من الشعيبيات إلى السارين: عن الذاكرة والانتماء والنهاية المؤجلة

حجم الخط
2

الذكرى الرابعة للثورة تصادف مرور أربعة أشهر لي في ألمانيا. تتدفق الذكريات دفعة واحدة، ذكريات الطفولة الأولى وذكريات البلاد التي أنشبت زمَعاتِها في أقدارنا.
ومنذ البدء قررت ألا أنسى، الذاكرة هي الانتماء.
البيت بحجارته الزرقاء من الخارج والطلاء الأبيض والأخضر من الداخل، مربعات البلاط الصغيرة، الباب الحديدي. القبو الداخلي، علية الكتب، شجرة السرو وقطتنا المختصة بقتل العقارب، درَج الجبانة وقبر عبد الكريم الجندي المقابل لبيتنا.
أزالوا جزءاً من المقابر وبنوا مكانها مستوصفاً، لاحقاً أزالوا المقابر كلها وصيروا المكان شيئاً يشبه الحديقة.
في آخر «عرسٍ انتخابي» لحافظ الأسد كنت في الحادية عشرة من العمر، قالت لي صديقتي في المدرسة أحضري هويات عائلتك وتعالي لننتخب في المستوصف، إنهم يوزعون شعيبية بالقشطة لكل هوية.
-هل يسمحون للأطفال بالانتخاب؟
– أنتِ فقط أحضري الهويات.
كنت طفلة وأحب بطني، أعرف ماذا يعني انتخاب، لكنني أعرف تماماً طعم الشعيبيات بالقشطة. ركضت إلى البيت، وبدأت البحث عن الهويات، هوية جدتي، هويات عمتي وعمي المتوفيين، هوية خال أبي الخارج منذ سنوات قليلة بعد اثني عشر عاماً في سجون النظام، هوية أبي وأمي. ركضت صوب المستوصف بالبيجاما وشحاطة البلاستيك، والهويات في كلتا يدي. تجاوزت الزحام ووصلت إلى الرجل (أبو الصندوق) مددت يدي بفرح وصرخت: عمو! خذ الهويات، وأعطني سبع شعيبيات بالقشطة! أخذ الهويات من دون أن ينظر إليّ، أعادها بعد دقائق وأعطاني ثلاث شعيبيات. قلت له محتجة: باقي أربعة! فرد، وهو يملأ القوائم بأسماء الموتى والأحياء: لكل هويتين شعيبية، وأنت أحضرت سبعة، تجهمت وقلت بقرف: الله يسامحك بنصف الشعيبية الذي أكلته عليّ! كبرت وعرفت أنهم لم يأكلوا عليّ نصف شعيبية وحسب، لقد ابتلعوا حق شعبٍ كامل في الوطن والحياة والحرية.
بعد أربعة أعوام من الثورة أتذكر العرس الانتخابي الأخير لبشار الأسد، لم يكن ثمة صديقة لتقول لي أحضري هويتك وخذي شعيبية، إنما كان هناك استدعاء أمني لي، وفي التحقيق قالوا: سنعطيك إذن سفر لأن حظك جيد، وهناك انتخابات…
ما رأيك بالانتخابات؟
– عرس وطني كبير
– من ستنتخبين؟
– هذا سر لصندوق الاقتراع.
نظر المحقق بسخرية واستهزأ: هل عندك مرشح غيره؟ أنا كنت سأرشح نفسي لكن طريق القصر مقطوع.
– وهل أستطيع أنا ترشيح نفسي؟
– لا، لأنكِ تحت سن الترشيح
– ألا تعدلون لي الدستور؟
ضحك وقال: هذا يحدث مرة واحدة.
أقف اليوم أمام مخيال الخوف وبذهول طفولي أهمس: إنك الخوف! لكنك لم تتمكن من جعلنا جبناء.
بعد أربعة أعوام من الثورة أقف أمام غربتي البسيطة والواضحة، وأعرف أنها رحمة أمام بلادي الغريبة عني مذ كنت فيها.
خرجنا عن سنوات الطاعة بأثمانٍ أكبر من البلاد ومنا، لكننا كنا نعرف أننا نتجه من الأسوأ إلى الأقسى وبعزيمة المستيقن بنبوءةٍ مضينا صوب الحرية. منذ اليوم الأول قلنا انتهى النظام، لنكتشف السارين والكلور والبراميل والمقابر الجماعية والقتل اليومي والاعتقال والموت تحت التعذيب والمدن المحطمة.
فرخ داعش، تأكدنا أنه زائل إذ كل استبدادٍ آيلٍ إلى زوال يخلف وراءه استبداداً. داعش وزارة دعاية النظام … والذبح مستمر على كلا الجبهتين، السوريون يتخبطون بلا هوادة، والعالم يملك غريزة الفضول ويفتقر ترف الاهتمام.
على مدى هذا الوقت الممتقع بالدم كل يوم كنا نقول: لقد انتهى! لكننا اكتشفنا أنه وضعنا أمام رهان معه على البقاء مع قدرته المرعبة على الانتقام، القدرة التي تبدو أنها لا تنتهي إلا بانتهائنا. فكان رهاننا على كثرتنا ورهانه على بطشه. أمام البطش أردنا النجاة حتى لو كان الموت ثمناً لذلك.
وقد يكون الموت نجاةً في بلادٍ نهتفُ فيها للحرية ونستجديها لتمنح رئاتنا الهواء والشهقة الأولى فيكون الخراب أول الرفض.
الثورة نبؤتنا، والذاكرة انتماؤنا، وبعد كل ما عانيناه وسنعانيه نعرف أن بلادنا نفضت عنها وعنا سلطان الطغاة مرة واحدة وحتى النهاية.

كاتبة سورية

لينة عطفة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سلمى:

    حكايات السوريين مع هذا النظام لا تتسع مجلدات لذكرها. مأساة الكثيرين منهم أنهم تفاجأوا بمدى بطشه. أما أنا، فمأساتي أني لم أفعل. شكرا على المقال.

  2. يقول عاطف - فلسطين 1948:

    مهما تكن النتيجه . السوريون اثبتوا للعرب وللعالم انهم اشرف الناس بمحاولتهم للانتفاض على الطاغوت والذل والهوان. الثورة افرزت الكثير وبينت اشياء لم تكن ظاهرة. لقد كشفت عن الوجه البشع للبعض ممن يكرهون سوريا والعرب.

إشترك في قائمتنا البريدية