مهلاً أيها الواعظ

ألا فليُقْبِل وُعّاظ العصر بأقلامٍ ومحابر، فإن يحيى بن معاذ الواعظ يقول كلمته، ويُطلقها حكمة سائرة، يُحمِّل العبارة الوجيزة معاني بليغة، يخُطُّ بها معالم الخطاب.
«أحسنُ شيء: كلام صحيح، من لسان رجل فصيح.. كلام رقيق، يُستخرج من بحر عميق، على لسان رجل رفيق».
وهكذا يُدوّن ابن معاذ بكلمته معالمَ الخطاب الوعظي الناجح، الذي يحمِل كلمة طيبة، ذات أصل ثابت، وفرعٍ سامق، تؤتي أُكُلها كل حينٍ بإذن ربها.
ذلك الخطاب الذي تمتزج فيها عناصر الفصاحة وسلامة المصدر، وعمق المعالجة، والاهتمام بجمال الظاهر وروعة المضمون، فماذا عنك يا واعظ العصر؟
فليتسع صدرك لشيء من العتاب، فإنما الوعظ والتوجيه وارتقاء المنابر جزء ثابت في الخطاب الديني العام، والذي صُدّعِت حوله الرؤوس بمطالبات التجديد، فهلّا ارتقينا؟ لا تأخذني بخطابك بعيدا عن الرعيل الأول إلى عصور متأخرة ظهر فيها التكلف والنأي عن الاقتصاد في التعبد، لا تُحدثني عمّن كان يصلي الصبح بوضوء العشاء، وبينهما قيامُ بلا فتور، وحدثني عن أبي بكر الذي يصلي بعد العشاء ما تيسر له ثم ينام، أو عن الفاروق الذي يرقد بعد العشاء ويستيقظ قبل الفجر ليتنفّل، والرجلان قد تعلما من هدْي نبيهما الذي كان يصلي ويرقد، ويصوم ويفطر.
لا تُحدثني عن ذلك الذي حرمه خوف جهنم من التبسّم، وائْت لي بجواب ابن عمر لمن سأل: هل كان الصحابة يضحكون؟ فقال: «نعم والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبال». إن تسليط الضوء على واقع القرون المُفضّلة التي اصطبغت بالوسطية، لهو الأوْلى، فهي نماذج قابلة للتأسي بها، أما نماذج التكلُّف في العصور اللاحقة، فهي حالات فردية لا تُعبر عن منهج أو اتّجاه، ومن شأنها أن تُصيب المتلقي بالإحباط، ويرى بَوْنًا شديدا بين عبادته، وما كانت عليه هذه النماذج.
حنَانَيْك، لا ألفَينَّك تُعيد على سمعي مرارا وتكرارا الحديث عن الصبر والتوكل وأعمال القلوب ووصف الجنة والنار، فالدين دنيا وآخِرة، وإن كانت تلك الحياة قنطرة إلى الآخرة، فعلِّمني كيف أُصلح القنطرة.
لا تُهمل هذا الجانب المعنوي، ولكن لا تنس أن تُحدثني عن قيمة العمل والإنتاج، عن القيم التي يستقيم بها أمر المجتمع، عن نهضة الأمة وانبعاث حضارتها، عن الواقع الذي أعيشه، نعم ذلك الواقع الذي تتهرب في خطابك من معالجته وتُحيلني إلى الوصية بالصبر والرضا. النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحدث في أمور المعاش، وقدِمَ المدينة فناقشهم في تأبير النخل، وأرشد إلى تعلُّم اللغات، وعلّم صاحبه كيف يسلخ الشاة، ووجّه إلى الرفق بالحيوان، وإلى الحفاظ على البيئة، فدونك هدي نبيك وإمامك.
أيها الواعظ، إن أعداء الإسلام يريدون أن يُظهروا الإسلام في صورة الدين الذي لا يملك للناس حلولا عملية لأزماتهم، أتدري عَلامَ اعتمدوا؟
اعتمدوا على مثل هذا الخطاب الذي تتَّجِه به أنت إلى الناس، ففي كل نازلة وكارثة وأزمة، تقول لهم إنّ الحل أنْ تتقوا الله تعالى، ثم تصْمت، ولا تُرشِد إلى كيفية معالجة الأزمات.
الإمام الشعبي من التابعين الذين وُلدوا في خلافة عمر، مرَّ بِإبلٍ قد فشا فيها الجرَب، فقال لصاحبها: أما تداوي إبلك؟ فقال: إنَّ لنا عجوزا نتّكل على دعائها. فقال الشعبي: اجعل مع دعائها شيئا من القطران. حرص على أن يقترن بالتوجيه الإيماني توجيه آخر عمليّ، وهذه هي حقيقة التوكل، اعتماد القلب على الله مع مباشرة الأسباب، وتلك هي الحقيقة التي غفلتَ عنها في خطابك، التوجيه العملي، والتطرُّق إلى الحلول العملية، يسبقها الأمر بتقوى الله وطاعته التي هي أصْل كل خير.
أيها الواعظ لا أريد لك الكفَّ عن تناول صفات الحلم والصدق والعفاف والقناعة والصبر، ولكن مع ذلك لا تتجاهل صفات الفاعلية والإيجابية والمبادرة الذاتية والقيادة، فمنظومة الأخلاق الإسلامية تتَّسع دائرتها لتشمل صفات الأمانة والقوة معا، وحسبك في ذلك أن القرآن قد نقل إلينا تزكية الجانبيْن مجموعيْن «إن خير من استأجرت القوي الأمين».
فتلك المنظومة الأخلاقية بمجموع طرفيْها هي التي يستقيم بها أمر المجتمع، فكما يلزم أن تسود فيه الأخلاق التي ترتقي بها العلاقات الإنسانية، فيلزمه كذلك تلك الأخلاق التي تصب في نهضته وازدهاره.
يا واعظ العصر، في الصحيح غُنْية، فلا تُعبّئ خطابك بالآثار الموضوعة والأساطير المنسوجة، فأمتنا أمة إسناد، وكم من حديث مكذوب سار به الناس دهرًا، يظنونه من حسن القول وجليلِه، فلبَّس عليهم في تصوراتهم، وضلّ به سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
فهلّا تحريت الصحيح من السقيم وصُنْت الأسماع عن الخضوع لسكرة الولوغ في الحكايات الأسطورية؟ أيها الواعظ، كن بخطابك ناصرا للدين لا ناصرا عليه من حيث لا تدري، واعلم أن كلمتك للناس هدية وعطية، فانظر ماذا تهديهم، ودونك درّة عبد الوهاب عزام «ولن تخلد الكلمة على الأجيال، إلا إذا اتصلت بالحق والخير، وكان لها من قوانين الله في خلقه سند، ومن إلهامه لعباده مدد».
كاتبة أردنية

مهلاً أيها الواعظ

إحسان الفقيه

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود:

    ” النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحدث في أمور المعاش، وقدِمَ المدينة فناقشهم في تأبير النخل، وأرشد إلى تعلُّم اللغات، وعلّم صاحبه كيف يسلخ الشاة، ووجّه إلى الرفق بالحيوان، وإلى الحفاظ على البيئة، فدونك هدي نبيك وإمامك. ” إهـ
    تناقشت مع النرويجيين على طريقة الذبح الرحيمة للحيوان, كأن يضرب رأس الماشية ليدوخ الحيوان ثم تكون عملية الذبح بسلام
    فقلت لهم لماذا لم يوجهنا الله وهو أرحم الراحمين لهذه الطريقة سواءً بالتوراة والإنجيل أو حتى بالقرآن ؟
    أليس هو من خلق الحيوان ويعلم إن كان الحيوان يتعذب من الذبح أو لا ؟
    قالوا نحن علمانيين ونتبع ما يقوله العلم الحديث !
    فكانت إجابتي العلمية لهم كالآتي :
    لو إصطدنا سمكة من الماء ثم قطعنا رأسها وأخرجنا ما بداخلها فهل تكون قد ماتت ؟ قالوا نعم
    فقلت لهم لماذا إذا تتحرك هذه السمكة الميتة حين تقطيعها أو حين وضع الملح عليها ؟ فقالوا هذا بسبب الخلايا العصبية !
    فقلت لهم كذلك بعد عملية الذبح بعدة ثواني حين ينتفض الجسم بسبب توقف الدم عن الخلايا العصبية التي تتحرك بطريقة لا إرادية وليس من الألم
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول تونسي ابن الجمهورية:

    ما معنى الأخلاق و خاصة من يحدد هذه أخلاق او لا …؟ تحيا تونس تحيا الجمهورية

  3. يقول هديل الرأي .:

    قلت حقاً ، نعم هم يريدون تجريد الإسلام من كل آلياته وتفريغه تماما من مضمونه وتحويله إلى مجرد عبادات لا علاقة لها من قريب ولا بعيد في الواقع ، هم لايتوانون أبدا وبتبجح في وصف الإسلام بالتطرف والإرهاب وغيرها من المصطلحات النابية بينما حروبهم وقتلهم وسجونهم واباداتهم فلا يصنفه الغرب ضمن أي قائمة ، دونك العملية الإرهابية التي حدثت منذ اسبوع لم توصف من وسائلهم بالوصوف التي يلصقونها بالإسلام ، ..
    ثم من يجرد الإسلام عن الواقع كمن ينفسخ عن الدين تماما فالإسلام كله واقع ..كما أنه حي لايموت ..
    حمى الله الديار العربية في كل مكان ..
    تحياتي

  4. يقول أمزاورو مصطفى من المغرب:

    هذا عصر الخوف والقلق والرهبة والتملق والنفاق . فمن أراد النجاة لنفسه فليهتدي بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ويحتاط من الكتب المطبوعة على هوى الملحدين والكفار.

  5. يقول عبدالله المالكي:

    عبارات تكتب بما الذهب
    من كاتبة اصيلة
    موفقة داىما بإذن الله

  6. يقول ابو محمد - لندن:

    تسال ما معنى الأخلاق !!!
    لا حول ولا قوة الا بالله

    1. يقول تونسي ابن الجمهورية:

      @ابو محمد: اذا كانت لك إجابة عن سؤوالى فانا انتظرها بفارغ الصبر ….لاضيف إلى ثقافتى شئ جديد …انتبه الايجابة ليست بالسهولة التى تتصورها ….تحيا تونس تحيا الجمهورية

    2. يقول محمد منصور:

      يمكن تكون هناك اجابة لا تعجبك”فما حسنه الشرع فهو حسن وما قبحه الشرع فهو قبيح” لأن من يحتكم لمنهج الخالق يدرك في النهاية أن ما جاء فيه فهو صادر عمن يعلم أحوال العباد وما ينفعهم لأن الأنسان كونه محدود في الزمان والمكان لا يمكنه أن يستطيح تحديد ما هو أخلاقي وغير أخلاقي، ومثال على ذلك عندما كنت أتحاور مع تقدمي عن قطع يد السارق كان يصف ذلك بالوحشية والتخلف ولكن هذا الشخص عندما تعرض لسطو على بيته من عصابة في احدى الدول الأوربية لتسرق منه بضع مئات من الدولارات وعرضت حياته للخطر قال عندها بأن قطع اليد قليل بحق هؤلاء وعلى ذلك يمكنك أن تقيس.

    3. يقول تونسي ابن الجمهورية:

      @محمد : شكرا على اجابتك التى احترمها ….و لمن لا يؤمن بدين او له دين خلاف دينك و لا يتفق معك فى التحليل ما ذا نفعل …هل نتجادل لنصل إلى قواعد العيش المشترك و نبنى قواعد تحمى الجميع و تحدد ماهية الأخلاق مثلا… ام انا امتلك الحقيقة المطلقة و كل الباقى الى جهنم و بأس المصير ….؟ و انا تعرف ان عهد فرض قواعد معينة باسم اى مسمى قد انتهى و الى الابد ….! ما نفعل ….؟ تحيا تونس تحيا الجمهورية

  7. يقول العراق:

    العالم أو الواعظ الذي لا يخاف من قول الحق نراه مسلوب الجنسية ومهجر في بلاد الغربة وقد صدرت بحقه عدة أحكام

  8. يقول إيدي-سويسرا:

    ظننت المقال محاولة للأصلاح “من الداخل” , بعد القراءة إتضح لي أنه محاولة تجميل يمكن إختصارها في 3 كلمات: إصلاح الدين بمزيد من التديّن.
    بأختصار: مطلوب صلاحيات أكبر للفقيه كي نواجه مستجدات العصر
    صرت أشك في إستحالة حوار جاد مع الأخوة المحافظين. أراهم في وضع دفاع غريزي يصعب معه تحقق أول شروط الحوار الجاد وهو الصدق مع الدات.
    الأنتصار للدين حجة في رصيد الأيمان, أما البرهان فله آلياته الخاصة
    ليس الأيمان برهانا ولاينبغي له, ليس الفقيه مهندس إلكترونات ولا هو مطالب أن يكون,
    كدلك الواعظ ليس مطالباُ بتقديم حلول هي من تخصص عالم الأجتماع والبيطري والسمكري….
    في عالم يزداد تخصصا يكتفي العقل المحافظ بتوسيع صلاحيات الفقيه حتى يغطي ما إستجد, وهو تفكير بالتمني wishfull thinking يميز العقل السحري الدي هو من أسس الدهنية المحافظة.
    أي فكرلا ينطلق من معطيات الواقع هو تعالٍ على الحقيقة, و مثالية لا تفيد مجتمعاتنا البشرية جدا.
    إن فكرة الأخلاق سابقة للأديان, “الخير والشر عقليان لا شرعيان” يقول المعتزلة.
    تقول الأخت إحسان إن منظومة الأخلاق الإسلامية تتَّسع دائرتها لتشمل صفات الأمانة أما أنا فأرى أن منظومة الأخلاق الإسلامية محصورة بسقف الحلال والحرام, ثم إن الأخلاق داتها متغيرتابع لصيرورة التاريخ
    كم من قيمٍ كانت ولم تعد, سؤال أخي تونسي ابن الجمهورية بخصوص الأخلاق هو فعلا أعمق مما يظهر…
    أخيرا أتسائل: لمادا الحاجة إلى وعظ الوعاظ, بعد 14 قرنا ؟
    هل الخطاب مبهم إلى هدا الحد ؟
    أما يُفترض, بعد كل هدا الوقت أن نكون قد تخطينا الأسئلة الأبتدائية ؟
    معدرة على الأطالة

    1. يقول تونسي ابن الجمهورية:

      @ايدى: شكرا على تحليلك …انت اجبت اجبات كثيرة بطرحك تساؤلات كثيرة …و بطريقة ذكية …و قدمت الاضافة …المهم انه ليس هناك مفهوم محدد للاخلاق لانها تختلف مع الزمان و المكان و تختلف مع اختلاف الشعوب و المعتقدات ….امس كان سياقة سيارة فى السعودية عمل محرم و غير اخلاقى و….و….و فى جرة قلم اصبح حلال و شئ عادى و اخلاقى و…..و…..و هذا التحول صار بقرار فقط لا غير ….. يعنى نمر من اللااخلاقى إلى الأخلاقي ….بسهولة و ربما بمجرد قرار ….فعلا شئ متشعب و لا احد يمكن احتكار تعريف الأخلاق او يحدد ما معنى الأخلاق….تحيا تونس تحيا الجمهورية

  9. يقول AL NASHASHIBI:

    IGNORANT PERSON HOW CAN ADVICE ILLITERATE PEOPLE…… WE DON’T READ READ READ…… AND THIS IS MEGA PROBLEM …… WE ARE VERY VERY FAR FROM ANY DOGMA …. ….. AND OUR PERSONAL INTEREST ITS MORE VALUABLE THAN ANY THING ELSE…. THIS IS THE PRAGMATIC TRUTH …… HYPOCRISY ADVICE ….

  10. يقول ابو عمير / دبي:

    أشفق على أحد المعلقين
    جعل وطنه الها والجمهورية دينا !!!

    1. يقول تونسي ابن الجمهورية:

      @ابو عمير : تحيا تونس تحيا الجمهورية و لا ولاء إلا لها

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية