العراقيون المعنيون بقضايا الفكر والفلسفة والجدل قليلون، قياساً بالسوريين واللبنانيين والمغاربة عموماً، في كل من تونس والجزائر والمغرب. وإن وجدوا في هذين الحقلين، فجلهم يكون الأقرب إلى التيار السوسيولوجي والأنطولوجي، ذي البعد التاريخي، وفلاسفته وكتابه معروفون على الصعيد العربي، وحتى العالمي، خصوصاً بين المستشرقين والمهتمين بالشأن العربي وتاريخه وتراثه وثقافته كالعلماء جواد علي والوردي والدوري، ومن الجدد يمكن الإشارة إلى إبراهيم الحيدري وفالح عبد الجبار وفالح مهدي، والأخيران ، يراوحان بين عالم الفكر والبحث والتدوين العلمي والتطبيقي، مستنيرين بعالم الأنوار الحديث، ورواده ومستشرقيه وبحاثته ومفكريه، اهتداءً بالفكر الديالكتيكي والعلمي، لدى كل من هيغل وماركس وديكارت، ومن ثم يونغ وفرويد. ومن الحديثين والمفجرين لنبع الأنوار، نعوم شومسكي وحنه أرندت وهابر ماس ورولان بارت وجاك دريدا وإدوارد سعيد وغيرهم من الفلاسفة والمفكرين والعلماء الذين أسسوا لعالم جديد وتاريخ حديث ورؤية فكرية متنورة، تهتم بعلم الجمال وتاريخ الحداثة والجينوم البشري، حتى وصلوا إلى فك الشيفرات الوراثية لتاريخ البشرية.
كان بالإمكان إضافة اسمي الكاتبين أحمد المهنا وكامل شياع، لتلك الأسماء الأخيرة، ولكنهما رحلا وهما في أوج التفتح على هذه الأنماط الفكرية والرؤيوية والنظرية في حقلي الفكر والفلسفة والرؤيا البحثية.
شرع الكاتب والصحافي القدير أحمد المهنا بمشروعه الفكري، مستعيناً بكل تلك الأسماء اللامعة في عالم التنوير والفكر الحداثي القديم والجديد، فقدم وبعد عناء وبحث ودراسة عميقة ومستنيرة كتابه الأول «الإنسان والفكرة»، محاولاً أن يطرح فيه أفكاره، حول أزمات وحيثيات وقضايا واقعية ويومية ملحة وعينية، في واقع المجتمع العراقي، متأثراً بفكر عالم الاجتماع الكبير علي الوردي، لا سيما في كتابه العميق «لمحات اجتماعية»، وإدوارد سعيد في كتابه المهم واللافت «تأملات حول المنفى».
لكن الكاتب أحمد المهنا بعد ذلك الكتاب الذي مرّ دون أن يستوقف أحداً، من المعنيين بشؤون الفكر، إلا قلة نادرة اهتمت بالموضوع الذي طرحه أحمد المهنا، لما فيه من مسوِّغات ومفاهيم أدبية وفكرية، لمشروع فكري وشخصي يمتح من أفق المأساة الحديثة لمفهومة المنفى العراقي، ثم الشروع في مأسسة وتدوين مشكلاته ضمن أمثولة المنفى في تاريخ الإنسانية، والهجرات الجماعية للطبقات المقهورة والمطاردة في أرضها، فضلا عن الفصول الساخنة والمريرة التي شهدتها تلك الجماعات أثناء عبورها التاريخي والمأساوي، داخل فصول ومحطات العصر الحديث.
لعل الصحافة ومشاغلها اليومية ومطالبها الكثيرة، هي من أشغلت الكاتب الراحل أحمد المهنا، عن أن يواصل مشروعه الفكري، ينضاف إليه مرضه المفاجئ الذي لم يمهله، لكي يكمل مشواره الفكري هذا.
بيد أن أحمد المهنا المشغول بالفكرة الجمالية وبالنظرة العملية للواقع، وبالشذرة الفلسفية، مال وهو في خضم عمله الصحافي، لمواصلة، ولو على ابتسار، تدوين فكرته الفلسفية، المستنيرة، والمشرقة والمحمولة على طيف واسع من المفاهيم الدلالية في عمود صحافي، حمل الكثير من رؤاه الحالمة، وهو يستطلع الشارع العراقي، عبر واقعه الحي والعياني، وليس عن بعد وعبر دروب المنفى.. إنه في العراق وعليه أن يلمس بوعي حار وعبر صيغ جديدة من التماس اليومي هذا الواقع الآيل إلى الانهيار، تماس يشي بالملموسية والحسية للتفاصيل والمشاهد والتراجيديا اليومية للمجتمع العراقي، هذا المجتمع الذي نخرته الطبقة العراقية الحاكمة والفاسدة، المسنودة بقوى الغزاة والمحتلين والأدلاء من القوى الأقليمية.
بُعيد غيابه صدر كتابه الثاني «مَن لا يكره بغداد»، والعنوان مبني على قول نثري لشاعر خمسيني متمرد وراحل هو حسين مردان، أوحى لشاعر حديث هو فوزي كريم، أن يبلور قصيدة من هذا القول، ليأتي فيما بعد كاتب يمتهن الأفكار كأحمد المهنا، ليسطرها عنواناً لكتابه الجديد، والذي دفعه للطبع قُبيل رحيله، ليصدر بحلة قشيبة، وبتقديم سخي من صديق مساره الحياتي الصحافي العراقي عامر بدر حسون.
في المدخل الأول للكتاب، يتناول معضلة سياسيي العراق، تحت عنوان «ليس حقيقة»، وخلاصته تقول :»كيف لو أهمل الشعب العراقي السياسيين العراقيين، أي لا يهتم بهم وبأخبارهم، متعاملاً معهم بالمثل، كونهم أهملوه وتركوه عرضة للمصائب والمآسي والمحن التي هم صناعها الأوائل» وهذا في رأيه ينم «عن احتقار للشعب، وعن تنكيل به، وتعذيب له، وتجاوز عليه، وإلغاء له، ونتائج ذلك مرة، كل المرارة على الحياة والفكر». وهو يرى في هذه الزاوية أن الأمر إذا ما استمر في العراق على هذا النحو فإن 95 في المئة من الشباب العراقي، سيهرب من البلد لو أتيحت له فرصة الحياة الكريمة. ثم يواصل التنويع على الفكرة ذاتها ليتوصل إلى ما قالته حنا أرندت إن العالم الثالث هو «أيديولوجية وحسب»، أي فكر مفصول عن الواقع، غريب عن الحقيقة، بعيد الصلة بالحاضر، منصرف عن هموم اليوم، غائب عن متطلبات الغد، يبكي على الماضي وحاضره سباية ….، حسب تعبير الكاتب.
وفي محل آخر يعرِّج على المحسوبية وطرق النهب، سارداً تجربته في أبو ظبي، حيث أوصلته المصادفة إلى طبيب للجلدية، مشهود له بالعلم والخبرة، وهو عراقي مثله ولكن حسن المصادفات كشف له أن الطبيب الذي يعالجه هو ابن الرئيس الراحل عبد الرحمن عارف، وهو هناك لا شيء لديه، سوى مهنته وبيت مستأجر مع جواز عراقي قديم من الفئة التي لا يستطيع أن يسافر بها لأي بلد، باستثناء مصر التي منحته حق الدخول إليها من دون تأشيرة، تكريماً لعلاقة والده بجمال عبد الناصر وبمصر.
وهذا يذكره برجالات تلك الفترة، النزيهة والخالية من المحسوبية والفساد والنهب، فترات جمال عبد الناصر في مصر، وعبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وعبد الرحمن عارف في العراق، وابراهيم عبود في السودان، وبن بله في الجزائر، فهؤلاء حسب رأيه «مضوا دون محسوبية ولا نهب».
في المقابل يلقي المزيد من الضوء على الذين جاءوا من بعد هؤلاء وكلهم استغلوا نفوذهم السلطوي، مبشرين بالمحسوبية واللصوصية إلى درجة الاستهتار التي تفوق الخيال، ومن رحم هذا الاستهتار الشنيع ولد بشار الأسد الذي أصبح آخر عصر الجمهوريات الوراثية، وهو عصر من المفترض أن يكون الربيع العربي قد قضى عليه، فهذا الربيع هو في المقام الأول ثورة على المحسوبية، ثورة على الخيال المستهتر الذي جاء بنصف دزينة من هؤلاء وهم: «صدام، الأسد، القذافي، بن علي، مبارك، علي صالح» الذين لم يحتكموا إلى التاريخ، بل سجدوا لعمى السلطة، وكما قالت المستشارة البريطانية لدى ملك العراق الأول مس بيل:» «العربي عبر القرون كلها، لم يشترِ حكمة من التجربة».
أما في حقل «لا يشعرون» فإنه يدور حول سوريا، والدَّين المتوجب على العربي أن يدفعه لها، ولكنه يشيح عنها ويتجاهل ما يحدث بها، من قتل يومي وسفك للدماء على يد الفاشية، نظام فاشي، ميليشيات فاشية، دول إقليمية فاشية.
من هنا فالكاتب أحمد المهنا الذي عرف بالحصافة والنبل والجرأة وقول الحقيقة مهما كلفه ذلك من متاعب، يشير دون تردد، وبوضوح تام ومن دون مواربة ولف ودوران إلى مكامن الخلل، ومسبباته وفاعليه، وهذا هو موقف الكاتب الحر والمفكر الإنساني والمبدع الشريف، وليس كما يفعل البعض من الكتاب الذين يمدون رِجلاً هنا وأخرى هناك، حيث لديهم حساباتهم ومطامحهم ومنافعهم الشخصية، هذا إذا لم يكن لدى الكثير منهم أهواؤه المذهبية، ودوافعه الحزبية، وطروحاته الفاشية ذات النزعة الإسلاموية والدينية التي تحمل الكثير من الفتن والنعرات والحزازات التاريخية، وبذا فهو لا يتورع عن إدانة الشعوب العربية التي غضت الطرف عن المأساة السورية، ولم تسع حتى إلى الخروج في تظاهرة، من أجل الشعب السوري المكلوم، وهنا يعلق الكاتب قائلا: «أما مأساة سوريا، فبث مباشر على الهواء، ومع ذلك تبدو لنا وكأنها حدث معزول يجري في كولومبيا….. لا دليل أبداً على أننا نشعر، هذه أجمل وأكرم بلاد العرب تدمر، تسوى بالأرض، يقتل أهلها، ويذبح شعبها ويهجر ويستباح بكل الأسلحة، من البدائية البيضاء إلى المروحيات والطائرات الحربية، كل هذا والعرب جامدون، ولا تظاهرة واحدة، لا يشعرون ، الأسوأ أن سوريا تحرّك دم بعضنا، لكن ليس بعوامل الأخوة في العروبة والديانة والإنسانية، وإنما بدوافع طائفية».
يسطِّر الكاتب أحمد المهنا جل كتاباته، حول الفاشية السورية والعراقية الجديدة، فاشية جاءت هذه المرة بمسوح دينية، وقناع طائفي، وروح ثأرية، عشائرية، تحاول القضاء على ما تبقى من ملامح علمانية هنا وهناك، وطمس المعالم الحديثة التي شيدت منذ الثلاثينيات من القرن المنصرم وحتى الآن، في عراق آيل إلى النهايات، وأعني النهايات الظلامية التي ستعيده بالقوة، بقوة الجهل والتعطش إلى الثأر والحقد والقتل إلى عصر الظلمات، وها هو ذا بدأ يدخل رويداً رويداً في نفق العتمة الأبدية.
أحمد المهنا: «مَن لا يكره بغداد»
دار نون رأس الخيمة، دولة الإمارات 2015
270 صفحة
هاشم شفيق