المحايثة. فنجد إيزر ينبهر بشدة بمفهوم الخرق (الانزياح) الذي شغل كثيرا بال البنيويين، باعتباره نظرية تثير قلق القارئ وفضوله، وإن كان إيزر لا يؤمن بخرق المعيار الذي لا يستدعي الآخر، كذات واعية، وكانتظار ينبغي خرقه وهتكه هو أيضا. وإلى هذا يثمن إيزر «ربط الأسلوبية البنيوية لمفهوم الخرق بإثارة واستفزاز القارئ، معتبرا أن دور القارئ في تحديث طبيعة الخرق مقبول، بدل الحديث عن «معيار شعري» أو قاعدة جمالية مجردين. إن الخرق بهذا المعنى، أي حين ُيدخل القارئ في اعتباره، يصبح خرقا لا لمعيار ولكن لمعيار الانتظار». وقضية الانزياح هاته، سوف يستثمرها ياوس، بشكل لافت في نظريته، من خلال الأطروحة الموسومة « بالمسافة الجمالية».
ولقد استفادت، أيضا وعطفا على ما سلف، جمالية التلقي من البنيوية، حين اعتصارها لبدائل ومقترحات النظرية البنائية، بخصوص إشكالية الفهم والتفسير الكامنة في التحليل البنيوي لنظام العمل الأدبي، إذ لا محيد – عند البنيوية – عن أن «هذا النظام ـ أو اكتشافه ـ يحل معضلة ثلاثية ( القصد/ النص/التفسير) على أساس أن هذه العناصر ليست إلا تجليات بمستويات مختلفة لظاهرة النظام، كما تتجلى في الفكر (القصد) والتشكيل (النص) والتحليل (التفسير)».
كما أن بنيوية براك، سوف تدشن تصورا جديدا للتطور الأدبي، ستنشأ بموجبه علاقة حوارية قوية بين الإجراء الشكلاني وتاريخية المؤلَّف الأدبي. وبهذا سينفتح العمل الأدبي على الشرط التاريخي، ومن ثم على التلقي الذي يرتبط بتحولات السياق الاجتماعي ارتباطا معقدا. وطبيعة الانفتاح هذه في نظر «باتريس» بافيس هي «واحدة من أهم الجسور ما بين الإنتاج والتلقي».
ولئن كانت جماعة براك، بزعامة كل من فوديكا وموكاروفسكي قد انتصرت للعمل الأدبي، باعتباره بنية تتموقع داخل حركية ودينامية البنية الكلية للتاريخ الأدبي، فإنها، بدون شك، قد تجاوزت «بشكل حاسم وثوقية القول باللاتعايش بين التحليل البنيوي والتحليل التاريخي. لقد انطلقت من مقدمات النظرية الشكلانية لإنشاء وتطوير جمالية بنيوية تفترض إمكانية التمكن من المؤلف الأدبي باستعمال مقولات الإدراك الجمالي، ثم بعد ذلك، تصف الموضوع الجمالي، المدرك بهذه الطريقة وصفا زمنيا من جهة تحققاته الملموسة أو تحققاته المحددة بالتلقي». ووجبت الإشارة، في هذا الإطار، إلى أن فكرة «التحقق» المتحدرة من أصل فينومينولوجي وبالضبط من فلسفة إينكردن، قد تم الاشتغال عليها من جديد من قبل بنيوية براك، مع كل من ميكاروفسكي وفوديكا، ما سيفتح عهدا جديدا للتلقي في إطار مشروع البنيوية ككل.
وفي سياق حديثه عن القيمة الجمالية، من خلال تمييزه ما بين» الفن العظيم» و»فن الطبخ»، يستنتج ميكاروفسكي خلاصة مهمة، ستكون مرتكزا أساسا في نظرية ياوس، خصوصا في أطروحته الأولى المتعلقة بأفق الانتظار، مفادها «أن القيمة الجمالية تكون أكثر ارتفاعا، حيث ينقلب العمل الفني ضد المعيار الثقافي السائد، وهذه العلاقة بين المعيار والقيمة، هي ملمح مميز للحقل الاستتيقي، بينما يعتبر التطابق مع المعيار في غير الحقل الاستتيقي، قيمة إيجابية».
والحاصل أن بنيوية براك سوف تمنح جمالية التلقي وضعا «يحررها من الصعوبات السيمترية للدوغمائية الجمالية والذاتية المتطرفة». تلكم بعض وأهم الآثار الشكلانية في مدرسة كونستونس الألمانية.
٭ شاعر وكاتب مغربي
محمد الديهاجي