مَن كان بلا سعيد عقل!

حجم الخط
28

الأرجح أنّ أغلبية عريضة من شرائح القرّاء العرب لم تقرأ سعيد عقل (1912ـ 2014) قراءة نصّية، بل تعرّفت إليه، واُعجبت بشعره، سماعياً وعبر قصائده، الفصحى والمحكية، التي لحّنها الرحابنة، وغنتها فيروز. كذلك كانت هذه الصيغة، في التعرّف، قد خضعت لطغيان الحماس والعاطفة، وليس مقادير الحدّ الأدنى من أواليات التذوّق الجمالي؛ بالنظر إلى أنّ تلك القصائد كانت تلهب الإحساس الوطني المحلي (قصائد دمشق وبيروت وبغداد…)، أو القضية الفلسطينية («سنرجع يوماً» و «أحترف الحزن والانتظار»، «سيف فليُشهر»…) أو الرموز الدينية («غنّيتُ مكة»)؛ فضلاً، بالطبع، عن قصائد الحبّ العذبة، المشبَعة بمزيج من الرومانس والرمز والرعوية («المرجوحة»، «شال»، «يارا»، «فتّحهن عليّ»، «لمين الهدية»…).
الأرجح، في المقابل، أنّ القسط الأعظم من سوء سمعة عقل، وانحطاط صورته في الوجدان العربي، ارتبط بمواقفه المشينة من الاجتياح الإسرائيلي للبنان، ومن مجزرة صبرا وشاتيلا والفلسطينيين، إضافة إلى ذلك العصاب الشوفيني، والعنصري والفاشي، الذي استبدّ به طيلة ربع قرن من سنوات حياته الأخيرة. وإذْ أجاز الكثيرون لأنفسهم رفاه التمتع الأقصى بما غنّته له فيروز من قصائد، خاصة أبناء سوريا الذين يصغون بلا ملل إلى «قرأتُ مجدك» و «سائليني يا شآم» و «مُرّ بي» و «طالت نوى»… فإنّ قلّة قليلة سعت إلى اكتشاف الشاعر في الرجل، والتعرّف على خصائص شعره الفنية، ومصالحته أو منازعته على أسس جمالية في المقام الأوّل.
كلا الممارستين، الإعجاب بالقصيدة عن طريق فيروز حصرياً، والحطّ من صاحبها بوحي من مواقفه المشينة، كانت تنتهي إلى غبن الشاعر، وربما الافتئات على منجزه عن سابق قصد وتصميم، دونما قراءة تنصفه في مستويات التثمين الأبسط. قلّة، أغلب الظنّ، هم الذين قرأوا «بنت يفتاح»، 1935، مسرحيته الشعرية التي تناولت الحكاية التوراتية من زاوية ملحمية ـ غنائية كانت، في زمنها، سابقة كبرى؛ خاصة وأنه كتب لها مقدّمة نقدية مدهشة، حول الفوارق بين مسارح شتى (أو «مراسح»، كما كان يقول): الإغريق، وراسين، وهوغو، وشكسبير. وكم من القرّاء تنبهوا، في ثلاثينيات القرن الماضي، إلى حسّ الثورة العارم، على صعيد المجتمع واللغة الشعرية معاً، في هذين البيتين: «لي، مثل غيري بالعلا/ المئناف، مرمىً وافتتانُ/ أنا لا أذلُّ، وفي جبين/ الشمس يبدو لي مكانُ»؟
في مقدّمة مجموعته «مجدلية»، 1937، امتدح عقل «قوّة اللاوعي» في إعانة البشر، ومنهم الشعراء بالطبع، على نحت صِيَغ تعبيرية مفاجئة وليست معهودة في المعجم، ولا تستبقها أصول وأمثلة؛ وجزم، هكذا: «أرى أنّ اللاوعي هو رأس حالات الشعر. ورأس حالات النثر هو الوعي». وهو يقتبس جول كومباريو، الباحث الموسيقي الفرنسي، في «أنّ الموسيقى عند الموسيقيّ الحقّ، أوضح من الكلام. وما كان الكلام إلا ليزيدها إبهاماً. وهو يزعم أننا إذْ نفكر دونما مفهوم، فإنما نفعل لا لنتخلى عن الأشياء التي يمثّلها مفهومها بل، بالعكس، لنستولي عليها بأقوى». ونقرأ، تالياً، تجسيد هذا التنظير في مثال من قصائد المجموعة: «وأبانتْ/ عمّا يُظنّ كلاماً/ فتأنى السكونُ/ والآنُ/ تاها/ من أساريرها اكتستْ عَطَفاتُ النهر/ زهواً/ وميسةُ البان/ جاها/ تنقلُ الرِّجلَ في التراب/ جناحاً/ تطأ الأرضَ/ كالجناح/ فضاءَ».
وهكذا، في قياس مقارن، إذا توجّب على كارهي مواقف عقل السياسية والأخلاقية أن يكرهوا قصيدته استطراداً، فإنّ عليهم كره شعر محمد مهدي الجواهري (الذي قال، في مديح الطاغية حافظ الأسد: «سلاماً أيها الأسد/ سلمتَ ويسلم البلد/ وتسلم أمّة فخرت/ بأنك خير من تلد». وعلى أنصار طلال حيدر أن يراجعوا حماسهم لشعره، لأنه ذات يوم شتم الفلسطينيين الذين «باعوا أذان العصر/ تا يشترو بستان»؛ وسار على درب الجواهري في تبجيل آل الأسد: «لاقيت الأسد سهران/ جايي عا ضهر البراق/ تا يخلّص الآذان/ وجايب معو هالشمس/ تتمشى على الجولان».
وفي ميدان آخر، على محبّي غناء صباح، الشحرورة المبدعة التي رحلت قبل أيام، أن يتوقفوا عن سماعها لأنها، في افتتاح مهرجان دمشق السينمائي سنة 2007، غنّت عن «شموخ» بشار الأسد، الذي «لا يهتزّ عرشه». وأمّا جمهور وائل كفوري، فليتذكر له هذه الأغنية: «يا سوريا رشّي طيوب/ على بوابك دار ودار/ نحنا وشعبك صرنا قلوب/ تا توسع إبنك بشار». أو زميلته، نجوى كرم: «بدنا نحافظ/ بدنا نجاهد/ بالروح البعثية/ ونسلّم بشار القائد/ رايتنا السورية»!
ومَن كان بلا سعيد عقل، في الرياء أو في البغضاء أو في الخبل، فليرجمه بأوّل حجر!

صبحي حديدي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    ثقافة الـ أنا لا تعترف بأي حدود أخلاقيّة أو دينيّة للوصول إلى غاياتها، ببساطة لأنّها لا تعترف إلآّ بوجود الـ أنا، ولذلك لا يمكن التخلص من الواسطة وبقية الأمراض المجتمعية الناتجة من المبدأ الميكافيلي أو البراغماتي فكلاهما وجهان لعملة واحدة من وجهة نظري، دون الخروج من ضيق ثقافة الـ أنا إلى سعة ثقافة الـ نحن، وبالمناسبة من وجهة نظري، هذا ما خرج من أجله الشعب، تحت شعار “الشعب يُريد اسقاط النظام”، الذي يُنتج مثقف ونخب حاكمة، لا تلتزم بمبدأ، وليس لديها ضمير أو انسانيّة، ولا تقبل أن تتعامل بأخلاق، أو بمعنى آخر الالتزام بمعنى المعاني في قواميس اللغة، أو هيكل اللغة بشكل عام.

    وفي موضوع اللغة بشكل عام، وعلى المترجم الذي يهتم بنوعية وجودة ترجمته، الانتباه إلى اختلاف المعاني في القواميس ما بين اللغات، وبالإضافة إلى ذلك يجب الانتباه إلى أنَّ في اللغة العربية التي هي من عائلة لغات الاستقراء والاستنباط، هناك جذر، وهناك صيغة بنائية، وهناك سياق يرفع اللبس في الفهم، أي يرفع الضبابيّة من المعنى، عكس اللغات التي اساسها التأويل، مثل اللغات الأوربية واللاتينية، والتي يتم التعامل بفكرة النسبية، لوجود ضبابيّة في المعنى أو الترداف، كما يُقال عنها، في حين لغة القرآن، لا يوجد فيها ترادف إطلاقا، في أي مفردة من مفردات لغة القرآن، ولذلك ليس هناك ترجمة للقرآن بل هناك الكثير من الترجمات لمعانيه.

    أظن شخصية سعيد عقل وسبب تناقضاتها أنّه درس علم اللغة وفق أبجديات اللغات اللاتينية والأوربية، وقام بتطبيقه بحذافيره على اللغة العربيّة، ودليلي على ذلك مسألة استخدام الحرف اللاتيني واهتمامه باللهجة القُطرية كمفهوم للغة الأم، وبناءا على الجهد الجميل في المقال أعلاه، والتعليق غير الكامل من قبل ميسون طبطبا، لذلك أقول هو كان مثال عملي عن اشكالية مفهوم الحريّة أو الليبراليّة، عند ثقافة الـ أنا، خصوصا عندما لا تستطيع التمييز ما بين الفضفضة وبين ابداء الرأي، بما أنّها لا تعترف بوجود إلاّ الـ أنا، فمن المنطقي والطبيعي وبالتالي لن تتعارض مع العلم عندما تكون بلا حدود، ونتيجة لذلك، ستظهر ثقافة ذكورية، وثقافة أنثوية، وثقافة أي جنس آخر، ومن هذه الزاوية نفهم التحرّش من قبل الذكر أو الأنثى أو غيرهم، وليس كما يطرحها “فرويد” في موضوع مرض الكبت الجنسي على الأقل من وجهة نظري.

    حيث لاحظت أنَّ اساسها قناعة تدعوه إلى أن يفهم الحياة من خلال أن يكون مختلف فقط للإختلاف، فأمثال هؤلاء لا يُمكن التعايش معهم بدون مشاكل، فهو سيعمل على إثارة المشاكل من تحت الأرض، فكيف الحال لو كان يتحجج أن سبب ذلك، هو أخذ ثارات لحقوق يدعون أنّها ضاعت عليهم، لها أكثر من ألف عام كما هو الحال مع الشيعة، أو عدة آلاف سنة كما هو الحال مع اليهود، فأي ود وأي قضية مع أمثال هذه العقليات، عندما نقول أنَّ الإختلاف لا يُفسد للود قضية.

    من وجهة نظري أي انسان يحتاج اللُّغة، أيِّ لغة كانت، عندما يُريد أن يتحاور أو يتواصل مع الآخر، كما هو الحال عند التفكير والتأمّل مع نفسه لترجمة خلاصة ما يُريد التعبير عنه بأيَّةِ لغة كانت، وطريقة بناء العولمة التجاري، أعطت للّغات (واحترام خصوصية كل لغة على حدة وضرورة معرفة تفاصيل هذه الخصوصيّة) مكانة توازي مكانة الطاقة في العصر المادي، واللُّغة ومكانتها في أي مجتمع من وجهة نظري على الأقل، هي المعنى الحقيقي للفرق ما بين ثقافة الـ أنا، وما بين ثقافة الـ نحن.

    حيث ثقافة الـ أنا ترفض الإلتزام بمعنى المعاني وهيكل اللغة، والحجة أنَّ مفهوم الحداثة وليس التحديث أو التطوير يتطلب ذلك، ومن هنا نفهم المقصود بحوار الطرشان للمثقفين، في حين ثقافة الـ نحن، توجب الإلتزام بمعنى المعاني وهيكل اللغة، لرفع أي لبس في الفهم والحوار أو التجارة مع الآخر داخل أي مجتمع. الإشكاليّة عند المثقف الديمقراطي، بغض النظر عن اللُّغة التي يُعبّر بها، إن كانت عربيّة أو فرنسيّة، هو تناقضاته فكيف يمكن الحوار والتواصل مع الآخر، بلغة هو لا يلتزم بهيكلها، ولا معنى المعاني التي في قواميسها؟ فكيف إذن، عندما لا يستطيع التمييز والتفريق ما بين معنى المعاني في قواميس كل لغة على حدة، وما ينتج عن ذلك من ضبابيّة لغويّة، وتزيد الطامة عندما يكون المثقف جاهل في اللُّغة نفسها، عندما لا يستطيع تمييز أن ما يصلح للغات الاستقراء والاستنباط يصلح بالتأكيد على لغات التأويل، ولكن ما يصلح للغات التأويل ليس بالضرورة يصلح للغات الاستقراء والاستنباط؟!

    حيث أنا لاحظت المثقف “الفلسفي” يُشكّك في السنّة النبوية، وأهل علم الكلام تُشكّك حتى في القرآن بحجة لم يكن حتى نقط وتشكيل وإكمال للحرف العربي إلى زمن علي بن أبي طالب، أمّا بالنسبة لي فلولا عصر التدوين للسنّة النبوية لما كان هناك شيء اسمه بحث علمي أصلا، بدأت بأمر أمير المؤمنين وخليفة رسول الله بتسخير جهود أبو الأسود الدؤولي لإكمال شكل الحرف العربي، وأكمل بعده الخليل بن أحمد الفراهيدي الحركات، وأول قاموس لأي لغة كتاب العين، ثم ميزان الكلمة العربية، ومن ثم بحور الشعر، إلى أن وصلوا إلى فكرة عبقرية في كتابة أي نص بالتنقيط، حيث جمعوا كل قراءات النص القرآني في نص مكتوب واحد، وهو ما لدينا الآن في المصاحف، وهو ما لم يتواجد لأي لغة أخرى في العالم، وهو دليل عملي على التعدّدية في الإسلام.

    ما رأيكم دام فضلكم؟

  2. يقول amin, jordan:

    المقارنة هنا غير موفقة ابدا وكذلك استعمال العبارة اﻻنجيلية “من كان منكم بﻻ خطيئة…الخ” لم تكن في محلها ابدا. فالمرأة التي قيلت فيها العبارة هي بالتأكيد اكثر انسانية ورحمة من سعيد عقل فهي لم تحرض على قتل النساء واﻻطفال وهي لم تفرح وتحتفل لقتلهم كما فعل سعيد عقل مع اهالي مخيمي صبرا وشاتيلا. ﻻ احد على مدى تاريخ المبدعين رضي ان يطون محرضا على قتل النساء واﻻطفال ﻻ بل يصرح بذلك في وسائل اﻻعلام دون خجل.

  3. يقول عاطف - فلسطين 1948:

    لا يا غادة – لا اوافقك الراي – انت تدعمين موقف الكاتب صبحي حديدي انه كان موضوعيا بمعنى انه انصف الشخص. لا يمكن قبول ما كتب الشخص مهما كان فنان او اديبا. اذا لم يكن للكاتب والمثقف موقف اخلاقي فما معنى كتابته. انه مجرد زجال يقف في العرس ويغني بلا كلل ويردد بلا ملل كلمات رتيبه اوهبه الله قدرة على توليفها ربما لا يفوز بها بها اكبر مثقف.الان انا افهم من اين نشأت الفاشيه اللبنانيه المتمثله بامراء الطوائف الفاشيين في لبنان.فلسطينيو لبنان هم ضحايا هذه الفاشيه فمهما كانت هذه الفاشيه رومانسيه وبالمانسبه تعود جذور الفاشيه للفتره الرومانسيه من نشوء القوميات. .

  4. يقول فراس نمر سوريا:

    مثل ما قالوا زياد رحباني سابقا” : موهوبون فنيا” ساقطون إنسانيا”.

  5. يقول البهلول العكاري ليبيا:

    المتنبي كان وصوليا ولكنه ترك شعرا مازال يشغل الدنيا والناس

  6. يقول أسعد محمود:

    و الذين يرقصون ‘العرضة’ في الجنادرية لشيوخ النفط و الغاز؟

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية