عبر أسطورة الخلق التوراتية ـ الإسلامية، منذ أن عصر الإله «حفنة التراب بقبضته اللامتناهية»، وحتى منتهاها مع النفخ في الصور «لتجتمع الأرواح شاردة على رغيف القيامة»، يسافر الشاعر آزاد عنز في قصيدته ـ الأسطورة مع الحلم الكردي الممزق في الجغرافية ـ السياسية لبلاد مغيبة تاريخاً وحاضراً، ليعبر تيه الكردي في الحكايات المبهمة المجدولة بدلالات مرتبكة، مثل «أوطان تنحى عنها من يهبها هواءه قرباناً». ومنذ أن طغى السيل بلعنة الإله، استقرت السفينة على «الجودي»، «حضن الكردي، وميراث الكردي للكردي»، الذي أعلن ولادته، و«حمل نعش قضيته، وسرح بها راعياً في حانات المنفى»، مروراً بـ «ميلاد الطلقة (مهاباد) الابنة الموعودة باغتيال، بوأد ممتد من عرف الجاهلية»، وانتهاء بنفخ صور القيامة، حيث تصرخ «روح كردية بأعلى صوتها .. لن تستطيعوا حمل القيامة، أنا مَن ستحمل القيامات في باطن يدي هذه». يمضي آزاد في قصيدته ـ الحكاية التاريخية، المحملة برموز الحاضر قيامة، تسترد وعي جذورها، وتسمو في سماء الآمال حلماً متجدداً لمستقبل يفلت هارباً.
أسطورة المخيلة
وفي ظل تغييب الوجود الكردي تاريخاً وحاضراً، وثقافة مادية وروحية، يستغل آزاد بذكاء أسطورة الخلق لإعادة صياغة تاريخه، وهو ينهل من الميراث الروحي المفتوح لكل شعوب المنطقة التي تتعيش من أسطورية حكايات البداية والنهاية برمزية أحداثها، ليؤكد وجوده شعباً حاضراً بجذوره الضاربة في بداية الخليقة، وممتداً بآماله حتى نهايتها. والشاعر في سفره هذا يحلق شاماناً، ـ مثل ساحر القبيلة البدئية في زمن الأرواحيات، منفلتاً خارج الزمان والمكان، يمضي ما وراء روح الكلمات إلى النهايات المرئية له فقط، شاماناً وشاعراً، يستكشف دلالات الرموز الأسطورية في تاريخ شعوب البلاد، من البحر إلى النهرين، وفي امتداد الصحراء، لإعادة بناء حكايته الكردية في أصالتها. والمعرفة العميقة المتمكنة بالأسطورة في هذه المنطقة، بالإشارات الخفية التي لا تتكشف إلا لمن سافر حلماً شامانياً ـ صوفياً، هي التي جعلت آزاد يستغل رموزها في بناء حكايته بميراث روحي «خلق الإنسان، القتل الأول، الطوفان، ودَّ وسواع وعاد، وهاجر، التائه في الصحراء، والعجل الذهبي، والمسيح، واليتيم الأمي، اللوح المرصود وإعجاز اللغة». فعل هذا بطريقة إيحائية شاعرية تلامس المعاني الروحية، وغالباً دون المباشرة بذكر الأسماء، وكأنه يخلق أسطورته ـ الغصن الخاصة، كمرآة للأسطورة ـ الجذع العامة، ومن خلالها يبني حكاية شعبه الكردي، بجذور راسخة، غير طارئة، من بدء الخليقة إلى نهايتها، فتغدو صورة المرآة حقيقة، وقد اختلطت الفروع بالأصول.
أسطورة التاريخ
ويبقى الشاعر محلقاً في الرموز الأسطورية بدلالاتها الروحية، وصــــولاً إلى أول مرتكز تاريخي، ينعطف عنده واقعياً؛ منعطف تتنازعه الوقائع التاريخية والتوهمات الخلاصية، بين أحلام اليقظة الجماعية وصدمة توثيق التاريخ؛ صلاح الدين المتأرجح الهوية بين الإسلامية والهوية الكردية، متنفساً لرئات عربية مهزومة، ورئات كردية مدفوعة إلى هوامش التاريخ. صلاح الدين، الذي ألف بين الكري والعربي، بدون أن يتخلى عن بداوته الكــــردية في رؤية الشــاعر المعاصرة، و«ترجم أورشليم من العبرية إلى العربية… وأعاد صياغتها إلى القاموس العربي… قدساً». وبما أن آزاد هو الشاب ابن الحاضر، لا يرضى لحلمه الكردي النبيل أن يمضي رومانسياً خارج الوقائع، فالأكراد ممزقون ليس بين دول أربع، بل بلعنات الانتماءات هنا وهناك، أو ربما في لانهائية الاتجاهات، كلما لمح بعضهم بصيص نور في مدى توهمات الآمال بالأعداء ـ الأصدقاء، أو الأصدقاء ـ الأعداء، لا فرق، مما يجعلهم ممزقين في ما بينهم بسبب السرابات في صحراء عدائية لهم. ولذلك فإن الشاعر يواجه الذات، ليس الذات الفردية، وإنما الذات الجمعية، «فالأكراد أولياء الله في تمكين حكم الغير… للغير على حساب الخديعة… للشريك الكردي»، «وكأن الكردي لا يليق به الربح»، كما في الربح المختزل «مهاباد». ويغدو الكردي امتدادا للوجع الملاصق له؛ الوجع الذي يرافق هويته المنفية، ولغته المنفية… الهوية واللغة في يقين اللعنة، ويغدو الأكراد طيوراً مهاجرة، لا وطن لها، «وما الوطن إلا سجادة صلاة شاغرة… تستنجد بالجباه».
أسطورة اللغة
يفجر الشاعر الكردي آزاد العربية بسحر يميزهما بثنائية اللغة لديهما. يصل إلى ذروة إبداع، عندما يجدل الكلمات بسحر البيان في لعبة الدلالات والرموز «وخُلق اللون بأحلافه… ولد أشكال النطق بدلالات المبهم»، «بعد استئذان الجنان… أو هو برهان النظر على ما أبصره النظر حيناً»، «فالكتابة امتحان البصيرة في ترقيم البراهين»، «وأي منازلة ستقام في فراغ… وأصابع المداواة تلجم الفناء». وهي أمثلة لتلاعبه بسحر البيان في ارتباط جذل بموضوعه. ولأن آزاد يحلم بوطن كردي، فقد استنهض الذاكرة المغيبة بشكل إنساني، فالحق لا يحتاج إلى عنف بقدر ما هو حق… «وما السلام في جوهره؟ أن تملأ رصاصة فارغة حبراً تكتب بها قصيدة … لا مرئية لامرأة لامرئية».
٭ كاتب سوري
مازن عرفة