كانت انتخابات 1964، هي أوّل رئاسيات أمريكية يتابعها كوكب الأرض ككل عن كثب. فالعصر «الذهبي» للتلفزيون تعولمت دائرته جديّاً في تلك الفترة، بعد أنّ كانت أمريكية في المقام الأوّل، قبل ذلك بسنوات عديدة. والحدث الجلل، المتمثل باغتيال الرئيس جون.اف.كينيدي في 22 تشرين الثاني / نوفمبر 1963، فرض نفسه على الحدث الانتخابي الذي جرى بعد عام على الجريمة. لكنّ ما ساهم في جعل انتخابات 1964 حدثاً يجتذب المتابعة في كل أطراف الأرض كان المرشّح الجمهوريّ القصويّ باري غولدووتر، وحملته الصاخبة المطالبة بحسم الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، بالسلاح النووي. كثر وقتها الأخذ والردّ عبر العالم، حول احتمالات الحرب العالمية الثالثة إذا ما وصل غولدوووتر للبيت الأبيض.
زعزع رجل الأعمال ثم سيناتور أريزونا غولدووتر معسكر «الحزب الجمهوريّ» بالمزايدات العاتية داخله، وقاد الحزب في نهاية المطاف إلى هزيمة قاسية في مواجهة ليندون جونسون. لعبت «التحقيقات» الطبية المشكّكة بصحته العقلية والنفسية دوراً مهمّاً في الدعاية الانتخابية ضدّه. مع ذلك، أسّس غولدووتر لانعطافة أساسية في تاريخ اليمين الأمريكي، وفي انزياح الجمهوريين نحو ولايات الجنوب والغرب، وكان له باعٌ في منح خط المحافظين داخل الحزب الجمهوريّ هويتهم الأيديولوجية الواضحة، الجامعة بين حدّة العداء للشيوعية آنذاك، وبين الهوى «الليبرتاريّ» (التحريريّ)، المنحاز لحقوق الولايات بإزاء الدولة الاتحاديّة، ومن أجل تخفيض الأعباء الضريبية.
كان النجم الهوليودي السابق لأفلام «الوسترن» رونالد ريغان أحد الذين تجنّدوا في حملة تأييد غولدووتر آنذاك، مع أنّ ريغان كان في الحزب الديموقراطيّ قبل ذلك. لاحقاً، سيجري اعتبار الفوز الكاسح لحاكم كاليفورنيا الأسبق رونالد ريغان بالرئاسة في انتخابات 1980 بمثابة انتصار لغولدووتر، والخط المحافظ ـ التحريريّ، بمفعول رجعيّ. وسيسعد غولدووتر بالأمر بطبيعة الحال، لكنه سيشتكي في سنواته الأخيرة (ت 1998)، من صعود اليمين الدينيّ «الإنجيليّ» داخل الجمهوريين على حساب اليمين المحافظ التحريريّ.
الشابّة هيلاري رودام (لاحقاً كلينتون) كانت أيضاً من جملة الذين تطوّعوا في حملة غولدووتر عام 1964، لتنتقل بعد ذلك بقليل إلى «اليسار»، تحت تأثير حركة الحقوق المدنية وحرب فيتنام.
في أمريكا، أغرت المقارنة بين باري غولدووتر وبين دونالد ترامب الكثيرين. جمهوريّون عديدون توجّسوا من أن تكون نتيجة ظفر ترامب بالترشيح الحزبيّ وخيمة انتخابياً وتكراراً للهزيمة التي مني بها غولدووتر أمام جونسون. التركيز على الأهلية النفسية لغولدووتر عام 1964 تجدّد بشكل أو بآخر عام 2016، ولو أنّ ترامب طرح نفسه كمرشّح انفراج للعلاقات الأمريكية الروسيّة، وأتّهمه الديموقراطيّون بالتواطؤ مع موسكو خلال الانتخابات، لكن هيلاري كلينتون ركّزت طيلة الحملة على خطر وضع المفاتيح النووية في أيدي عابث ومزاجيّ كدونالد ترامب. أمّا روّاد «المحافظة التحريرية» (الليبرتارية)، أنصار تقليص سلطات الحكومة الاتحادية وإلغاء ضريبة الدخل الفدرالية وتخفيض الأعباء الضريبية والإنفاق الاجتماعي، فقد جمعوا بين اعتبار فوز ترامب انتصاراً للخط الأيديولوجيّ الذي دشّنه غولدووتر، والذي لم يستطع ريغان المضيّ فيه بحرّية، إذ كان على ريغان إرساء تعايش داخل إدارته بين المحافظين التحريريين من ناحية، وبين التقليديين من أمثال جورج بوش وجيمس بيكر من ناحية ثانية. وهكذا، رون باول، وهو من كبار ملهمي تجربة «حزب الشاي»، فقد نبّه الرئيس المنتخب، بأنّ معركته ضد المؤسسة التقليدية داخل الحزب الجهوريّ، ومع «حكومة الظل أو الدولة العميقة» ستكون قاسية. في المقابل، شدّد الكاتب في «ناشيونال ريفيو» ماثيو كونتينيتي على أنّ الخط المحافظ في أفضل وضعية له في أمريكا منذ عشرينيات القرن الماضي، وبأن ترامب الذي لا يمتلك خبرة سياسية تقارن بما راكمه ريغان قبل وصوله إلى البيت الأبيض، إنّما يحوز على وضعية لم يحظ بها ريغان قط، وهو كونغرس بأكثرية جمهورية، كما أنّ ظاهرة ترامب تمكنت من إخراج الجمهوريين من حصرهم رئاسياً في ولايات الجنوب والغرب، ومن إخراج الجمهوريين من اختزالهم في اليمين الديني الإنجيليّ، فأعاد توحيد «الجنوب مع ولايات البحيرات الكبرى»، وتحديداً من خلال التصويت النوعي له في صفوف الطبقة العاملة البيضاء. يدرك كونتينيتي أنّ الخط الشعبويّ ـ الليبرتاريّ لن يحكم لوحده مع ترامب، لكنه، بخلاف رون باول، يبدي اطمئناناً إلى كون المؤسسة المرجعية (الاستبلشمنت) هي اليوم أكثر محافظة مما كانت عليه في أيّام ريغان. وبانتظار دخول ترامب إلى البيت الأبيض، ثمّة مؤشران أساسيّان لمدى قدرته على الموازنة بين الخط المحافظ التحريريّ وبين المؤسسة التقليديّة للحزب الجمهوريّ: أولاً، معركة تسمية خلف في المحكمة العليا، للقاضي المحافظ انطونين سكاليا، المتوفى مطلع هذا العام، والذي رفضت الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ المصادقة على استبداله بالقاضي ميريك غارلاند الذي سمّاه أوباما، ناهيك عن قضاة آخرين في المحكمة العليا تجاوزوا سنّ التقاعد، وكان ترامب تعهّد بإيصال قضاة على نهج سكاليا «الحنبليّ» دستوريّاً، مع أنّ ترامب كان أقل راديكاليّة في الموضوعات القيميّة (الإجهاض، زواج المثليين، قانون الإعدام) من المرشح الجمهوريّ (الكوبي الأصل) تيد كروز. وثانياً، كيفية تصرّف ترامب وفريقه حيال برنامج الضمان الصحي المعروف بالـ»اوباماكير»، الذي يعتبره اليمين منافياً للحريات الفردية، وكان ترامب تعهّد باستبداله في أوّل مئة يوم بعد انتخابه، وإذ به يثمّن اليوم نواحي إيجابية ضمن هذا البرنامج، في حين تقوى المقاربة التي تقول بأنّ خطأ اوباما الأساسي كان في إحالة هذا البرنامج للتصويت في الكونغرس، رغم المعارضة الجمهورية له، بخلاف الطابع «التوافقي» بين الحزبين الكبيرين حيال شتى القوانين الاجتماعية منذ الثلاثينيات، وبالتالي فإنّ مصلحة ترامب لا تكمن في شطب حزب لقانون حزب، بل في مراجعة يمينية لـ»أوباماكير» تنال موافقة وافية من الحزبين.
بالرغم من راهنية الإحالة لغولدووتر وريغان، لا ينتمي ترامب إلى جناح له كيان خاص داخل الحزب الجمهوريّ، ولعلّ الرأي الذي يصوّر تطرّفه على أنّه «تطرّف خط الوسط» أولى بالأخذ بالحسبان من سواه، خاصة وأنّ ترامب (الديموقراطي قبل وصول ريغان) أمضى فترة ولايتي الرئيس جورج بوش الابن مسجّلاً على قوائم ناخبي الحزب الديموقراطي، وعارض احتلال العراق عام 2002، وكانت له مساهمة في تمويل حملة هيلاري كلينتون الانتخابية داخل الحزب في وجه باراك أوباما عام 2008.
لا يعني هذا أنّ الأثر العالمي لفوز ترامب لن يعطي دفعاً معنوياً مهمّاً للحركات الشعبوية اليمينية في بلدان كثيرة. يبقى أنّ أثر هذه الحركات يختلف حسب درجة صلابة المؤسسات الدستوريّة، وحسب الطبيعة التنظيمية لهذه الحركات. فترامب ليس مارين لوبين ما دامت الأخيرة زعيمة لحزب، ومارين لوبين ليست اليمين المتطرّف في أوكرانيا ما دامت لا تمتلك ميليشيات.
وإذا كانت ظاهرة ترامب تحمل الكثير من سمات الأوليغارشي العالمثالثي عندما يداخل في السياسة، فإنّه استطاع تقديم «تصوّر عن العالم» لا تعود فيه المقارنة سهلة مع فراغية سيلفيو برلسكوني، فتصوّر ترامب عن العالم متأثّر جديّاً بالمذهب الليبرتاريّ، ممتزجاً بالكثير من كراهية الأجانب والميزوجينية ضدّ النساء. فهل ثمّة مجال لظهور «الجانب الليبرتاريّ» من ظاهرته أكثر بعد تبوئه للرئاسة؟ الشيء المؤكّد أنّه استطاع استيعاب «اليمين الإنجيليّ» خلال الحملة الانتخابية، دون أن يترك هذا اليمين الإنجيليّ يختزل ظاهرته، وفي مكان ما، لعب تهتّك ترامب وتبجّحه الذكوريّ، دوراً لاجماً لهذه «التقوى» التي حلّت في نموذج سارة بيلين على سبيل المثال. وفي مكان آخر، لعبّ انعدام التوازن بين قلة تمويل حملة ترامب، وطفرة تمويل حملة كلينتون، لصالح تصوير ترامب الملياردير، بأنه مرشح اجتماعي، مرشّح يميل «الصراع الطبقي» اليه.
الشيّ الذي لا غنى عنه في الوقت نفسه هو التوقف عن الإحالات المضجرة، الخاملة، التي تماثل بين ظاهرة ترامب (أو حتى لوبين) وبين صعود الفاشية. أي ظاهرة سياسية صاعدة يتعثر اليساريون والليبراليون في تدبّر أمرها، يحيلونها رأساً على الفاشية. خارج هذه البلادة الذهنية والمعرفية، قد تكون قراءة كتاب جوناه غولدبرغ «الليبرالية الفاشية. التاريخ السري لليسار الأمريكي من موسوليني حتى سياسات التغيير» (2007) مجدية. ليس له قيمة أكاديمية مهمّة، لكن يكفيه التذكير بأنّ الفاشية هي أساساً مذهب نشأ في صفوف اليسار، وبأنّ سياسة «الصفقة الجديدة» (النيو ديل) التي أرساها فرنكلين روزفلت لمواجهة الكساد استلهمت الكثير من التجربة التكافلية في ايطاليا الفاشية. طبعاً، يهذي هذا الكتاب كثيراً، عندما «يؤرّخ» لفاشية ليبرالية تبدأ من رئاسة ويلسن، وتمر بروزفلت وكينيدي، وتتوّج باوباما، لكنه كتاب ينفع لفهم كيفية رؤية اليمين الجذريّ لنفسه في أمريكا: الحرّيات الفردية مسألة جوهرية بالنسبة له قبل الدولة وقبل الأمة، وهو عندما يعادي الأجانب، فبحجة حماية هذه الحرّيات الفردية، وهو عندما يتعصّب للحرّيات الفردية يتعامل مع الدولة الاتحادية وكل نزوع لتقويتها كدولة أجنبية.
٭ كاتب لبناني
وسام سعادة