يكتمل اليوم 25 أيار/مايو عامان على رحيل العلامة ناصر الدين الأسد، الذي شغل الكثير من الوظائف السامية في الجامعات وهيئات البحث العلمي ومجامع اللغة العربية في دمشق والقاهرة وعمان.. وإذا كانَ لا بُدَّ من عوْدٍ على بدْء، فإن والده المرحوم محمد أحمد جميل الأسد درس في الأزهر الشريف، لكنه توقفَ عن الدراسة، والتحق عام 1916 بركب الشريف حسين بن علي، مُلبيًا نداءَ الثوْرة العربية. وفي 13 كانون الأول/ديسمبر 1922 ولد له الابنُ، الذي أطلق عليه اسم ناصر الدين، في العقبة، التي كانت قدْ ضُمّت لإمارة شرق الأردن سنة 1921. تلقَّى ناصر الدين الأسد تعليمه في أمكنة متفرّقة من الأردن، واسْتأنفه في عمّان (1933) أما حياتُه الأدبيَّة، فقد بدأها بقراءة قصَصِ كامل الكيلاني (1897- 1959) وقراءة دواوين الشعر العربي؛ قديمه، وجديده. وكتابة الخُطب والمقالات.
لقد ُفجع ناصر الدين، بفُقْدانِ والدته صغيرا، ووالدهِ بعد ذلك بأرْبع سنين، ما ترك أثراً قويًا في نفْسهِ. لكنَّ هذا الأثر لم يثنه عنْ مواصلة التهيّوء للمُهمّات الصَعْبة التي نذرَهُ قدرُه للقيام بها في الزمانِ اللاحِق. فانضمّ عام 1938 إلى طلبَةِ مدْرَسةِ السَلْط الثانوية، وفي العام الذي تلاهُ ظفِرَ – بوصْفِهِ أحَدَ الطلبةِ الأوائلِ – بمنْحة للدراسة في الكليَّة العربيَّة في القُدس، وكانتْ بمنزلة الكلّية الجامعيَّة، فمدة الدراسة فيها أرْبعُ سَنواتٍ، يستطيعُ الدارسُ بعدَها متابعة تحصيله العلمي العالي لنيْل الماجستير، والدكتوراه، من جامعاتِ لنْدن والقاهرة.
وفي تلك الكلية تتلمذ لجورج حوراني (1913- 1984)، وإسحق موسى الحسيني (1904- 1990)، وسامح الخالدي (1896- 1951) ، وزاملَ كلَّا من جبرا إبراهيم جبرا (1920- 1994) وإحسان عباس (1920- 2003) ومحمود السمرة، وهاشم (1921 – 2013) وعبد الرحمن ياغي (1924- 2017)، وآخرين. في عام 1951 تقدم الأسد بأطروحته لنيل درجة الماجستير «القيانُ والغناءُ في العَصْر الجاهليّ» وكانت بإشراف أحمد الشايب (1896- 1976)، صاحبِ كتابِ «الأسْلوب» (1939)، وكتابِ «أصول النقد الأدبي» (1940).
وفي القاهرة لم يكتفِ الأسدُ بالدراسة الجامعية، ولكنه وطـّد علاقته القوية بغير قليل من الأدباء، منهم أحمد أمين (1886- 1954)، ومحمد فريد أبو حديد (1893- 1967)، وزكي نجيب محمود (1905- 1993)، ومحمد عوض محمد (1895- 1972)، وأحمد حسن الزيات (1885- 1968). وتردَّد إلى الندوات الأسبوعيّة، منها: ندوة كامل الكيلاني، وندوة العقاد (1889- 1964). وفي الأثناء بدأتْ مقالاتُه الأدبيّة تغزو المجلات، لاسيّما مجلَّة «القلَمُ الجديد» التي أنشأها الناعوري في عمان (1952-1953) ولم تُعَمَّرْ إلا عامًا واحدًا.
شهد ناصرُ الدين الأسد، وهو في القاهرة، ما تركه كتاب طه حسين (1889- 1973) «في الشعر الجاهلي» 1926 من ردود فعل، وبما أنَّ طه حسين كان أحَدَ أساتذته، وبما أنه أعاد نشر الكتاب بعنوانٍ آخرَ، هو «في الأدب الجاهلي» (1927) بعد تهذيبٍ تطلَّبَ منه حذفَ ما حَذَف، فقد وقَرَ في ذهنه أنَّ الموضوع يحتاجُ إلى مُراجعة، وإعادة نظر. فقرَّرَ أنْ تكونَ أطروحته للدكتوراه بعنوان «مصادرُ الشعْر الجاهليِّ وقيمتُها التاريخيَّة» فأمضى نيفًا وأرْبع سنين (1952-1955) في تمحيص الروايات، والأخبار ومراجعة النصوص، ومختارات الأشْعار، وتتبُّع الروايات والمَصادر، والنقوش والمَخْطوطات، علاوةً على المَطبوعات، ليقيم الأمْرَ على نحْوٍ غير مختلّ، ولا مُعْتلّ، فأنصف الشعر الجاهليَّ، بعد الذي ران عليه من الضيْم والإجْحاف، وأنصفَ الرواة بعد الذي أُلحِقَ بهم من التجريح والإرجاف. وقد نشرت رسالته في كتاب طبع نيفًا وعشرين مرة.
وتوالت إثر ذلك دراساته وبحوثه وتحقيقاته اللغوية والأدبية، فحقق ديوان قيس بن الخطيم، وديوان الحادرة الذبياني، ونشر كتابا بعنوان «تحقيقات أدبية» وآخر «تحقيقات لغوية» و»الأمالي الأسدية»، وكتابا عن الجراد في التراث العربي، وآخر عن معركة أجنادين. وألقى سلسلة من المحاضرات في معهد الدراسات العليا في جامعة الدول العربية نشرت في كتب، من أبرزها كتابه «محاضرات عن الشعر الحديث في فلسطين والأردن» 1961 وكتاب «محمد روحي الخالدي رائد المنهج التاريخي» 1970 وكتاب «خليل بيدس رائد القصة العربية الحديثة في فلسطين» 1963 وكتابا قيما بعنوان «الاتجاهات الأدبية في فلسطين والأردن»1957. ونشر عددا من الكتب الفكرية منها كتابه نظرات إسلامية في التعليم الجامعي، وكتاب «نحن والآخر»، وكتاب «تاريخ نجدط (تحقيق). وعرف عن الأسد فوزه بعدد من الجوائز نذكر منها:
جائزة عميد الأدب العربي- طه حسين للخريجين 1947
جائزة الملك فيصل العالمية- حقل الآداب 1982
جائزة سلطان العويس – حقل النقد الأدبي 1995
جائزة الدولة التقديرية – حقل الآداب 2003
جائزة الخوارزمي العالمية من طهران 2003
جائزة باشراحيل التقديرية 2006
أما مساهماته في الأدب فقد تقاسمها الشعر والنقد والتحقيق. فشعرهُ الذي نجده في ديوانه «همس وبوح» 2007 شعرٌ رقيق، يجمَعُ بين الجزْلِ المتين، والإحساس المرْهف، الذي ينأى بقرائهِ عنْ شعْرُ العُلماءِ، وأضْرابهِم، من أهلِ الرواية والدراية والفقْه، فهو، تبعًا لذلك، ينمُّ على رقَّة الحاشيةِ، ورهافةِ الحسّ. أما في نقده الأدبي، فقد مزج بين نوعين من النقد، أحدهما يُعنى بتاريخ الظاهرة الأدبيَّة، شعرًا كانت أمْ نثرًا، مثبتًا أنه في هذا الميدان ناقدٌ وباحثٌ، لا يشقُّ له غُبار. فقد توافرت لديه قاعِدةُ البيانات التي تُيَسِّر له ما يحتاجُ إليه من إحاطةٍ بالظاهِرَة الأدبيَّة، بما فيها من مناخاتٍ ثقافيَّةٍ سائدَةٍ، أدَّتْ إلى ظهورها واستمرارها، أو إلى ضُمور أو اخْتفاء بعْض ظواهِر الأدَبِ وانْقراضٍ أنواع منَ الفن.
وثانيهما النقدُ التحليليُّ، الفنّيُ (الشكليّ) الذي يعتمِدُ إدامة النَظَر في بناءِ العمَل الشعريّ، أو النثريّ، والحكم عليه بالضعْف، أوْ بالجَوْدَة. وفي هذا المقام، نجدُ الأسدَ يلجأ تارةً إلى إثارة القضايا، وتارةً إلى طَرْحِ الأسْئلة، واقتراح الإجابات. فمن القضايا التي طرحَها ضروةُ الإلمام بسيرةِ الأديبِ وثقافتِهِ، وما تعرَّضَ لهُ منْ مواقفَ، وحوادِثَ، شرطًا أساسيًا لا غنى عنْهُ لنقدِه وفهْمِ شِعْره. لا سيّما إذا كانَ الدارسُ الناقدُ أمامَ شاعِر كعِرار، يكثِرُ من الإشاراتِ الخاصَّة به وببيئتهِ المحلِّيَّة. وطرح كذلك قضيَّةً أخْرى، وهي: أين تقع مزيَّة الشِعْر ، أهيَ في الموضوع والمحتوى، أم هيَ في الشعر منْ حيْثُ هو شعر؟ وعلى الرغم من تسليمِهِ بأنَّ المضمون، أو الغرَض، ركْنانِ مهمَّان من أركان القصيدة، إلا أن المزيَّة فيها لا تتأتَّى من الموضوع، أو منَ الغرض.
وتوقفَ إزاء مسألة ذيوع الشِعْر وانتشاره، ومبْلغ دلالة الذيوع والشُهرة، على جوْدة النَظْم وتميُّزه. ولسْنا معَ القول: إن ذيوع الشِعْر، أو خمولَ ذكْر الشاعر، دليلان على الجودة، أو على الركاكةِ، والضَعْف، فالأسباب التي قد تؤدي لذيوع الشعر، أو لشهرة صاحبه، متعدِّدَة، وشديدةُ الاختلافِ التبايُن، ومنها ما له صلةٌ بالشعر وبالأدَب، ومنها ما ليْست له صلةٌ بذلكَ، وليس لذيوع شعر عِرار علاقةٌ بجوْدته – في رأينا – وإنما هي سيرورةٌ، وذيوعٌ، أساسُها ما وجدَهُ الناسُ في شعره من مُفارقاتٍ ساخِرة، ومُضْحكَةٍ، اتخذوا منها مادَّةً للتهكُّم على بعْض المسؤولين، أو لنقلْ على النُخْبة الحاكِمَة في زمَنهِمْ، وزمَنِه.
وتتردَّدُ في مواقفه النقديَّة نغمةٌ واحدةٌ لا تخطئُها أذنُ السامِع، ولا عَينُ القارئ، وهي انحيازهُ الشديدُ والدائمُ للتجديد في الشِعْر، وكراهيتهِ للصَنْعة والتكلُّف والخضوع للتقاليدِ الأدبيَّة القديمة، ولا سيَّما الجامِدَة منْها والمتحَجِّرَة.
وأخيراً، نجد الأسدَ يتوَقَّفُ إزاء قضيَّتين نقديتين مهمَّتيْن، وهما: قضية التعْبير غيْر المباشِر عن المعْنى، وذلك شيءٌ يتصفُ بهِ بعْضُ شعْر أبي سُلمى، وبعض شعْر فدوى طوقان. وهو يرى في هذا النَوْع منَ التعبير تعبيرًا أوْلى بالاسْتحسان، من القولِ التقْريريّ الذهْني، الذي هُوَ أوْلى بالاسْتهْجانِ.
والقضيةُ الثانيةُ، هيَ قضيَّة المعْجَم الشِعْريّ، الذي يميّز مبدعًا عن آخر، وشاعرًا عنْ شاعِر. وهذا شيء تتبَّعه الأسَدُ في أشعار أبي سُلمى، وفدوى طوقان، تتبعًا يقيمُ الدليلَ، تلوَ الدليل، على صحَّة الفرضيَّة، فلكلٍّ من الشاعريْن ولعٌ بألفاظٍ خاصَّة، وشغفٌ بمفرداتٍ أكثَرُها مستمدٌّ من سياقٍ دلاليٍّ، ومن حقْلٍ معْجَميّ، مُتجانِسٍ، أو مُتقارِب، وهو ألفاظُ الطبيعَة، وما فيها من ظلالٍ، وإيحاءاتٍ. وقد جعَل هذا الفيضُ من الألفاظ لشعْرهِما لوْنًا ومَذاقًا، لا نجدُهُ في شعْر غيرهما منْ شعراء الأردُن، وفلسطين. وهوَ الذي يُضْفي عليْهما – برأيه- مِسْحةً انفعاليَّة وموسيقيَّة وجماليَّة، تحرِّكُ المشاعرَ وتخاطِبُ الوجدان، وتلك هي غايةُ الأدَب، وإليها تنْتهي مَطامِحُ الأديب
أما (تحقيقاتُه اللغويَّة) و(الأدبيّة) فهي تنقيبٌ متواصلٌ في كتُب التراثِ، تجلو ما التَبَسَ، وتوضِحُ ما غَمُضَ، من أمْر بعض الشعر، وبعض الشعراء، وبعض مسائل اللغة والنَحْو والمعْجَم، لهذا تمثل هذهِ التحقيقاتُ، إنْ كانتْ في المسائل اللغوية، والتصحيح اللغوي، أو الأدبيَّة، والتثبُّت مما يُقالُ عن بعْض المغمورين، أو في أماليه، على المستويَيْن الاثنين؛ اللغوي والأدبي، نماذج تُحتذى، ويُقْتدى بها عند البَحْث في التراث.
٭ كاتب واكاديمي اردني
إبراهيم خليل