بيروت ـ «القدس العربي»: تبلسم الجراح حقاً. جراح الأهل النفسية ومتاعب الأطفال الصحية. وتؤمن بعدوى السعادة. هي طبيبة الأطفال الآتية من فلسطين المحتلة إلى دبي لتتسلم جائزة «تكريم» للخدمات الإنسانية والمدنية، الدكتورة جمانة عودة ابنة قرية «لفتا» المحاذية للقدس. اعتلت المسرح مزهوة بثوبها الفلسطيني التطريز والرائحة، وبطرحة الرأس البيضاء المتطايرة مع حركة صاحبتها، تفتخر بها لأنها زينت رأس جداتها ووالدتها، ونساء «لفتا» عامة. لفتها اهمال مقيم للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة في فلسطين، ولأجلهم أسست مركز الطفل الفلسطيني السعيد. في دبي كان مع جمانة ابو عودة حوار أضفت عليه طابعها الخاص من الحيوية والأمل والتحدي معاً. ترى طبيعياً أن ينال الطبيب تكريماً لجهوده الإنسانية، وترى في انفكاك الطب عن الإنسانية فقداناً لأهم أسسه. تقول عودة: لم يكن الطب بالنسبة لي مهنة، بل طريق حياة لخدمة الأطفال. لم ينسجم مع نسيجي النفسي أن أتقاضى أجراً لعلاج طفل. وهو صراع مستمر منذ 30 سنة. في الغرب حيث أنظمة الرعاية الحكومية العامة، الخدمة الطبية حق للأطفال، وتعفي من الطبيب من الصلة المادية. كان تحدياً أن أسأل ذاتي «ما معنى طبيبة ناجحة»؟ وجدت نجاحي بأن أكون مع الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة. نعم وجدت حياتي المهنية في الطب المجتمعي. قلبي مع هؤلاء الأطفال وسوف اتابع طريقي المهني إلى جانبهم. سنة 1994 افتتحنا مركز الطفل السعيد الفلسطيني، الجزء الاكبر من عملي الطبي تطوعي، لأن عملاً آخر لي في مستشفيات ومؤسسات صحية وكمستشارة صحية يغطي احتياجاتي المالية. مع ذوي الاحتياجات الخاصة لم اتمكن من تقاضي أي أجر. فالرعاية الطبية حق لهم. ونظراً لعدم وجود دولة علينا كمجتمع مدني إيجاد مصادر تمويل لتلك الخدمات. عملنا ليس خيرياً بل حق للطفل في الحياة الكريمة.
نشأت جمانة عودة في ظل الاحتلال بعد أن داهم القدس وهي طفلة. وكان التحدي الأساسي هو الصمود في القدس، وهذا ما مارسه الاهل الذين لمسوا لدى طفلتهم انجذاباً لمساعدة الآخر فعززوه. كبر حلم الطفلة بالتدريج وجذبها الطب. تقول: شعرت بضرورة خدمة وطني من خلال الطب. الشعب الفلسطيني يحتاج لهذه الخدمة نظراً لكلفتها المرتفعة. منذ تخرجي كطبيبة وحتى الآن أحظى بدعم عائلي متواصل من والديَ، إلى زوجي وابنتيَ، ولا أنسى قبل هؤلاء جميعاً جدي وجدتي. رحم الله والدي كان داعماً دون حدود، هو مثلي الأعلى في الحياة. درست الطب في لينينغراد ـ (سان بطرسبورغ حالياً) بعد نيلي منحة من تلك التي خصصها الملك حسين للطلاب الاوائل في الضفة الغربية. بعد دراسة منهج الطب العام تابعت التخصص في بريطانيا ومن ثم في الولايات المتحدة. فلسطين مدرستي في الصحة المجتمعية. تعلمت من المخيمات ومن القرى الفلسطينية ما لم أتعلمه في كليات الطب، وما زلت أتعلم.
الحاجات للمساعدة المجتمعية على مختلف الأصعدة لا حصر لها في فلسطين، وخيار جمانة هو عودة الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة والدافع: أنهم الأقل حظاً. لي معهم ومع عائلاتهم حكايات شخصية. يحرص الأطباء لأن يبعدوا عن الأهل الإجابات الصعبة أو المؤلمة المتعلقة بأطفالهم. في الانتفاضة الفلسطينية الأولى سنة 1987 عملت في مخيمات غزة، وفيها شعرت كم هو مؤلم أن يخرج طفل على قدميه من منزله ليعود معوقاً. وكم مؤلم للأم غير المستعدة نفسياً تقبل هذا الواقع. أن يكون هؤلاء الأطفال أبطالاً جيد، لكن ماذا عن مستقبلهم؟ ومن سيرافقهم في طريقهم المؤلم؟ السبب الاخر في اختياري هذا العمل أنه من الطبيعي أن يولد اطفال باعاقة ما، أو متلازمة «داون» أو شلل دماغي، ومن النادر أن يحصل أحدهم على رعاية. يطرح الأهل أسئلة صعبة للغاية. هل سيتزوج؟ هل سينمو؟ هل يمكنه ارتياد المدرسة؟ وللأسف بعضهم يسأل كم يعيش؟
أن يكون المرء إلى جانب المتألمين فالألم يتسلل إليه مهما قاوم. وأن يكون الجزء الاكبر من حياته المهنية مع أطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة يصبه الاكتئاب مهما كانت المقاومة. دفاعات جمانة عودة متينة. فمن أين لها هذا؟ لا تنفي أن البدايات كانت صعبة. بدأت مهماتي الطبية في غزّة وكنت أبكي مع كل أم تبكي. لم أكن أتحكم في دموعي. عاهدت نفسي على إبقاء أعباء العمل ضمنه، وألمي الداخلي لي ومن واجبي التعامل معه ذاتياً. يمكنني القول بأن وجعي هو وجع وطني وشعبي، ولخدمته كانت قاعدتي الألماسية ممنوع القول «لا يمكنني». سمحت لنفسي بالبكاء والعمل في لحظة واحدة ولا استسلام. نعم تألمت وبكيت. أصابني احباط نسبي أسميه تعب كبير، إنما ميزان قلبي وعقلي يؤكد ضرورة عدم تخطي تلك المرحلة. الألم المطلق أصابني ابان الانتفاضتين الأولى والثانية نظراً للعدد الكبير من الشباب والأطفال الذين أصيبوا بإعاقات دائمة. نعم داهمني الإحباط لكني لم أسمح له بإيقافي عن عملي. بل العكس، هو الذي كان يمدني بجرعات إضافية للمتابعة.
في أرض محتلة يمارس فيها الصهاينة صنوفاً من الإذلال والقمع وصولاً إلى القتل، ويضاف له مواكبة صحية لأصحاب الاحتياجات الخاصة كيف تقويّ جمانة عودة الطبيبة دفاعاتها النفسية؟ تقول: أمارس لأشهر قرار مقاطعة كافة الاخبار. فلن اسمح للألم المتواصل، والقتل الذي لا يتوقف أن يثنيني عن عملي. ليست لي قدرة ايقاف النزف والألم لدى الشعوب العربية وبخاصة في فلسطين، لكني أملك قدرة مساعدة هؤلاء الأطفال، ويستحيل أن اعتذر من طفل بالقول أني محبطة هذا اليوم أو في اجازة. عقلي وقلبي لا يدخلان في إجازة طويلة. لا اعطي نفسي اجازات طويلة، لكني أعرف كيف أفرحها، وأدخل إليها السرور. كل صباح اسمع الموسيقى مع فنجان القهوة. واتابع سماع الموسيقى في كامل اليوم. في الصباح فيروز، وخلال النهار محمد عساف وموسيقى الدبكة. وفي نسق حياتي اليومي أدبك لنصف ساعة صباحاً قبل التوجه للعمل. موسيقى الدبكة رفيقتي أمارسها حتى في الفندق خلال السفر. على الدوام استيقظ باكراً بحيث يكون زمن الدبكة محسوباً. اكتشفت هذا العلاج ذاتياً، خاصة وأن الدبكة في دمي منذ الصغر، كما أنني أتقن تصميم الخطوات.
مواهب الدكتورة عودة لا تُحصى، هي التي تزيت بالزي الفلسطيني في كافة فعاليات برنامج تكريم في دبي تعترف: هذه الأزياء تشكل هويتي الشخصية. أصممها وأنفذها حين أجد الوقت، أو أطلب من آخرين تنفيذها لي.
لجائزة «تكريم» موقعها المؤثر والمميز في نفس جمانة عودة. في سنة 2008 نالت جائزة نوبل للطفولة كأول عربية ولا تزال. حين بلغها خبر الفوز كانت في الولايات المتحدة مع بنتيها. سألتها الكبرى عن مشاعرها: تتماثل لمشاعري في لحظة ولادتك. وعادت لتستدرك أن أمها هي فلسطين «وتدحرجت دموعها». ومن جوائزها كذلك «جائزة بطل الإنسانية سنة 2013»، نالتها عبر التصويت. حينها اعترف القائمون على الجائزة بأن حجم التصويت لم يكن مسبوقاً. تتوقف هنيهة لتقول: جائزة «تكريم» تتكلم العربية طعمها ألذ.
إلى جامعة هارفرد حملت الدكتورة عودة تجربتها، وفيها تعطي الطلاب محاضرات عن النموذج الفلسطيني في العناية بالأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة. في هارفرد لا أتكلم السياسة مع الطلاب، لكني أخبرهم قصصنا عن حال الطفل المصاب بالتوحد الذي أمضى في مركزنا 1480 ساعة علاج، فيما امضى على الحواجز الصهيونية للتنقل بين منزله والمركز 1800 ساعة. هذا مثال من عدّة.
لمركز الطفل السعيد الفلسطيني مقر صغير في القدس بعد أن كان رئيسياً، قبل انتقاله إلى رام الله. تقول عودة: لدينا العديد من المراكز المرتبطة أحدها بالآخر عبر الستالايت، عملنا المُكثف يتركز في الأغوار، هي منطقة محرومة جداً. وبعد حصار غزة منذ سنة 2006 تراجع العمل في القطاع، ومركزنا يعمل قدر المستطاع. حلمي أن ينتشر هذا الشكل من العمل مع الأطفال في كل الدول العربية التي تحتاج الخدمة التي يقدمها مركز الطفل الفلسطيني السعيد.
زهرة مرعي
على نتنياهو وكل الصهاينة قراءة المقال ليعلموا لماذا لن يتمكنوا نهائيا بعون الله من القضاء على شعب الجبارين وإنهاء القضية الفلسطينية. اللهم كن مع فلسطين وأهلها. ففيها البقية الباقية ممن أخبرنا عنهم حبيبك المصطفى وقد خذلوا إلا منك.