موازين لا تتوازن… وكيانات تتناسل

حجم الخط
1

للعام الخامس على التوالي تحتدم الصراعات في عالم العرب وتترك آثارها المدمرة على البشر والشجر والحجر. لا مؤشـــر إلى توقّف رياح التغيير والتدمير. بالعكس، ثمة ما يشير إلى اشتداد عصفها. قلّما تجد قطراً عربياً بقي بمنأى عن آثارها، أي حال سيكون عليها عالمنا بعد سنة او خمس سنوات؟
احتدام الصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية يحول دون توازن موازين القوى داخل الكيانات العربية المضطربة وفي محيطها الإقليمي. عدم التوازن يقود بدوره إلى مزيد من الصراع. هل بمقدور أي قوة دولية أو إقليمية لجم الصراعات المحتدمة واحتواءها؟
أقوى الاطراف الدولية، الولايات المتحدة، تبدو عاجزة عن الحسم. هي في صراع مع خصومها ومنافسيها في الخليج والعراق وسوريا ولبنان ومصر واليمن والسودان وليبيا وتونس والجزائر، ناهيك عن افغانستان وباكستان والصومال.
الولايات المتحدة في صراع مع إيران حول برنامجها النووي وحول ما هو أهم: دورها في عالم العرب توجّساً من تحوّلها إلى أقوى قوة مركزية إقليمية. سواء توصلت واشنطن إلى اتفاق نووي مع طهران أم اخفقت، فهي ستبقى في صراع معها حول وجودها ونفوذها المتناميين في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن.
استمرار الصراع يحول دون توازن موازين القوى الاقليمية ما يؤدي إلى تصديع كيانات تدور فيها صراعات. أليس هذا ما يجري في العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا؟
لنستذكر جوانب من تاريخنا المعاصر. بريطانيـا وفرنسا كانتا استبقتا انهيار السلطنـة العثمانية برسم مخطط سايكس– بيكو لوراثتها، ووضعتاه موضع التنفيذ فور انتهاء الحرب العالميـة الأولى. الولايات المتحدة استبقت انهيار النظام الإقليمي العربي بعقد اتفاقات مع جماعة الاخوان المسلمين والتنظيمات الشقيقة وسعت إلى تنفيذها مع اندلاع انتفاضات «الربيع العربي». ما كان مخطط سايكس- بيكو لينجح لولا تعاون قيادات عربية، فئوية وطائفية وإثنية، مع بريطانيا وفرنسا في إقامة كيانات سياسية مستحدثة في الولايات العربية المنسلخة عن السلطنة العثمانية. صحيح أن المكوّنات الاجتماعية والإثنية في تركيبة السلطنة كانت تصبو إلى تحقيق استقلالها السياسي في دول وطنية، لكنها ما كانت لتتحرك على النحو الذي حدث عشية الحرب العالمية الاولى وفي اثنائها، لولا دعم مادي وسياسي وفّرته لها بريطانيا وفرنسا الطامعتين في تقاسم التركة العثمانية. كذلك كان حال الولايات المتحدة ومخططاتها السابقة لـِ»الربيع العربي» واللاحقة له. فقد «حظيت» خلال تنفيذها بتعاونٍ مؤثر من قيادات فئوية وطائفية ومذهبية وإثنية يطمح معظمها إلى اقامة كيانات سياسية مستحدثة داخل «الدول» القائمة. وما كانت الولايات المتحدة لتحظى بتعاون تلك القيادات، لولا فشل الفئات الحاكمة التي تولّت السلطة بعد جلاء الجيوش الاجنبية في بناء الدولة الوطنية المدنية الديمقراطية. فالنُظُم السياسية التي اعقبت مرحلة الاستعمار ظلّت أسيرة تعدديةٍ طائفية وإثنية عميقة وعصيّة على الاندماج في صيغة سياسية متقدمة للعيش المشترك في مجتمع أهلي موحد. الخلاصة، التعددية الفئوية والتدخلات الخارجية عاملان فاعلان في توفير قابلية أهلية داخلية لاستشراء الصراعات وتصديع الكيانات القائمة.
في ضوء هذه الحال الصراعية المحتدمة، تبدو المنطقة العربية مرشحة لمرحلةٍ متمادية من الاضطرابات والتحوّلات الاجتماعية والسياسية. في سياقها، يجري تفكيـك بعض «الدول» إلى كيانات وجمهوريات موز، على أسس قبلية ومذهبية وإثنية.
ابرز ساحات الصراع والتحوّلات العراقُ وسوريا ولبنان واليمن وليبيا وفلسطين:
في العراق، يجري سباق محموم للوصول إلى الموصل بين حكومة بغداد، المدعومة من غيران، وحكومة كردستان العراق وحكومة تركيا الأردوغانية، وذلك تحت رقابة الولايات المتحدة. مع إعلان «الفائز» الاول يتقرر مصير العراق «القديم» وعدد الكيانات التي ستتفرع عنه. فقد بات واضحاً أن الولايات المتحدة (ومن ورائها «اسرائيل») يهمها أن يقوم في محافظاته الغربية السنّية كيان سياسي يكون بمثابة أسفين يفصل سوريا عن العراق، وبالتالي عن ايران. أما تركيا فلا تمانع في أن يبقى «داعش» في الموصل إذا كان من شأنه مساعدة اردوغان على تحقيق حلمه العثماني بإستعادة الموصل (وغيرها) إلى «الوطن الام».
في سوريا، لا تخفي الولايات المتحدة وحلفاؤها دعمهم للمعارضة السورية «المعتدلة»، كما لوحدات حماية الشعب الكردي. مخطط واشنطن يرمي في نهاية المطاف إلى تمكين حلفائها «المعتدلين» من السيطرة على شمال سوريا وإعلانها كياناً مستقلاً عن دمشق وحكومتها، ومساعدة حلفائها الاكراد لطرد «داعش» من محافظة الحسكة، كي تصبح في قابل الايام الاقليم الغربي لدولة الكرد الممتدة من شمال العراق إلى شمال شرق سوريا وجنوب شرق تركيا. هذا المخطط الامريكي قد يتسبّب في احتكاكٍ مع انقرة التي لا تمانع بقيام كونفدرالية كردية، وليس دولة، تضم الاقاليم الثلاثة تحت سلطتها المركزية.
في لبنان، يتقرر مصير الكيان الهش في ضوء ما ستؤول اليه الصراعات في سوريا. المسار، اذن، طويل. في اليمن، تمانع الولايات المتحدة، كما السعودية، في سيطرة الحوثيين على البلاد. لكنهما لا تمانعان، اذا ما تعذر استعادة السلطة وفق المبادرة الخليجية، في تكريس تقسيم اليمن إلى كيان للزيود في الشمال وآخر للشوافع في الجنوب، وبينهما ملعب لـِ»القاعدة» والاعيبها.
في ليبيا، تبدو امريكا (ومعها اوروبا) مرتبكة ازاء تزايد نشـــاط «داعش» وإمكانية تجذره في رقعة من الارض تحتضن منابع النفط. وهي إذ لا تمانع، كما اوروبا، في تقسيم البلاد إلى ثلاثة كيانات (طرابلس وبنغازي وفزّان) إلاّ انها حريصة على أن تبقى منابع النفط في الشمال والوسط بمأمن من «داعش» وسائر التنظيمات السلفية المتطرفة.
في فلسطين، تدعو الولايات المتحدة، دونما حماسة او التزام، إلى إقامة «دولة» فلسطينية على ما تبقّى من الضفة الغربية، شريطة عدم المساس بأمن الكيان الصهيوني الطامع بمزيد من الاستيطان والتوسع والساعي إلى جعل الاردن الوطن الفلسطيني البديل.
بعض هذه المخططات يبدو داني القطوف فيما بعضها الآخر فجّ وربما مستحيل. غير أن كلها تبقى مصدر توتير وتدمير وصراعات طويلة الأمد. ذلك يحول، بالتأكيد، دون التحكّم بالتحوّلات وبالتالي بموازين القوى المتطورة، الأمر الذي يفسح في المجال أمام تناسل بعض «الدول» القائمة وإنجاب مزيد من الكيانات الهزيلة والهزلية…
صباح الخير ايتها الأوهام.

٭ كاتب لبناني

د. عصام نعمان

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول خليل ابورزق:

    لقد تحول الصراع ضد الاستعمار الى صراع رمزي ضد الكيان (الذي انشأه الاستعمار) و هو اسرائيل و اليوم ارتد الى صراع طاتفي محلي و اقليمي. المهم هو الهاء (او اهلاك) الناس و بقاء الطغم الحاكمة في هذه الدويلات التي قسموا الشرق اليها.
    الامم المختلفة و المتناحرة في العالم تتقارب و تتوحد و الامة العربية الواحدة تتمزق و تتفرق. اليس في هذا ادانة اصلا لهذه الطغم الحاكمة

إشترك في قائمتنا البريدية