لمسة آسرة بإنسانيتها هي تلك التي صدرت عن أكاديمية غونكور الثلاثاء عندما اختارت تونس العاصمة، ومتحف باردو تحديدا، لإعلان قائمة التصفية النهائية للمرشحين للفوز بجائزة غونكور، أعرق المكافآت الأدبية الفرنسية وأمجدها. هي مجرد بادرة تضامن مع الشعب التونسي، كما قال رئيس لجنة تحكيم الجائزة الصحافي المعروف والمحبوب برنار بيفو: «إنها طريقة رمزية جدا ولكنها صادقة جدا لنقول لكل من يتحدثون بلغتين، العربية والفرنسية،(في تونس) إنكم تمرون بمرحلة صعبة جدا، إلا أن فرنسا تتعاطف معكم ولا سيما مع الكتّاب، والصحافيين، والأساتذة والطلاب».
كان هذا «الإعلان التونسي» لقائمة التصفية النهائية تكريما لمتحف باردو الذي وصفه برنار بيفو بأنه «الصرح الثقافي» الذي «حصد (فيه) الطغيان» حياة أشخاص أبرياء «لأنه كان لديهم فضول ثقافي وفني»، لا أكثر. كما أن الرمزية السياسية والثقافية الكامنة في اجتماع أعضاء لجنة غونكور للتصويت «الديمقراطي» في إحدى قاعات المتحف قد كانت مفهومة للجميع:ذلك أننا «نحيا على الرموز وينبغي أن نتشبث بالرموز».
ومعروف أن اختيار الفائز بجائزة غونكور، الذي سيعلن اسمه يوم 3 تشرين الثاني/نوفمبر، يمر بثلاث تصفيات: القائمة الواسعة (خمسة عشر عنوانا مرشحا)، والقائمة الوسطى (ثمانية عناوين) فالقائمة النهائية (أربعة عناوين).
وقد كانت المفاجأة أن رواية «2084» الصادرة هذا الخريف للكاتب الجزائري بوعلام صنصال قد اختفت من القائمة النهائية رغم أن تكهنات الأوساط الأدبية كانت ترجح فوزها بالجائزة هذا العام.
والعنوان إحالة مقصودة إلى جورج أورويل وعالم «1984» القاتم القاتل الناقض للطوبى، حيث تصور الرواية جفاف الحياة، بل استحالتها، لو حدث أن استولى التكفيريون على الحكم في بلداننا المسكينة. وبوعلام صنصال كاتب متميز حقا وذو إنتاج غزير ومتنوع. ولعل روايته الأولى «قسم (يمين) الهمج» الصادرة عن دار غاليمار، والتي حصلت عام 1999 على جائزة «أول رواية» التي يسندها النقاد لأفضل رواية بالفرنسية ضمن الروايات الأولى المنشورة كل عام، تظل أفضل أعماله حتى الآن.
وقد احتوت القائمة النهائية المعلنة من تونس عناوين أكدت «حضور الشرق» الطاغي في الإنتاج الأدبي الفرنسي هذا العام: «تيتوس لم يكن يحب برينيس» لناتالي أزولاي، و«البوصلة» لماتياس أينارد، و«هذا البلد الذي يشبهك» لطوبي ناتهان، و«المتفوقون» (ذوو الحظوة) للهادي قدّور. وإذا كان اسما تيتوس (الامبراطور الروماني) وبرينيس (ملكة فلسطين) قد لا يعنيان شيئا لمعظم النشء في بلدان اللغة العربية أو حتى الانكليزية هذه الأيام، فإنهما ذوا جرس يستثير الحنين لدى كل من نشأ في حضن النظام التعليمي الفرنسي، سواء كان من أبناء فرنسا أم إفريقيا الغربية أم المغرب العربي. ذلك أنهما الشخصيتان المركزيتان في مسرحية راسين «برينيس» التي مثلت أول مرةعام 1670 والتي تضاهي بروعتها مسرحيته الشهيرة «فادر» (فيدرا التي شخصتها سميحة أيوب قبل عقود). بل إن «برينيس» صارت هي الأثر الأدبي الرامز، بمجرد العنوان، للوعة الحب المستحيل وشقاء التمزق بين سلطان العاطفة ونداء الواجب.
ويقول الناقد بيار أسولين إن «البوصلة» وهي قصة ليلة سهاد يصيب رجلا عاشقا للموسيقى ومفتتنا بالشرق (المعقّد والمحبّب رغم أنف الهستيريا الرهابية السائدة في أوروبا) بشقته في فيينا عمل من الطراز الراقي الذي يبزغ مرة واحدة كل جيل. وفي «هذا البلد الذي يشبهك» يروي طوبي ناتهان، بعين الطفولة ولسانها، قصة مصر من العشرينيات حتى نهاية حكم فاروق. ذلك أنه ولد في القاهرة عام 1948 وغادر مصر مع أبويه اليهوديين عام1957، فظل الوطن الحبيب يستوطن كيانه أصداء وألوانا في قلب باريس. أما التونسي الهادي قدور فإن روايته تستحضر محنة المغرب العربي أثناء الحكم الاستعماري في عشرينيات القرن الماضي، حيث كان المستعمرون الفرنسيون الملقبون رسميا وشعبيا بـ«المتفوقين» لما كانوا يحظون به من امتيازات قانونية واقتصادية كبرى تكرّس أفضليتهم على أبناء البلاد وتعزز عقدة الاستعلاء عندهم يعارضون بعصبية عمياء أي بادرة للتخفيف من المظالم التي أنزلها نظام «الحماية» الاستعماري بآبائنا وأجدادنا عليهم رحمة الله.
إلا أن ما بقي، في المحصلة التاريخية، هو أن إشاعة الفرنسية في ربوعنا قد أثمرت تواصلا إنسانيا وتفاعلا ثقافيا يسرّنا أن يبرز أحدث شواهدهما من أعلى قمة هذا الغونكور الشرقي بامتياز.
٭ كاتب من تونس
مالك التريكي