على المستوى الفكري، تشكلت القاعدة من لقاء القطبية المصرية (نظرية الحاكمية الإلهية وتكفير الدول والمجتمعات) مع الوهابية السعودية (السلفية ونفي الوسائط والشفعاء، والفن، وعقيدة الولاء والبراء). أما النموذج الذي تشكلت على غراره فهو المنظمة «الإرهابية»، اليسارية أو القومية. الإرهاب تكنولوجيا قتالية، يمكن لمجموعات سياسية وتيارات إيديولوجية متنوعة أن تتوسلها. لكن لا منظمة إرهابية دون يقين إيديولوجي صلب، والسلفية الإسلامية توفر أساسا طيبا من اليقين وصلابة المعتقد، من صنف سبق أن وفرت ما يعادله منظمات علمانية.
وعلى المستوى البشري تكونت القاعدة أيضا من كادر سعودي مصري، يرمز إليه زعيما الشبكة الأولين، أسامة بن لادن وأيمن الظواهري. لكن على هذا المستوى هناك مساهمات متنوعة من بلدان إسلامية كثيرة، ليس من أقلها شأنا مساهمة فلسطينية، قد تكون مثلت جسرا بين العمل الفلسطيني المسلح، وكان محفزا بمزيج متفاوت النسب من نزعات يسارية ووطنية فلسطينية وقومية عربية حتى ثمانينات القرن العشرين، وبين الإسلام الجهادي. في ثمانينات القرن العشرين كانت قد انتهت حروب الدول ذات الجوافع الوطنية/ القومية، وخرجت وأُخرِجت من الحرب المنظمات العلمانية المقاتلة، ودخلتها المنظمات الإسلامية، في فلسطين ذاتها، وكذلك في لبنان وغيره. التواقت بين انتهاء حروب الدول وظهور منظمات ما دون الدولة لا شك فيه، ويكاد الارتباط بينهما يكون ميكانيكيا.
ما الجديد في داعش؟ بفعل ظهورها في المختبر العراقي تحمل داعش، فوق الوهابية السعودية والقطبية المصرية، عنصرا مركبا من المخابرات العراقية الصدّامية ومن المظلومية السنية المتفاقمة. هذا العنصر العسكري والأمني استقر بعد تحطم نظام صدام وهيمنة القوى الشيعية في العراق ما بعد البعثي على سنية طائفية محض. ولعل الاشتراك في كل من النزعة الإحيائية، والمخيلة الامبراطورية، والبنية النفسية البارانوئية، سهل التحول من العقيدة البعثية إلى العقيدة السلفية المحاربة دون إشكال. سهل منه أيضا أن في خلفية تجربة تكوين القاعدة نفسها بصمات أجهزة مخابرات أمريكية وسعودية ومصرية وباكستانية، وأن عالمها السري يدفع إلى تطور وظائفها المخابراتية. أجهزة المخابرات إرهابية بقدر ما إن منظمات الإرهاب مخابراتية.
العنصر البشري الأساسي في داعش هو العنصر العراقي، وإن يكن الجهاد العراقي، ثم السوري، معولما من حيث قاعدته البشرية. وشكل استنفار المظلومية السنية أرضية نفسية مناسبة لانتشار السلفية في سوريا بعد الثورة، مثلما شكل تهميش البيئات السنية في عراق ما بعد صدام بيئة مناسبة لانتشار القاعدة.
وفي حين تشكل منظمات إرهابية علمانية نموذجا أقدم للقاعدة والإرهاب الإسلامي، يبدو النموذج الأقدم لداعش جهاز مخابرات، أو فرق الموت العاملة لمصلحة نظم فاشية، منها اليوم النظام السوري نفسه، وبخاصة عبر مجموعات الشبيحة النخبوية، الأكثر تنظيما والأوثق ارتباطا بالمراكز الأمنية «(تمييزا عن «الشبيحة الشعبيين»، الذين لا يملك كثيرون منهم غير «قوة قمعهم»، يبيعونها مقابل أجور محددة أو المشاركة في نهب أملاك المقموعين)؛ ومنها فرق الموت الشيعية التي عملت في سنوات ما بعد الاحتلال الأمريكي ضد محسوبين سابقين على نظام صدام وحزب البعث، واشتهرت بوحشيتها.
وأظهر تقرير موسع أنجزه كرستوف رويتر، ونشر مؤخرا في شبيغل أنلاين الألمانية، هذا البعد الأساسي من تكوين داعش. يركز التقرير على دور حجي بكر (قتل في تل رفعت في حلب في مطلع 2014)، وكان عقيدا في المخابرات الجوية العراقية أيام صدام. «الدولة الإسلامية المخابراتية» التي بناها حجي بكر وأشباهه جهاز للمراقبة والسيطرة، كما يقول رويتر، دون عنصر ديني نوعي في أفعالها أو تخطيطها الاستراتيجي. تبدو داعش ظاهرة مخابرات أكثر مما هي منظمة دينية متطرفة، وظاهرة سلطة وإكراه أكثر مما هي ظاهرة دين وإيمان. والمدخل الأنسب لدراستها هو تاليا ديناميات السلطة، وليس ديناميات الاعتقاد. وبينما نخطئ إن أغفلنا دور الدين في تكوين داعش، إلا أنه لا يتعدى دور إيديولوجية مشرعة لسلطة تعلوه أهمية، وأداة للتعبئة الاجتماعية ومراقبة المحكومين.
وبفعل تقاطع التكوين القاعدي (القطبي الوهابي) مع العنصر الصدامي العراقي، ليس هناك شيء شعبي في داعش، ليس هناك عنصر يتعلق بتمرد المحرومين في بنيتها وتفكيرها وقاعدتها الاجتماعية. في الإطار السوري، تنفرد داعش بأنها معادية للمجتمع أكثر مما هي معادية للنظام، هذا بينما المجموعات السلفية الأخرى معادية للنظام والمجتمع معا، وكانت الميزة التكوينية لـ»الجيش الحر» أنه معاد للنظام، ومدافع عن المجتمع. عداء داعش للمجتمع متأصل في العنصر المخابراتي القوي في تكوينها، ثم في اجتذابها الشرائح الدنيا الرثة، وكذلك في نخبويتها الأصيلة: المراتب العليا فيها لّـ «المهاجرين»، ثم لـ»الأنصار» (أتباع داعش المحليين)، أما «عامة المسلمين» فهم القاعدة التي تُنهب وتُبتز، ويسخر أبناؤها في حروب داعش. هذا فوق أن أساسها الفكري متمركز بإفراط حول السلطة والحكم، مثل حزب البعث.
يمكن القول تلخيصا إن داعش جهاز مخابرات لديه دولة، وليست دولة لديها مخابرات، وذلك على غرار ما كان يقال من أن إسرائيل جيش لديه دولة، وليس دولة لديها جيش. وهي في ذلك أيضا تشبه نظامي البعث الأسدي والصدامي من حيث مركزية المخابرات في «الدولتين».
في المحصلة، تدفع داعش المشروع السلفي الجهادي إلى أقاصيه، من حيث كونها مشروع سلطة مطلقة معادية للمجتمع، ومن حيث دور أجهزة «المراقبة والمعاقبة» فيها، ومن حيث مزيج السرية والقسوة المفرطة المميز لها. هذا الانحطاط هو الوجه الآخر لانحطاط الدولة العربية إلى سلطة محض لا معنى لها.
٭ كاتب من سوريا
ياسين الحاج صالح
تعليقا على كاتب المقال ليس فقط المخبارات الصداميه قامت بتاسيس وايجاد
القاعده وداعش بل هناك مجموعه من المخابرات العربيه والدوليه سعت لايجاد
هذا التنظيم الارهابي وعلى راسهم السعوديه التي تنتهج النظام الوراثي للحكم.