من نيس إلى إسطنبول

حجم الخط
9

نجح الفرنسي التونسي محمد لحويج بو هلال في تحويل احتفالات نيس إلى كابوس. وسواء أكان الرجل يعاني مرضاً نفسياً، مثلما قال والده، أو كان «مجاهداً» في صفوف دولة البغدادي، فإنه حقق هدفه عبر تحويل موت الأبرياء إلى جزء من مشهدية الموت الداعشية، التي نجح فقهاء إدارة التوحش في ترسيخها.
تأتي صورة بو هلال من أجل أن تمحو صورة محمد بوعزيزي. كان انتحار البوعزيزي احتراقاً الشرارة التي أطلقت الثورة التونسية وافتتحت الثورات الشعبية العربية. أما انتحار بو هلال فجاء ليطفئ شرارة الأمل ويحولها جريمة. لو لم يمت بو عزيزي عام 2011 لكان اليوم في الثانية والثلاثين من العمر، فهو يكبر بو هلال بسنة واحدة، أي أن الشابين من جيل واحد. بو عزيزي في يأسه أطلق احتمال عودة العرب إلى أنفسهم كشعوب تستحق الكرامة والحياة والحرية، أما بو هلال فحوّل اليأس إلى انتقام من الذات والآخرين.
الثورات العربية كانت محاولة لاعادة العالم العربي إلى حلبة التاريخ، والتيارات الأصولية ليست سوى محاولة لاخراج العرب من التاريخ عبر الانتقام من تاريخهم، وتلويث صورتهم بالدم والجنون. البو عزيزي كان صوتنا ضد الديكتاتورية والاستبداد، وبو هلال صار صوت الديكتاتورية وسوطها، من أجل تسويغ إذلال العرب، عبر إخراحهم من زمنهم وإثبات أن الحرية لا تليق بهم، وأن عليهم ان يبقوا تحت أحذية العسكر وأنظمة المافيا إلى الأبد.
وخلال اربعٍ وعشرين ساعة انتقل بو هلال من نيس إلى اسطنبول. مصادفة التزامن بين الحدثين الفرنسي والتركي مليئة بالدلالات. بينما كنا نمسح عار الجريمة الفرنسية عن عيوننا، بدا وكأن العار امتد فجأة إلى تركيا عبر انقلاب عسكري شاركت فيه قوات من سلاحي البر والطيران، هدفه إسقاط حكومة منتخبة، بحجة رفض الميول الاستبدادية لدى الرئيس التركي. ولم يكن احتفاء الديكتاتور المصري بالحدث سوى الوجه الآخر لنشوة المستبد السوري الصغير بالانقلاب. فالانقلاب حاول أن يثبت أن علينا أن نختار بين كوليرا العسكر وطاعون داعش، وأن الحرية لا تليق بنا، وأن خيارنا الوحيد هو الخروج من التاريخ والدخول في جريمة تدمير ذاتي متمادية لا أفق لها سوى الحضيض.
في نيس المجرحة بالخوف والدم، حمل بو هلال الموت للناس، وشرعن في عمله السادي التيارات الفاشية اليمينية الصاعدة في غرب يفقد قيمه التي تلوثت بجريمة غزو العراق. وفي اسطنبول حاول جنرالات الانقلاب تشويه ما تبقى من صورة المنطقة غبر انقلاب أحمق، كان سيضع تركيا على مفترق الحروب والتفكك، ويقتل احتمالات الديمقراطية التي تواجه الكثير من الصعوبات.
حدثان متزامنان في الدلالات، ويقدمان لنا وجهين لصورة واحدة، فالاستبداد لا يحيا إلا بالخوف، والأصولية المتوحشة هي ابنة الخوف.
ومثلما تعاملت الولايات المتحدة واوروبا مع الاستبداد والتوحش بصمت مريب أحياناً وبجعجعة لا معنى لها في الكثير من الأحيان، تعامل العالم بصمت مع الحدث التركي، ولم يستفق لشجب الانقلاب الا بعد فشله المدوي في شوارع اسطنبول وانقرة.
هذا الصمت المريب يشير إلى الحقيقة التي عميت عنها الأبصار، وهي أن الغرب لا يتفرج على مآسينا فقط بل هو شريك فيها. ورغم الهلع الغربي من جريمة نيس فإن حساب الربح والخسارة لا يزال يميل بشكل واضح لمصلحة الدول الكولونيالية. عالم عربي مدمر وتركيا محطمة وإيران تتلهى بحروب الملالي الطائفية هي الجائزة الكبرى للمشروع الغربي الحقيقي الوحيد في المنطقة الذي يدعى دولة إسرائيل.
غير أن الشعب الذي لم يؤخذ في حساب معادلة الاستبداد والتوحش، صنع المفاجأة وكان هو المفجأة. لقد تصرفت الأحزاب السياسية التركية بتياراتها المختلفة بنضج ديموقراطي، فأدانت الانقلاب ودعت إلى اسقاطه. لكن السقوط الحقيقي للانقلاب تم في الشارع. في الشارع أسقط الناس نظام الانقلابيين الوليد، ووقفوا في وجه الدبابات واجبروها على الفرار. وهذا له أكثر من دلالة، لأنه في العمق ليس تفويضاً لأردوغان، بل هو اعلان ان السلطة تنبع من الناس. وسيكون محزناً ان يقرأ الرئيس التركي الهبة الشعبية التي دحرت الانقلاب بأنها تفويض شخصي له كي يتسلطن، لأنه سيمهد بذلك لقتل الديمقراطية بيديه.
العلاقة بين نيس واسطنبول ليست مصادفة، حتى ولو كان تزامنهما مجرد مصادفة. فهذان الحدثان أو ما يشبههما يتزامنان من زمان. اتخذا شكلهما الأول في سوريا حين استباح النظام البلاد وكان جوابه على الثورة السلمية هو الرصاص، ثم اتخذا شكلهما عبر الافراج عن قادة الأصوليين في السجون، حتى وصلت الأمور إلى ذروتها عند تأسيس دولة البغدادي، التي ورثت دولة مصعب الزرقاوي من زمن الاحتلال الامريكي للعراق، وحققا نجاحهما الأكبر في الانقلاب العسكري المصري.
الإرهاب الأصولي في شكله الوحشي لم يمتد إلى الغرب، بل بدأ هناك في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر ثم جاء الى العراق مع/ وكرد فعل على الغزو الامريكي. وهو اثبت أنه تدمير ذاتي وليس تدميراً للآخر. كما ان اللعب مع الأصوليين التكفيريين وممالأة المستبدين هو الذي سمح بعودة الارهاب الوحشي إلى الغرب.
معادلة جهنمية لا تنكسر من داخلها، لأنها تغذي الموت بالموت، ولا إمكانية لكسرها إلا حين ينجح الناس في ضرب معادلة الاستبداد.
هذه هي الأهمية الكبرى للحدث التركي الذي لا تزال تفاصيله غامضة، فلقد انقذ الناس تركيا ليس من احتمالات الاستبداد فقط بل من خطر التفكك. هذا الدرس البليغ جاء من تونس أولاً، وعلى حزب العدالة والتنمية أن يقرأ معاني هذا الدرس جيداً، ويكف عن سياسات القمع الاردوغانية، وينفتح على المشاركة الديمقراطية، ويتوقف عن الحماقة القومية المتطرفة في معالجة الأزمة الكردية. وينهي اللعبة السوداء في التعامل مع داعش وأخواتها.
لا يحمي الحرية والديمقراطية سوى الناس. البوابة الإسرائيلية ليست سوى وهم، وكذلك البوابة الروسية المدججة بشهوة كولونيالية متجددة.
الشعب في تركيا قال كلمته، وكانت كلمته اعلاناً بأن معادلة الأواني المستطرقة بين الاستبداد والأصولية يمكن كسرها.

من نيس إلى إسطنبول

الياس خوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    العلامة الدكتور يوسف القرضاوي لبرنامج الشريعة والحياة (تاريخ الحلقة 19- 10-1997) : أنا أصولي طبعاً، آه، أنا أصولي. واحد مرة بيقول لي: الله! دا أنت معنى كده أنت أصولي! قلت له أنت أصولي وابني أصولي، إن كانت الأصولية هي التمسك بالقرآن والسُّنة وما أجمعت عليه الأمة فأنا أصولي، لأن الأصولية إما معنى التمسك بالأصول بمعنى المصادر والمصدر الأول عندنا القرآن والمصدر الثاني السُّنة الصحيحة، والمصدر الثالث ما أجمعت عليه الأمة إجماعاً يقينياً، لأن عندنا الأمة في مجموعها معصومة من الضلالة، لا تجتمع هذه الأمة على الضلالة. وإذا كانت الأصول بمعنى الأسس والأركان والمقومات، فهذه تشمل طبعاً أصول العقيدة: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والأركان العملية التي بُني عليها الإسلام من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت، والقيم الأخلاقية الأساسية التي بُعث النبي -صلى الله عليه وسلم- ليتممها، ” إنما بعثت لأتتم..” والشرائع القطعية التي بُني عليها التشريع في هذه الأمة، مش..، حل البيع، وحرمة الربا، وحرمة الزنا وشرب الخمر، ومثل إباحة الزواج والطلاق بضوابطه المعينة، وشرعية المواريث والحدود التي شرعها الله، دي كلها الشرائع القطعية، فهذه هي الأسس أو المقومات التي لابد منها. إذا فسرنا الأصول بمعنى المصادر القطعية أو بمعنى الأسس والمقومات فنحن أصوليون بهذا المعنى، وأنا أقول: اللهم أحيني أصولياً وأمتي أصولياً واحشرني في زمرة الأصوليين إذا كانت الأصولية بهذا المعنى.
    – عن الجزيرة نت –
    نحن نسمي داعش بالخوارج وليس بالأصوليين يا أستاذ إلياس
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول مهند محمود:

    الصحيح هو الديموقراطيه كنظام سياسي و اجتماعي لا جدال فيه، فأنت تراعي صندوق الاقتراع،وتراعي حق الفرد و المشاركه و الدستور و حتي حق الاعتراض .لكن عند المساس بالأمن القومي و وتهديد المكتسب الديموقراطي عبر الانقلابات و الخيارات الاخري العنيفه.عندها لا مفر من الحزم و القوه والضبط للمسببات.تركيا علي خط من نار سوريا التي تهدد كل محيطها الإقليمي و العالمي.ولن تستطيع البقاء طويلا بحال توازن و ثبات و دفاع بدون ردع و استبقائيات داخليه و خارجيه.

  3. يقول سامح // الاردن:

    * ( الاسلام ) دين عظيم سمح يدعو للخير والمحبة والسلام ومكارم الأخلاق .
    * ( داعش ) لا تمثل سوى نفسها والاسلام منها براء.
    * الشعب ( التركي ) وقف خلف النظام ( الديموقراطي )
    بغض النظر عن اسم الرئيس .
    * للأسف : الشعوب ( العربية ) في واد
    و( الديموقراطية ) في واد اخر..
    سلام

  4. يقول Firas - USA:

    . I wish I could explain to you my thoughts, feelings, and appreciation of your writing
    !Thank you, Ilyas

  5. يقول خالد - عمان:

    العرب بحاجة ماسة لان :
    – يبداوا في مناقشة انفسم وترك القاء اللائمة على الاخرين. الناس في العالم كله لم تعد تفهم لماذا ياتي الموت من عند العرب؟
    المغلوبون على امرهم كثر وليس العرب فقط. لكنهم لا يقتلون الآخرين! وان فعل احدهم فليس بحجم البشاعة الصادرة من جماعتنا

    – ترك نظرية المواءمرة جانبا وفهم تطور التاريخ وتغيرات السياسة. لا احد ضد العرب او المسلمين لانهم عرب ،مسلمون فقط! هذا كلام انتهى زمنه.

    بالنسبة ل “الانقلاب ” في تركيا فلاشيء واضح بشانه سوى تضخم حجم اردوجان! لا نعرف من قام به؟ لماذا؟ كيف تم التخطيط له؟ من هم قادته؟ وما هي تصوراتهم؟ والانكى ان قوائم ” العصاة” قد ظهرت بصورة سريعة لتشمل المحامين والقضاة والاكاديميين وغيرهم والعدد في ازدياد!

  6. يقول mustafa ahmad -athens:

    استاذ الياس , تحياتي : كل التقدير والاعجاب بمقالاتكم الرائعة , والتي تقدم خدمة جليلة لنا كقراء ننتظر دائما تحليلاتكم الصائبة المبنية على معطيات واضحة , وهي نتيجة خبرتكم الطويلة ككاتب وصحفي نظيف , وكم كنت اتمنى لو تتاح لهكذا كتابات ان تنشر بلغات اخرى , وانا كفلسطيني اشكركم من كل قلبي على ما تقدموه لقضية فلسطين , وارجو السماح لي بترجمة بعض مقالاتكم لنشرها بصحف يونانية , حيث لدي خبرة جيدة بالكتابة بهذه اللغة من خلال كتابة ونشر بعض المقالات بصحف يونانية , مع الاحترام .

  7. يقول Ossama Kulliah أسامة كليَّة سوريا/المانيا:

    أخي الياس
    بكل روعة تمت كتابة هذا النقال وأنا لدي رأي اعتقد أنه ليس بعيدا عن الصواب. أنا لدي شك أن ماحصل اليوم في مدينة فورتسبرغ في المانيا (شاب من اصل افغاني معه سكين وبلطة وانهال بهما على ركاب احد القطارات الصغيرة) هو عمل فردي بل هو حلقة جديدة في نفس السلسلة وأنا شخصيا أشك أن داعش تقف خلف هذه العمليات الإجرامية بل لدي شعور بأن القوى التي تقف خلف ذلك هي ذاتها التي تستفيد من الداعشية وأن هذه القوى ليست بعيدة عن مسرح الأحداث بمعنى أن الداعشية أي داعش ونداءها اصبح الواجهة والفاعلون الحقيقيون يرتدون قفازات سوداء أما المنفذون هم من إنتاج مشترك وإخراج هدفه واضح كما جاء في هذا المقال

  8. يقول م . حسن .:

    إستراتيجية داعش الإرهابية , هي تجنيد الفاشلين والمجرمين المراهقين السذج من بين المسلمين في الغرب , لتنفيذ عمليات إرهابية وقتل الأبرياء , والدخول في حلقة مفرغة من الإرهاب والتطرف , ما سيؤدى بدورة الي زيادة ضغوط المتطرفين العنصريين علي المسلمين عموما , ما سيؤدى بدورة الي زيادة العمليات الإرهابية وتدمير ما تبقي من صورة المسلمين في الغرب , لذا عليهم مسؤولية الدفاع عن أنفسهم وعن مستقبل أبناءهم , من خلال التصدى الفعال بشتي الطرق لهولاء الدواعش المجانين .

  9. يقول Ossama Kulliah أسامة كليَّة سوريا/المانيا:

    أخي الياس
    بكل روعة تمت كتابة هذا المقال وأنا لدي رأي حيث اعتقد أنه ليس بعيدا عن الصواب. أنا أعتقد أن ما حصل اليوم في مدينة فورتسبرغ في ألمانيا (حيث انهال شاب من أصل أفغاني يحمل سكين وبلطة على المسافرين في أحد القطارات الصغيرة) هو حلقة جديدة في نفس السلسلة والجميع هنا يسأل أيضا أين هي الحدود بين العمل الفردي والعمل الإرهابي وأنا شخصيا أشك أن داعش تقف بشكك مباشر خلف هذه العمليات الإجرامية (كما حصل في نيس وفورتسبوغ) أو أن من يقوم بذلك له صله مباشرة بداعش بل أصبح لدي شعور بأن هناك أيضا قوى أخرى تقف خلف ذلك وهي ذاتها التي تستفيد من الداعشية وأن هذه القوى ليست بعيدة عن مسرح الأحداث بمعنى أن الداعشية أي داعش ونداءها اصبح الواجهة أو الغطاء والفاعلون الحقيقيون يرتدون قفازات سوداء أما المنفذون فهم نوع من الإنتاج والإخراج المشترك هدفه الواضح كما جاء في هذا المقال

إشترك في قائمتنا البريدية