خلال الأيام الماضية أقال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وزير خارجيته ريكس تيلرسون بشكل مفاجئ. لم تكن المفاجأة تكمن في طبيعة القرار حيث كان متوقعاً بسبب العلاقة الغريبة التي كانت تجمع الرجلين والتي وصلت حد استخدام عبارات غير لائقة في وصف بعضهما البعض، بل كانت المفاجأة تكمن في الطريقة التي تم بها ذلك عبر تغريدة على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» المفضل كثيراً لدى الرئيس الأمريكي.
بالحديث عن هذه العلاقة الغريبة يمكننا أن نذكّر فقط بالمقال الذي كانت صحيفة «نيوزويك» الأمريكية نشرته بتاريخ 24/7/ 2017 حين تحدثت عن نية وزير الخارجية تقديم استقالته خلال الفترة المقبلة وذلك بسبب «عدم احترافية» الرئيس ترامب، وهو التعبير نفسه الذي كان اثنان من المقربين لتيلرسون قد نقلاه لقناة «سي أن أن» الإخبارية. الرئيس ترامب كان يتعامل باستخفاف علني هو الآخر مع وزير خارجيته لدرجة عدم الموافقة على بعض مرشحيه الذين قدمهم لشغل مناصب في وزارته.
هناك الكثير مما قيل حول هذه الخطوة ومدى تأثيرها على مستقبل السياسة الأمريكية الخارجية التي تمر بمنعطفات مهمة سواء على صعيد احتواء التوتر مع كوريا الشمالية أو على صعيد التعاطي الأمريكي مع قضايا المنطقة العربية أو العلاقة مع الصين أو مع الحلفاء الأوروبيين.
إلا أن أهم المنعطفات المرتبطة بهذا القرار كانت تكمن في مصير الاتفاق النووي مع إيران، فبناءً على تصريحات الرئيس ترامب رأى المعلقون على هذا القرار أن أحد أسباب الإقالة تكمن في موقف تيلرسون من إيران والذي وصف بأنه موقف لين لا يتماشى مع منطق وطريقة عمل الرئيس الأمريكي الذي أطلق وعوداً وتعهدات كثيرة تجاه تمزيق الاتفاق أو تجاه إيران التي كان وما يزال يرى أن من الواجب معاقبتها على ما تقوم به.
هناك في الواقع أسئلة عدة تبرز هنا: فهل كان تيلرسون فعلاً متعاطفاً مع إيران على النحو الذي يوصف به في الكثير من وسائل الإعلام؟ وهل ظهر ذلك بأي شكل خلال تعاطيه مع الملف الإيراني إبان شهور عمله؟ بعبارة أخرى: هل كان السبب في العجز عن تعطيل الاتفاق النووي يكمن في السياسة الخارجية الأمريكية التي كان يقودها؟ وإذا كانت الإجابة نعم، فإلى أي حد يمكننا أن نتوقع أن نشهد تغيرات درامية مع استلام بومبيو لمنصبه كقائد جديد للدبلوماسية الأمريكية؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة لا يمكن أن تتم من دون فهم لطبيعة الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه في العام 2015 والذي يدلل اسمه الكامل «خطة العمل الشاملة»على مدى التعقيد المتعلق به لجهة مناقشته الكثير من الموضوعات وارتباطه بالكثير من الجهات التي لا تعد الولايات المتحدة، على الأهمية التي تمثلها، إلا مجرد طرف منها.
الحقيقة هي أن الفشل في تحقيق رغبة الرئيس ترامب المتمثلة في الانسحاب الأمريكي الأحادي من الاتفاق النووي لم يكن يعود لرغبة الخارجية الأمريكية أو وزيرها في ذلك، بقدر ما كان يعود لطبيعة الاتفاق نفسه والذي تمت صياغته في عهد الرئيس السابق باراك أوباما بشكل يجعله غير قابل للتجاوز. أما السبب في الربط بين هذا الموضوع والتغيير في الهرم الدبلوماسي الأمريكي فقد يعود إلى كونه الملف الذي يشغل بال الكثير من الحلفاء في المنطقة وحول العالم.
هذه الإقالة تبدو متسقة من ناحية أخرى مع سياق الارتباك الذي عانت منه الإدارة الأمريكية منذ تسلم الرئيس دونالد ترامب مقاليد الحكم. ارتباك كان من مظاهره تعدد الأصوات داخل هياكل الإدارة المختلفة والكثير من الإقالات والتغييرات التي لم نجد لها تفسيرات منطقية حتى اليوم. على سبيل المثال فإن المحللين ما يزالون يبدعون في اكتشاف الأسباب الحقيقية وراء استبدال مايكل فلين مستشار الأمن القومي والشخصية المقربة من الرئيس الجديد بالجنرال ماكمساتر، كما أن الجدل وسوق التحليل ما يزال مفتوحاً لمحاولة فهم أسباب استبدال ذلك الأخير بالدبلوماسي جون بولتون.
فيما يتعلق بالاتفاق النووي كان تيلرسون يمثّل الصوت الدبلوماسي للسياسة الأمريكية. صوت يسعى لأن يكون مقبولاً وواقعياً في مقابل الصوت الاستفزازي والصادم أحياناً للرئيس الأمريكي.
في مقابل الرئيس، الذي كان يتحدث عن تمزيق الاتفاق ورميه، وهي العبارات التي كانت تلقى قبولاً كبيراً عند منتقدي الاتفاق، كان تيلرسون يقول أن ذلك غير واقعي وأنه من الواجب العودة مرة أخرى إلى الحوار حول الاتفاق.
فسّر كثيرون هذا الرأي بأنه انحياز لإيران، لكن تصريحات الرجل ومواقفه المتعددة كانت تؤكد إيمانه بدور إيران التخريبي في المنطقة وإن كان، وبحكم الكثير من الخبرة، ينظر للأمور بعين مختلفة.
حاول تيلرسون، على سبيل المثال، أن يشرح للمتحمسين أن هذا الاتفاق ليس اتفاقاً ثنائياً بين الولايات المتحدة وإيران، وإن كانت الأولى هي الطرف الأعلى صوتاً في الحديث عنه، بل هو في حقيقته اتفاق بين إيران ومجموعة الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا والاتحاد الأوروبي. بهذا المنطق يكون الحديث عن إلغاء الاتفاق أو تمزيقه مجرد حديث للاستهلاك الشعبوي أما واقعياً، فلا يملك الأمريكيون أي تفويض للحديث عن ذلك نيابة عن الآخرين. هذا الفهم هو ما جعل تيلرسون يخصص الكثير من الوقت للتفاوض والنقاش مع الحلفاء الأوروبيين حول إمكانية إيجاد نسخة جديدة من الاتفاق وهو ما كان يعد بالنسبة للرئيس ترامب وعدد من المتشددين في إدارته مجرد ضياع للوقت.
في الواقع فإن هذا الرأي العقلاني ليس شيئاً خاصاً بالوزير تيلرسون بل هو رأي الكثير من الفاعلين داخل الإدارة الأمريكية كوزير الدفاع جيمس ماتيس مثلاً الذي لا يمكن أن يوصف بأي حال بالانحياز إلى إيران.
استناداً على ذلك دعمت الدبلوماسية الأمريكية مقاربة عملية ومختلفة فيما يتعلق بالمسألة الإيرانية وهي مقاربة تستند على محورين: المحور الأول، هو محور المواجهة الذي تعمل فيه الولايات المتحدة بشكل لصيق مع جيران إيران المتضررين من سياساتها ونواياها من أجل إجبارها على التراجع عن ميادينها ومكتسباتها الاستراتيجية على الأرض وهو ما مثله بشكل واضح لقاء الرياض الشهير الذي ضم عدداً كبيراً من الدول العربية والخليجية والإسلامية. أما المحور الثاني فهو محور تصعيد العقوبات بإضافة أفراد ومجموعات جديدة وبحجز الملايين من الدولارات التي كانت في طريقها لإنعاش الاقتصاد ورد العافية إليه.
هذه المقاربة أثبتت فشلها اليوم، ليس لأسباب تعود لمنطقها، بل بسبب التغيرات الواسعة التي لم تكن بالحسبان على خارطة الأحداث في المنطقة وعلى رأسها الأزمة الخليجية التي ولّدت موجات غير مسبوقة من الارتباك في مقابل التهديدات الإيرانية.
عن المرحلة المقبلة يقول المنطق أننا لن نشهد أي تغيير جذري في طبيعة العلاقة الأمريكية الإيرانية، وأن التلويح بالحرب لا يبدو خياراً متاحاً وذلك بسبب الفوضى التي يمكن أن يقود إليها في عموم المنطقة. هذا بحسابات المنطق، لكن المشكلة أننا لا نعيش في عصر هذه الحسابات بقدر ما نعيش، على حد تعبير هنري كسينجر، في زمن تتراجع فيه الدبلوماسية لحساب المؤسسة العسكرية وأجهزة الاستخبارات.
كاتب سوداني
د. مدى الفاتح