تعوَد التلقي العربي للأدب اعتبار الشعر ديوان العرب. واعتُبر هذا الديوان أكثر قربا من الوجدان العربي، نظرا لكونه ينتمي إلى الثقافة العربية، وبالتالي فإن التعبير الشعري يختزن مشاعر الأفراد والمجتمعات العربية، وطموحاتها وآمالها، وانتصاراتها وانتكاساتها، وتأتي اللغة الشعرية بإيقاعها ونظامها ومستويات تعبيرها مُشخصة للحالة الثقافية العربية. لذا، كان المجيء إلى الشعر في الثقافة العربية مجيئا إلى زمن الانتماء، وسفرا في الذاكرة الإبداعية العربية.
لم تسبق كتابة /قراءة الشعر أسئلة الانتماء إلى هذا الجنس، مثل تلك التي أثقلت الممارسة الروائية في التجربة العربية. فالكتابة في الشعر تعني الكتابة في المساحة العربية، وفي الزمن التاريخي العربي، لهذا تتشكل حرية مقبلة من الإحساس بالانتماء إلى زمن الشعر، في حين لم يكن الأمر كذلك مع الرواية، لأن الكتابة فيها كانت تحمل معها إحساسا بالتعبير في فضاء الآخر، ولذا كان التفكير، خاصة مع البدايات الأولى للممارسة الروائية العربية، يتجه نحو فهم هذا الشكل الأدبي، من خلال تجربة الكتابة فيه. التفكير في الشعر لا يشبه التفكير في الرواية في التجربة العربية. اختلافُ التفكيرِ مقبل من اختلاف الإحساس بالشعر، باعتباره زمن الإبداع العربي، وبالرواية باعتبارها جنسا مقبلا من زمن الآخر الأوروبي. مسألة الإحساس قد تبدو بسيطة، وليس لها القدرة على التأثير في المعرفة والوعي، ولكنها دالة، لأنها تُؤسس لشكل العلاقة بين الكاتب (شاعرا/روائيا) وشكل تعبيره أثناء ممارسة الكتابة، لأن الكتابة هي فعل متداخل العناصر بين المرجعيات الثقافية للذاكرة وزمن الكتابة. ولعل جملة ميخائيل باختين النقدية «ليس هناك نص بكر» تختصر معنى فعل الكتابة.
كل كتابة تتأسس على كتابات سابقة، وكل نص يتشكل من نصوص سابقة، من دون أن يعني ذلك، الاعتقاد بمعيار ثابت على الكاتب أن يكتب وفقه، إنما المسألة تتعلق بالهوية الثقافية للكاتب، ما يجعل كل كاتب يعيش زمن الكتابة من خلال خلفيته النصية والثقافية. بقي الشعر ديوان العرب في الذاكرة الثقافية الجماعية، وظلت الرواية جنسا أدبيا مقبلا من الزمن الأوروبي، فاحتاج الأمر إلى فهم زمن الرواية، ولذلك اهتمت المؤسسات التعليمية والأكاديمية، بالتعريف بالزمن الثقافي الذي نشأت فيه الرواية، كما انشغلت بتعليم فن الرواية وخطابها، بدعم من الترجمة التي نشطت في نقل المعرفة الروائية إلى جانب ترجمة النصوص الروائية الأوروبية إلى العربية، وذلك من أجل استقبال واضح لثقافة الرواية، كما صيغت في التجربة الأوروبية، واهتم النقد في المشهد العربي بالنظريات الغربية من أجل تمثل جنس الرواية، الذي ظهر مع الزمن البورجوازي عصر النهضة الأوروبية. أنتجت محاولة الفهم للمقبل من خارج الزمن الثقافي العربي اهتماما كبيرا بمختلف النظريات الأدبية التي تشتغل بجنس الرواية، وكما هو الأمر مع كل جديد، فقد ازدهرت حركة الكتابة في الدراسات الروائية، وانشغل النقد بالخطاب الروائي، من خلال تحليل الروايات، كما ازدهرت المؤتمرات واللقاءات الأدبية حول الرواية ونقدها. وشيئا فشيئا، بدأت الرواية تتقدم نحو ديوان العرب، وتُزاحمه في موقعه، وتفرض اهتماما ثقافيا وعلميا، يتجلى في الدراسات النقدية التي تنشغل بالرواية أكثر من الشعر، وفي صيغة اللقاءات والملتقيات الثقافية، التي باتت تهتم بالخطاب الروائي، ومختلف أنواعه السردية، وفي الجانب العلمي- الأكاديمي، عبر هيمنة الدرس الروائي على الشعري في ما يخص وحدة تحليل الخطاب، إضافة إلى هيمنة قضايا الرواية بمختلف تجاربها العربية، ونقدها على البحوث الجامعية، وأطروحات الدكتوراه. أنتج هذا الوضع تصورا، بات يتردد في المشهد العربي، حول فكرة تراجع الشعر، وهيمنة الرواية على المشهد، وتحولها إلى ديوان العرب. غير أنه تصور قابلٌ للنقاش، ما دمنا لا نتوفر على إحصائيات موضوعية ودقيقة عن نسبة الإصدارات، وهل يفوق إصدار الروايات إصدار الدواوين الشعرية في كل التجارب العربية؟ وهل لدينا معرفة علمية ومعرفية بنسبة القراءة، وحظوظ الرواية منها، وموقع الشعر فيها؟ وهل تصور «الرواية ديوان العرب» يُحقق معادلة موضوعية، بين الشكل الروائي وقدرته على تمثَل الوجدان العربي، ثم نجاح الرواية في مُرافقة تاريخ التحولات العربية في الزمن الحديث، مع القدرة على إعادة إنتاج تصورات جديدة للماضي؟ بمعنى آخر، هل تمكنت التربة العربية من تشرب الجنس الروائي، وجعله ثقافة عربية؟ وهل استطاع المُنجز الروائي العربي، منذ بداياته وتطوره إلى وضعيته الحالية أن يكون فاعلا في تطوير الجنس الروائي بشكل عام؟ تلك بعض الأسئلة التي يمكن التفكير فيها، عندما يتم الحديث عن التصور الحالي، حول انتقال الرواية إلى موقع الشعر في التجربة العربية الراهنة، لكن، قبل التفكير، أو بالموازاة معه، حول وضعية الرواية، يمكن التساؤل أيضا حول وضعية الشعر، وموقعه في الاهتمام النقدي والتعليمي والعلمي والثقافي، والتساؤل عن سبب تراجع النظريات الأدبية في خطاب الشعر، من حيث الاهتمام؟ ولماذا التركيز في تحليل الخطاب الأدبي على الرواية أكثر من الشعر؟ لماذا قلَّت الملتقيات الخاصة بتقديم الأبحاث حول الشعر؟ ولماذا بقي الشعر مجرد أمسيات، وأحيانا تُلقى الأمسيات على هامش ملتقى حول الرواية أو القصة القصيرة أو القصيرة جدا؟ لماذا انتقل الشعر من جوهر الاهتمام باعتباره ديوان العرب، وخزَان جغرافية الوجدان وتاريخ الذاكرة؟ فهل الزمن هو زمن الرواية، أو أكثر تحديدا زمن السرد؟ وهل ساهم ضعف الاهتمام بنظرية الشعر، واستثمارها في تقديم خطاب الشعر في وضعية الشعر؟ ولماذا لم نعد نلتقي بعدد مهم من المشتغلين في نقد الشعر؟ ولماذا نستطيع أن نذكر العشرات من أسماء النقاد المتخصصين في الرواية، وأيضا المشتغلين فيها خارج التخصص، في حين يقل العدد عندما نبحث عن أسماء نقاد الشعر؟ لا نتحدث هنا، عن الناقد الذي ينتقل بين الرواية والشعر، ويكتب في كل الخطابات الأدبية، كما لا نتحدث عن الناقد الذي عندما يحلل قصيدة، كأنه يحلل رواية أو قصة قصيرة، وإنما نقصد هنا الناقد الحامل لمشروع الخطاب الشعري، والمتتبع لمسار هذا الخطاب، الذي له القدرة على تطوير النظرية الشعرية بمقومات الشعر العربي، والذي يستطيع أن يُجيب عن مثل هذه الأسئلة التي طرحناها حول وضعية الشعر انطلاقا من دراسات وتصورات؟ ثم لماذا لم تعد دور النشر متحمسة لنشر الدواوين الشعرية؟ إن طرح مثل هذه الأسئلة لا يحمل موقفا من نقد الشعر، كما لا يدعي رأيا حاسما حول نقاد الشعر، إنما هي أسئلة على شكل ملاحظات مُستنتجة من واقع الاهتمام النقدي بالشعر، التي قد تسمح لنا، ولكل المشتغلين والمهتمين بالشعر في التجربة العربية بصياغة بعض المداخل التي يمكن أن تُساهم في جعل الشعر انشغالا ثقافيا ونقديا وعلميا، نذكر من بين الاقتراحات لهذه المداخل، خلق حركة نقدية تواكب الشعر في تحولات خطابه، وتنوع تجاربه، وذلك باعتماد ثقافة المعرفة النقدية الشعرية، مثلما يحدث الأمر مع الرواية، من خلال الاهتمام الجامعي بالخطاب الشعري ونقده وتحليله، وتحفيز الطلبة والباحثين للاشتغال في قضايا الشعر وفق نظريات حديثة، مع تطوير التعامل مع نظرية/نظريات الشعر العربي القديم، وتنظيم لقاءات علمية تُناقش مختلف قضايا الشعر (لغة، بناء، إيقاعا…)، بعيدا عن الخطابات الوصفية والعامة.
عندما نُفكر اليوم في التصور الجديد الذي يجعل الرواية ديوان العرب، ويفترض تراجع الشعر، وفق هذه الملاحظات والأسئلة، فإننا نستطيع الحديث عن تصور آخر، يجعل الأمر عبارة عن تحول في الترتيب في المشهد الإبداعي، أكثر منه تراجعا في منطق الإبداعية. بهذا، نستطيع أن نتحدث عن حركية في المشهد العربي، التي تُحدث تغييرا في موقع كل جنس أدبي على حدة، من دون الحديث عن تراجع الشعر. وإذا كان الروائي والشاعر يلتقيان في طبيعة اللغة الإبداعية التي يُبدعان بها، فإنهما يختلفان في علاقتهما بهذه اللغة، فبينما الشاعر يوجد قلب اللغة الشعرية، فإن الروائي يوجد خارجها. ومن هذين الموقعين المُختلفين يتشكل الاختلاف بين الجنسين، وعندما لا نُدرك منطق الاختلاف نضيع بينهما، ونُضيع معنا الشعر والرواية.
روائية وناقدة مغربية
زهور كرام
كيف يمكن للرواءي ان يكون خارج اللغة الشعرية. الرواية الان تفترس كل الاجناس الاخرى وتتفاعل معها لانها لا تستطيع ان تكون منعزلة وحيدة عن كل ما يحيط بها. من الضروري جدا انها تشتغل باللغة الشعرية والا كيف نتعامل مع ما انتجه كبار الكتاب الاجانب وما منحوه لنا من جمال في الشعر والنثر معا.
اللغة الشعرية يحتاجها الشاعر والرواءي وحتى الفنان لان كل مبدع يتعامل يغترف من هذه المادة بطريقته الخاصة …والشعر الان يتراجع لان الكثير من الاشعار اصبحت تشبه بعضها، ولا تقدم اشكالا جديدة من الكلمات، ولانها كذلك تراجع الشعر. ولكم من منا لا يستطيع ان يعشق محمود درويش او نزار او امل دنقل او رامبو او بودلير او بريفير او امرؤ القيس الى غيرهم.
الأخت زهور كرام،
لقد قلتُ تعقيبًا على مقال الأخ خيري منصور «الشعر العضوي» (ق ع، 29 أيار 2015) ما يلي:
فيما يتعلق بمسألة انحسار الشعر العربي، لا أظن أن جنس الشعر، بحد ذاته، هو الذي تقع عليه اللائمة، حتى لو اختفى هذا الجنس الأدبي من الوجود الإبداعي. من يتحمل مسؤولية انحسار الشعر، إن كان هناك انحسار ملحوظ أمام الأجناس الأدبية الأخرى فعلاً، إنما هم الشعراء أنفسهم، أو من يعتبرون أنفسهم شعراء في هذا الزمن الآيل إلى الافتراض، سواء كان ذلك على المستوى الفردي أم على المستوى المجتمعي.
مرةً أُخرى، وكما قال الشاعر ناظم حكمت ذاتَ مرةٍ، «أجملُ القصائد هي التي لم تُكتبْ بعد».