من وجهة نظر العديد من الباحثين والدارسين لجينالوجيا الفكر السياسي المعاصر، فإن سلوك الجماعات السياسية لا يختلف كثيرا عن سلوك الجماعات الدينية، لا بل إن الأحزاب الجماهيرية والسلطوية كثيرا ما تستعير بواعث التعبير عن نفسها وتجربتها من الميثولوجيا الدينية، وهذا ما تنبه إليه ميشيل فوكو في حفرياته العميقة للفكر السياسي الغربي، الذي برأيه ظل يستقي كل بواعث التعبير عن تجربته من العهد القديم، وبصورة أدق من ميثولوجيا الراعي والقطيع، التي يتحدث عنها العهد القديم.
كما أن لغة الدولة – بحسب هذه الدراسات- كثيرا ما تقتبس معظم تعبيراتها السياسية وطقوسها من اللغة والطقوس الدينية، وهي لغة لا تقبل في مرات عديدة بأقل من الطاعة المطلقة والخضوع، وإذا لم يخضع الرفاق أو الجماعة لهذه اللغة فهم عصاة أو خوارج.
وفي ما يتعلق بالفكر السياسي العربي، فقد شكل الطرح السابق، مدخلا جديدا للعديد من الباحثين الساعين إلى قراءة تمفصلات العلاقة بين الثقافي والطقوسي والسياسي في مجتمعاتنا العربية، ولعل أهم الأطروحات وضوحا وتأثيرا كانت أطروحة الأنثروبولوجي المغربي عبد الله حمودي «الشيخ والمريد: النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة» ولاحقا أطروحة الأنثربولوجي نور الدين الزاهي «الزاوية والحزب: الإسلام والسياسة في المجتمع الغربي»، حيث سعيا من خلال الدراستين السابقتين إلى الكشف عن الأثر الذي خلفه ذاك الحضور الشامل للزوايا الصوفية، وما رسخته من قيم تقديس الاحترام، في تكوين الحزب السياسي داخل المغرب الحديث، إذ يرى حمودي، أن هناك خطاطة ثقافية أخذت تتسرب من مجال الصوفية والولاية إلى المجال السياسي الحديث للمغرب، وهذه الخطاطة هي التي نظمت العلاقات السلطوية في مجتمع ما قبل الاستعمار، ومن ثم أعادت ترميم نفسها وأدمجت آلياتها من جديد في المؤسسات الاستعمارية، ولاحقا في مرحلة ما بعد الاستقلال. هذه الخطاطة في نظر حمودي تتمثل في علاقة الشيخ/المريد التي تنبثق من خطاب القداسة ومن ممارساتها، وهي التي ما زالت تعطي شكلها لعلاقات الرئيس بالمرؤوس داخل النظام البيروقراطي والسياسي الحديث. فالأبوة المطلقة التي يدعيها الشيخ في علاقاته بمريديه هي نفسها التي يمارسها الزعيم السياسي في علاقاته برعاياه.
ومن بين القراءات الجديدة في هذا السياق أيضا، يمكن أن نشير إلى كتاب أستاذ العلوم السياسية سيف الدين عبد الفتاح «الزحف غير المقدس: تأميم الدولة للدين» الذي صدر سنة 2005 عن دار الشروق الدولية، ثم أعادت دار الشبكة العربية للأبحاث والنشر إصداره بداية العام الحالي، إذ يرى عبد الفتاح، أننا عندما نعيد تفحص مفهوم السيادة الذي ارتبط بالدولة القومية العربية، نرى أنه أخذ يعني أن سلطة الدولة سلطة عليا، فلا توجد سلطة أعلى منها، أو موازية لها، فهي تسمو فوق الجميع وتفرض ذاتها. وعلى هذا النحو تجعل السيادة من السلطة السياسية: سلطة عليا، سلطة أصيلة، سلطة واحدة غير مجزأة، سلطة آمرة. من هنا فقد نشأ –وفقا للمؤلف- ما يمكن تسميته «الدولة المتألهة» أو «الألوهية البديلة»، الذي بدت فيه الدولة تزحف إلى مقامات أخرى لا نشهد منها سوى «السلطة التنين» على ما يشير هوبز. وقد أخذت الدول بحسب عبد الفتاح تزحف ضمن ما زحفت عليه على عالم المفاهيم الذي يحتضنه النسق العربي الإسلامي. ولعل هذا الزحف لم يكن أكاديميا علميا أو نظريا، بل شمل مجمل الأرض المفاهيمية، وفي ضوء ما يمكن تسميته «اغتصاب التطبيق»؛ فإن المفاهيم تبنى على الأرض، بينما السلطة في صياغة نصها المجتمعي تتحرك نحو عالم المفاهيم لتأميمه في الممارسة، وهنا نجد أن عبد الفتاح يشير إلى فكرة شبيهة بما أشرنا إليه في المقدمة؛ من أن السلطة السياسية غالبا ما تسعى إلى أن تستعير كل بواعث تعبيرها السياسي من داخل الجهاز المفاهيمي للدين، بيد أن عبد الفتاح يختلف جزئيا مع هذا الطرح، ومع ما أشار إليه حمودي من علاقات سلطوية داخل المؤسسة الدينية انتقلت لاحقا إلى المؤسسات السياسية، لأنه وبحسب عبد الفتاح رغم أن السلطة اختارت كلمات ذات طابع وشحنة تتعلق بالدين، إلا أنها غالبا ما انخرطت في مجال تسييس تلك المفاهيم من أقرب طريق وفقا لمصالحها وحركتها ومقاصدها، حتى غابت معانيه الإسلامية وبدا المفهوم مصنوعا على أعين السلطة، وفق قواعد هي التي تحددها وربما تحتكرها. وربما في ملاحظات عبد الفتاح ما يذكرنا بالنقد الذي شهدته أطروحة عبد الله حمودي، الذي ينص على أن حمودي لم يعر أي اهتمام للكيفية التي يؤثر بها السياسي في الثقافي، مختزلا هذا الأخير إلى مصدر أصلي للسلطة لا يقبل أي تأثير أو تنويع. (حسن رشيق/الأنثروبولوجيا في الوطن العربي)
في هذا السياق يورد عبد الفتاح عددا من المقارنات حول بعض المفاهيم الدينية التي أعادت السلطة تأميمها لغاياتها السياسية، ومن أهم تلك المفاهيم مفهوم «البيعة»، حيث اختير مفهوم «البيعة» من قبل السلطة السياسية للتعبير عن «مواكب المبايعة» وعمليات «تجديد البيعة» وغير ذلك من الأمور التي تحمّل مفهوم البيعة مضامين سلبية، بينما هو في الرؤية الدينية الإسلامية عقد مراضاة واختيار.
أما المفهوم الثاني: فهو مفهوم «التوبة، وما جاءت التوبة في آيات القرآن إلا مقرونة بتوبة العاصي لله، إبراء لذنبه، واستئنافا لمسيرة إصلاح نفسه، والإقلاع عن الذنب والإصرار على عدم الرجوع إليه، إلا أن هذا المفهوم مع الدولة الحديثة شهد تحولا من خلال الحديث عن «توبة الداخلية، كما كتبت الصحف المصرية كثيرا أن الداخلية قد فتحت باب «التوبة» لهؤلاء الذين ارتكبوا الإثم السياسي (المعارضة)، وما عرفنا في النسق العقدي الإسلامي أن وسيطا يمكن أن يدخل علينا باب التوبة.
أما المفهوم الثالث فهو مفهوم «الدعاء»، الذي هو من أسلحة المؤمن، وهو باليقين صلة تتجه إلى إله، فإذا ببعض التوجيهات تصدر لمنع الدعاء على أمريكا بأدعية معينة، أو بأدعية مباشرة، ضمن عملية تعتبر السلطة فيها أن من حقها مصادرة الدعاء. ولعل هذا ما يذكرنا – بحسب عبد الفتاح- بنقد الرئيس السادات لبعض ممارسات الإخوان المسلمين، فأدى ذلك بالمرشد العام آنذاك، السيد عمر التلمساني إلى مبادرته بالقول: إني أشكوك إلى الله، فبادره السادات على الفور وبحدة «اسحبها يا عمر» أي: إسحب شكواك إلى الله.
المفهوم الرابع هو مفهوم الشهادة، أي ما يتعلق بالشهود، سواء كان الإشهاد على عقد أو الإشهاد على قضية أو حدث. فقد كان هذا المفهوم يقفز إلى صفحات الفكر الديني، حينما يحلو للبعض أن يتحدث عن المساهمة في الانتخابات أو الاستفتاءات، باعتبارها الشهادة الواجبة، ومن لم يذهب لأدائها فهو في حكم كاتم الشهادة، في محاولة لإضفاء شرعية وتحفيز الناس للمشاركة الانتخابية، ولكن بشكل انتقائي.
وكذلك الحال بالنسبة لمفهوم الحسبة، الذي كان لعموم الناس، فيقومون برفع دعاوى الحسبة عند الخروج على قواعد النظام العام المتعلقة بالدين، أي حال شعور المواطن أن دينه قد انتهك، وهي عملية تدريبية للمواطن ضمن حماية «المثالية الدينية»، وقد اعتبر الدين أن هذا الأمر يجب أن لا يقتصر على الدولة السلطة، باعتبار أن ذلك يتعلق بحث المجتمع والاجتماع والنظام العام، إلا ان هذه الممارسة صودرت لمصلحة ممثل الدولة (النائب العام) في القيام على دعاوى الحسبة.
من جانب آخر، يتطرق عبد الفتاح إلى موضوع الاستعمال السياسي للطقوس في ظل الصراع الذي تقوده السلطة ضد المجتمع من ناحية، والقوى السياسية المنافسة، مبرزا من خلال عدد من اللقطات «عبر استدعاء مقولة تيموثي ميتشل إلى حقل العلوم السياسية»، كيف أن الديني يصبح في مرات عديدة تابعا للمنطق السياسي. حيث يرى عبد الفتاح، أنه في ظل علاقات السلطة وموازينها يؤمم الكلام بأشكال مختلفة ومتنوعة، وتنصب السلطة مسارح ورموزا تقوم على علاقات تمثيلية، ومن أهم مجالات العلاقات التمثيلية تبرز المهرجانات كأساليب إعلانية للسلطة، فتحاول تعبئة عناصر تزيين السلطة وسياساتها. والتوظيف السياسي للمهرجانات جعل من المهم أن نطلق عليها من كثرة التوظيف المهرجاني شبه اليومي ـ الدولةـ المهرجان»، ضمن عملية مسرحية كبرى مصطنعة تحرك عناصر (الدولة – الفرجة). واصطناع وصناعة هذه المهرجانات تقوم على قاعدة إعلانية لمصلحة السلطة تستغلها ضمن قدراتها الرمزية على إضفاء الشرعية عليها أو على سياساتها.
يشير عبد الفتاح في هذا المقام إلى لقطتين أو حالتين ارتبطتا بقضية زحف الدولة على الدين، وإعادة بناء الطقس الديني لصالح السياسي، الأولى للكاتب صنع الله إبراهيم حين رفض تسلم جائزة الرواية العربية في احتفال لوزارة الثقافة المصرية، وقد بدا الممثلون الذي يمثلون السلطة آنذاك في أسوأ حالاتهم، وهنا انتقلت السلطة إلى مجموعة من إستراتيجيات ردود الفعل، التي أطلق عليها استراتيجية امتصاص المشهد مباشرة من خلال تحريك كل فرق الاغتيال التابعة لها، لاحتواء هذا الخطاب غير المعهود «خطاب التمرد» وهو ما برز بشكل واضح من خلال خطاب الوصف الديني، الذي جاء به وزير الثقافة ذاته، حينما اتهم إبراهيم بـ«الفسق» ليوصل رسالة مفادها، إن من أراد مشاركة السلطة ضمن عملياتها الاحتفالية المهرجانية فليعزف لحن السلطة أو وجب النظر إليه كشيطان يمس وحدة الجماعة. أما اللقطة الثانية فهي ترتبط بتعامل الدولة مع المهاجر، التي تمثلت في الاهتمــــام بـ«المهاجر المشهور»، الذي يحتل مكانة وقيمة في المجتمع المهاجر. وبدا للسلطة والدولة أن تتعامل مع هذا الأمر الأخير عبر ما أضفي عليه من قيمة في الخارج. ضمن هذه النماذج يأتي الدكتور أحمد زويل (الغائب عن مشهد الربيع العربي) العالم البارز في العلوم، الذي حصل على جائزة نوبل، حيث بدأت مصر في فترة مبارك تكتشف فجأة «مواطنية زويل» باعتباره مصريا، وبدأت السلطة في حالة من «فتح الشهية» في استغلال هذا الحدث ضمن عملية إعلانية كبرى، ما دعا البعض إلى وصف هذا الطقس بمولد «سيدي زويل»، حيث أخذت السلطة تعمل على استغلال رمزية هذا الحدث أو المولد السياسي لإضفاء شرعية على وجودها، متجاوزة بذلك سؤال البحث عن المواطنة وأسباب غياب أحمد زويل ونجاحه في الخارج، بتحويله إلى طقس جماهيري ذي نكهة دينية يضاف إلى رصيد شرعيتها.
٭ باحث سوري
محمد تركي الربيعو