تحدثت في مقال سابق، عن كيفية اصطياد الشخصيات، في النصوص الأدبية، التي تحصل على تفاعل جماهيري، في العادة، والهبوط بها إلى أرض الواقع، لترتديها شخصيات موجودة بالفعل، وغالبا ما يحدث هذا في النصوص المكتوبة عن المجتمعات الضيقة، ذات الكثافة السكانية المحدودة، مثل مجتمعات القرى البعيدة، والأحياء الشعبية، والتي في أطراف المدن، حيث تفاصيل الناس وتفاصيل أفعالهم معروفة للجميع: المشية المنضبطة أو العرجاء يعرف تماما من يمشيها، الوجه العابس والبشوش يعرف من يرتديه، والضحكة التي تطلق، حتى بخفوت، تحت ستار الظلام، يعرف من أطلقها وإن كان سيطلق غيرها أم لا؟
لقد تلقيت رسائل عديدة، من الذين يتابعون، بعضها يتفق معي في أمور كثيرة، وبعضها يختلف، لكن معظم من كان يسأل، كان يود أن يعرف كيف يحدث العكس؟ أي كيف يلتقط الكاتب شخصية حقيقية من محيطه، ويبرمجها أو يعدل من تفاصيلها الواضحة، والمخبأة أيضا، بحيث تصبح شخصية أخرى في نص مواز، إن كان هذا يحدث حقيقة، وهل استخدمت مثل هذه التقنية؟ أو أعرف من استخدمها من الكتاب الذين، نقرأ لهم كثيرا ولا نعرف من أين يأتون بالإيحاء؟
الشيء المعروف، وأتوقع أن الجميع يعرفه، هو أن كل شيء في الدنيا يمكن أن يوحي بقصة ما، الحكاية التي تسردها جدة عجوز، أو أم، أو حكاء موجود في بيئة ما، هي قصة تمتلك أركان القص جميعها، لكنها ربما تفتقد للصياغة الأدبية، وتحتاج لإعادة روايتها بأسلوب أكثر حرفية. التفاصيل اليومية التي نمر بها، في البيوت والشوارع والأسواق، وحتى المعارك الصغيرة والكبيرة، واللافتات المعلقة هنا وهناك، على سبيل المثال، هي قصص مروية، باقتضاب، وتحتاج إلى تفكيكها وصناعة نصوص مدهشة منها، ولولا امتلاء العالم بالحكايات، لما استطاع أحد أن يكتب، ذلك أنه يصطاد خامات الحكاية من مجتمعه وبيئته المحيطة، ويلونها بالخيال، لتخرج في الشكل الأدبي المعروف، وبشرط أنها قصة خيالية، لا تمس حتى الشخصيات التي تم أخذ بعض ملامحها وتفاصيلها من أجل الكتابة. وكنت أعتقد دائما في ما أسميه خامات الكتابة، وهي مجموعة مواقف متفرقة، فيها الكثير من الطرافة، يمكن أن تمر بشخص ما من المتعلقين بالكتابة، وتهبه فكرة، أو لمحة من فكرة سيستخدمها لاحقا، لكن وكما قلت في مقالي السابق، لن يكون كل ذلك حقيقيا تماما وقد لا يسمح بتعيين شخص ما في الواقع، بوصفه بؤرة الحكاية، والسلوك المستقيم أو الطائش الذي كان يحيا به في النص، هو سلوكه في الحياة.
في أحد الأيام، ومنذ عدة أعوام، التقيت برجل مسن، في حوالي الثمانين أو أكثر قليلا، كان ذا ذاكرة خصبة، ويملك بالقطع ثروة من الحكي الصافي الجميل، لكنه لم يسمعني منها سوى شذرات قليلة. كان في الحقيقة يخبرني بأنه يكتب روايته الأولى، عن الحرب العالمية الثانية، وتداعياتها التي عاصر جزءا منها في بلاده، وهو يافع، وقد ابتدأ الكتابة في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، بشخصيات بعضها مختلق وبعضها مستوحى من الواقع، لكن الرواية لم تنته، وما تزال واقفة في الفصل الأول ويأمل أن ينهيها في أقرب وقت، وهو متأكد تماما من نجاحها. لقد كان جادا فعلا، ويحمل في رأسه الذي تنفض من الشعر، خريطة ثرية لرواية الحرب تلك. وما يتبعها من جوع عند البعض وشبع عند البعض الآخر، ما يتبعها من هلع وتشرد، وظلم، واضطهاد، مثلما نراه الآن في بلدان ثارت ضد دكتاتوريات فظة، وانتهت المسألة أسرا رهيبا في جو الحرب وتلفها، وأصبح من المتعذر أن يعود أي أمر إلى نصابه.
حقيقة فتنت بتلك الملامح البسيطة التي رواها لي الرجل، ونحن نجلس على مقهى هادئ، لكن ليس بمثل افتتاني بشخصية الرجل نفسه، فقد شكل لدي خامة للكتابة، يمكن استغلالها بشيء من الجهد والمكر، فالرواية التي تستغرق كتابتها خمسين عاما، وما تزال طفلة في مراحل حبوها الأولى إن جاز التعبير، لن تكتب أبدا، وتلك الملامح الثرية التي تشكل مستقبلها، قطعا سيأتي يوم وتفتقر فيه، وفقط تبقى بذرة رائعة، عن روائي مؤجل يكتب في التاريخ، وهو نفسه جزء من ذلك التاريخ. وأكيد ستتم عملية تحوير وإعادة ملامح من أجل أن تصبح الشخصية المأخوذة من الواقع، مؤهلة لامتلاك درب في نص هو من الخيال، وطبعا لن تذكر الحرب العالمية الثانية، إلا بما يخدم الفكرة، والنص الناقص للكاتب، ربما تكمله الرواية التي سيكون بطلها.
منذ أكثر من سبع سنوات، التقاني في أحد الاحتفالات العامة، رجل في نحو الأربعين، سلمني مخطوطا لروايته الأولى وكانت أيضا عن حرب جرت وقائعها في بلاده منذ زمن، ومات من جرائها الآلاف، ومثلهم تشرد في كل الدنيا، حيث فروا بأي طريق وجدوه قد يسمح بالتشرد.
لقد ظلت رواية المأساة هذه عندي زمنا طويلا، لم أجد وقتا لمطالعتها فيه، بالرغم من أنها ليست ملحمة، وإنما رواية صغيرة الحجم، وكان المؤلف يهاتفني بمعدل عشر مرات أسبوعيا، يذكرني بقراءة الرواية، وأعده بذلك، لكني أنشغل وأنسى، وفي أحد الأيام زارني المؤلف فجأة في مكان العمل، كان مرتبكا بشدة، عرقان، وأحمر العينين، وصدره يتحرك صعودا وهبوطا، بطريقة كان جليا أن وراءها انفعال جبار، قد يفضي إلى كارثة. طلبت منه أن يجلس، فرفض، أن يهدأ، فازداد توتره، ثم فجأة أخرج من جيبه سكينا صغيرة حادة النصل، لوح بها في وجهي، وهو يردد: هذه فرصتك الأخيرة لقراءة النص، وإلا عدت وذبحتك بهذه.
ثم لوح بها مجددا في وجهي، وانصرف ليتركني غارقا في الرعب.
في ذلك اليوم لم أفكر في أي شيء قد يضر الرجل الذي كان واضحا أنه ليس طبيعيا، ويرزح تحت ضغط ما، فقط جلست في بيتي ساعات، قرأت فيها رواية المأساة تلك، وكانت رواية جيدة إلى حد ما، فيها هزات الرواية الأولى، وبعض الضعف في الأسلوب، لكن لا بأس، كلمت الرجل برأيي، وأحسست بسعادة كبيرة في صوته، عاد في اليوم التالي، استرد مخطوطه بيد ناعمة هذه المرة، وبعينين مذهولتين، طالعني فترة ثم مضى، حيث لم أصادفه مرة أخرى على الإطلاق، والرقم الهاتفي الذي يحمله، كان قد ألغي من الخدمة كما تقول الرسالة التي تبثها شركة الاتصالات، ورواية الحرب والمأساة، لم تصدر، ولا أظنها ستصدر في يوم ما.
وأيضا في هذه المرة، كانت فتنتي كبيرة بشخصية المؤلف، إنه مبدع مأزوم، استطاع بطريقة ما، أن يسطر الأزمة في نص ربما أرضاه شخصيا، أو لا يعرف إن كان مرضيا أم لا؟ ويبحث عن رأي آخر، لقارئ سمع عنه، وحصل على الرأي تحت حد السكين.
أعتقد أن هذا الكاتب، هو أيضا خامة جيدة لحكاية ما، حكاية لا تعني بجو الحرب المذكور في روايته على الإطلاق، وإنما تعني به شخصيا، ويمكن أن يكتب في أحد النصوص، بوصفه مقاتلاً في إحدى الفصائل المتحاربة، يصيغ يوميات لأيام كارثية، ولن ينشرها على الناس في كتاب، فقط سيسعى لمعرفة تأثيرها لدى الآخرين وهي مخطوط. ممكن جدا أن يصبح داخل النص جنديا متقاعدا مشردا، يطوف بأوراقه في القرى والحلال الصغيرة، يقرأه للصبية والأميين، ويحس بنشوة كبرى حين يهز الناس رؤوسهم راضين.
إنها لسعة الكتابة التي يسأل عنها القارئ، وقد يجدها عند البعض ولا يجدها عند البعض الآخر. هناك من يكتب بسرية كاملة، محتفظا بملفات غاية في التمويه لشخصياته المتخيلة والمستوحاة من الواقع، على حد سواء، وهناك من يفتح مطبخه بين حين وآخر، خاصة حين يكتب شهادة إبداعية، تتحدث عن تجربته، ودائما ما تختلف نكهة الطبخ بين شخص وآخر، وفقط تبقى الأساسيات، أي البهار الذي يضاف إلى الطبخة، والنار التي ستنضجها إن كانت هائجة أو هادئة، وفي النهاية، من الذي يتذوقها؟ هل هو متذوق حقيقي، أم مجرد عابر بالتذوق فقط لا غير.
كاتب سوداني
أمير تاج السر
آه يادكتور أمير من ذا الذي يخلصنا من الكتابة من يخلصنا من أفيون الحرف يدان ترتجفان حبا فيما يلقي أو غصة غي الحلق تود التعبير الكتابة تعب كلها الجياة كما يقول المعري، عليك أن تكتب غصبا دون هواية إن وصقت بالهواية ولا أحسبه سوي ظلما في الوصف، كتبت وأنا في الأجواء خارج التراب وحين نزلت البقاع المقدسة، كتبت بالقلب وكل ما في القلب وأنا علي طاولة التجريح أخبئ في القلب إن كتبت الحياة مجددا …؟ كتبت وكتبت دون أصابع تكتب سوي الدموع وأنا أودع ولدي ومهجة قلبي وهو في طريقه يودع إلي أرض الغربة كما نسميها نحن الجزائريين كتبت ولا زلت أكتب في حيرتي واندهاشي لم هذا السر؟ لم هذا المرض ؟ حين تبدأ الكتابة وحين تستقر هل هي حقا مرض عضال …!؟