من دولة «تبرعات رمضانية» إلى مسلسلات

وسط أجواء (الشهر الكريم) الذي تحول إلى أكبر مصيدة لاستغلال المواطنين سياسيا واقتصاديا وفنيا، ومع الارتفاع القاسي لدرجات الحرارة، الذي انضم إلى قائمة طويلة من أسباب المعاناة هذه هوامش من «رمضان المصري».
أولا:
وسط كارثة الأسعار، التي يجتمع حولها في اتفاق نادر مؤيدو النظام ومعارضوه، تبدو هذه الحملة الجنونية لجمع التبرعات للمستشفيات وصندوق (تحيا مصر) وغيرها الأكثر استفزازا للكثيرين. ومع الإقرار بأهمية العمل الخيري، خاصة في مساعدة ملايين المرضى الذين يحتاجون إلى هذه المستشفيات بالنظر إلى الانهيار الفادح في النظام الصحي في مصر، إلا أن هذا لا يبرر الابتزاز الحكومي الفادح للأغلبية من المواطنين للحصول على جنيهات قليلة من التبرعات، بدلا من أن تقوم بواجبها في مساعدتهم للبقاء على قيد الحياة في ظل أزمة اقتصادية خانقة.
ومن يتابع هذه الإعلانات التي تتكرر بشكل هيستيري وتتفوق على حجم المسلسلات الرمضانية التي وصل عددها إلى الأربعين، وتكلفت مليـــــاري جنيه، يدرك أن الناس أصبحوا ضحية لحرب ضروس للحصول على أموالهم، ويشعر بأننا امام (دولة تبرعات) قررت الانسحاب من واجبها ورفع شعار (حسنة قليلة) المعروف في مصر.
ورغم أن هذه الحملة ليست إلا تكرارا لما شهدته الأعوام الماضية، فإنها لم تطرح أبدا للنقاش العام حقيقة ما تشهده المستشفيات بكافة أنواعها، سواء الحكومية أو الخاصة أو العسكرية. ويبدو أن الحكومة حريصة على أن يبقى هذا الملف غير قابل للبحث. وللإنصاف فإن رئيس الوزراء السابق إبراهيم محلب كان كشف الاوضاع الكارثية في عدد من المستشفيات الحكومية، قبل اسابيع قليلة من إقالته ليصبح (مساعدا لرئيس الجمهورية).
ورغم تعليقات ساخرة في وسائل التواصل الاجتماعي فإن عشرات الملايين التي تنفق على ابتزاز المواطنين في الاعلانات تكفي لإعادة تأهيل كثير من المستشفيات وعلاج آلاف المرضى. وفي موازاة هذه الحملة التي تظهر مصر دولة تبرعات، تتنافس الإعلانات التي تروج للشقق والفيلات الفاخرة التي يفوق سعرها نظيراتها في دول اوروبية، ويبدو ان الدولة ليست مهتمة بالحصول على مساعدات من أصحابها للتبرعات التي تبتزها من الفقراء.
ثانيا:
إنه موسم الترويج لـ»تعديل الخطاب الديني» المفترض، استعدادا للقاء السنوي المرتقب بين الرئيس عبدالفتاح السيسي وقيادات الازهر، بنهاية رمضان. وهل هناك من (تعديل) أكثر من قيام القيادات الازهرية نفسها لتكرر الكلام نفسه، بدون حذف كلمة واحدة من كتب مازال يجري تدريسها في مدارس ازهرية لفتاوى وتفاسير قديمة باسم الدين تمجد الكراهية وتسمح بالقتل، وقد أشرنا إلى بعضها تفصيلا في مقال سابق.
ومن الواضح أن مطالبة الرئيس السيسي للأزهر بإصلاح الخطاب الديني توجهت الى بعض المسؤولين الذين يمثلون جزءا من المشكلة وليس الحل. ومن غير قرار سياسي تتولى الدولة بكافة أجهزتها تطبيقه، فإن (جذور الافكار الداعشية) تبقى سيدة الموقف مهيمنة على الشباب بشكل خاص، وليس حادث محافظة المنيا الاخير سوى دليل قليل من كثير. وفي حديث أخير لإحدى القيادات السلفية في الاسكندرية، دليل جديد على ان الخطاب المتشدد القائم على رفض الدولة المدنية وما يحمله من معان خطيرة تصل الى رفض الاعتراف بالدولة نفسها، مازال سائدا. ولا ترى الدولة في مثل هذا الخطاب انتهاكا للدستور أو القوانين، لكنها تسارع إلى رفض إلغاء عقوبة الحبس في تعديل قانون (ازدراء الاديان) الذي أصبح وسيلة سياسية تطال إبداء آراء علمية بشأن كتب تاريخية صدرت بعد مئات الأعوام من نزول القرآن.
ثالثا:
وتناسقا مع أخلاق (الشهر الكريم) جاءت بعض مسلسلات رمضان هذا العام من نوعية (للكبار فقط) لكن في غياب أي تحذير لحماية الأطفال من مشاهد لم تكن (على ايامنا) متاحة حتى في أغلب أفلام السينما. ولتكن الأمور واضحة فإن كاتب هذه السطور لا يمكن ان يتهم بمحاربة الابداع الفني، ولكن الحديث هنا عن مشاهد فجة قائمة على استهداف العري واللغة الشوارعية القبيحة التي تفرض على المشاهدين في صراع مفتوح على نسب المتابعة سواء في التلفزيون أو الإنترنت.
ومن الواضح أن توليفة العنف مع العلاقات الجنسية اصبحت الاقرب الى الفوز بالسباق الضاري على نسب المشاهدة، بدون ان ينفي هذا وجود أعمال فنية ذات قيمة عالية تطرقت إلى قضايا حقيقية ضمن العدد القليل جدا من المسلسلات الذي يمكن متابعته وسط هذا الطوفان الرمضاني. ولابد ان الحكومة تعد المستفيد الأكبر في هذا المشهد العبثي، خاصة أن بعض الناس سيحتاجون إلى شهور للانتهاء من مشاهدة كل هذا المسلسلات، قبل التفكير في المطالبة بإقالتها.
ومن اللافت أن الرئيس السيسي اكتفى في حفل الافطار الرمضاني الاسبوع الماضي بمطالبة الحكومة بأن تتحرك لتخفيف معاناة المواطنين من ارتفاع الأسعار، وكأن هذا هو الحل. أما البعض فيكتفي بالسؤال إن كانت ازمة الاسعار هي (المفاجأة الرمضانية) التي وعدهم بها الرئيس؟
الواقع ان شهر رمضان يقدم نموذجا لحالة من الانهيار الاعلامي والسياسي والثقافي تصب في خانة واحدة من ترهل الدولة وغياب الرؤية الحتمية للإنقاذ.
كاتب مصري من أسرة «القدس العربي»

من دولة «تبرعات رمضانية» إلى مسلسلات

خالد الشامي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    مقال جميل وغير منحاز ولكن أين الحلول ؟ أليس الإنقلاب العسكري السبب المباشر لإنهيار الدولة بمصر ؟ الحل هو بعودة الشرعية
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول خليل ابورزق:

    اولا: ورد في المقال “الإعلانات التي تروج للشقق والفيلات الفاخرة التي يفوق سعرها نظيراتها في دول اوروبية” و الحقيقة ان هذا يدل على وجود طبقة جديدة قد انتفعت من الكوارث الحالية و تطلع الى الانتقال الى مساكن فاخرة. زمان كان يقال “اغنياء حرب” اما اليوم فيمكن القول “اغنياء انقلاب”.
    ثانيا: اما موضوع تجديد الخطاب الديني و المناهج فقد اصبح عنوانا فارغا و نحن نرى ان اشد “الارهابيين” لم يتلقوا تعليما دينيا اصلا في اوروبا او امريكا او روسيا (القفقاس) او في فلسطين المحتلة. و ما زالت ارقام القتلى في مذبحة القصر الجمهوري و فض اعتصام رابعة و في سيناء تفوق عشرات المرات قتلى “ارهاب” الاسلاميين فهل كان سبب هذا الخطاب الديني و مناهج كليات الشرطة و العسكر؟؟
    و نبقى في موضوع “الارهاب الاسلامي” و علاجه ب”تغيير الخطاب الديني الاسلامي و المناهج” فما قول من يركز على هذا في حملة جورج بوش الصليبية على العراق و افغانستان و ضحاياها المليونية؟ و جيش الرب في اوغندا؟ وما القول فيما نراه من الممارسات الاسرائيلية ورموز الارهاب جابوتنسكي و بيجن و شامير و غيرهم؟. ما القول في عمليات الابادة الصربية ضد البوسنة وكوسوفو؟؟ و العمليات الروسية ضد الشيشان؟ و الخمير روج في كمبوديا و المارينز الامريكية في فيتنام؟ و الفرنسية في الجزائر و المغرب؟ و النازية و الفاشية و البلشفية؟؟؟ هل نغير الخطاب الديني المسيحي او اليهودي او البوذي او الشيوعي او العلماني ام الاسلامي؟؟. اقترح تغيير مبدأ الغاية تبرر الوسيلة و تحريم الانقلابات و تجريم حق القوة
    ثالثا: اتفق مع الكاتب فيما قال ان “الواقع ان شهر رمضان يقدم نموذجا لحالة من الانهيار الاعلامي والسياسي والثقافي تصب في خانة واحدة من ترهل الدولة وغياب الرؤية الحتمية للإنقاذ”. و الاسباب عميقة والاتجاه الحالي خاطيء بالتأكيد لانه مجرب.
    الحرية و الديموقراطية هي الحل

  3. يقول عربي حر:

    تحية للكاتب المحترم
    مقال متوازن يظهر بؤس المرحلة في مصر ولا يقدم حلولا للأسف .
    جزء كبير من الكوارث سببها حكم العسكر والجزء الباقي سببه القوى السياسية التي إنبطحت وسمحت للعسكر بالعودة للحكم وكذلك يتحمل الإسلاميون بجميع طوائفهم نصيبهم من الحال الذي وصلت إليه مصر .

  4. يقول سنوحي المصري:

    المسألة أكبر من أن نختزلها في مصر يا سادة، العالم الآن بات ينقسم قسمين قسم يتمتع بقطف ثمار العلم والحرية ويشكل الأقلية وقسم يرزح تحت نيران الجهل والعبودية ويشكل الأغلبية.
    القسم الأول يعمل ويجد ويجتهد ويبتكر ويخترع ويصنع منتوجات لايجد لها سوقاً رائجة سوى في القسم الثاني من العالم الذي يشكل السواد الأعظم من سكان هذا العالم البائس.
    قيل قديماً ” الاتحاد قوة” والقسم الأول يتحكم في القسم الثاني بمبدأ فرق تسد.
    الحل لمن يريد الحل يكمن في مزيج العلم والحرية فكلاهما يؤدي إلى الأخر.
    هذا إن كان لكلامي معنى.

إشترك في قائمتنا البريدية