نبض مصري جـديـد

الإقبال الضعيف على الانتخابات النيابية المصرية كان عنواناً لأسبوع ساخن في الإعلام المصري، ولم يتردد بعض الإعلاميين ومن يطلقون على أنفسهم الخبراء الاستراتيجيين بوصف الشعب بالتخاذل والسلبية ومطالبتهم بتحمل نتائج قرارهم بالإحجام على المشاركة.
نعم وجدت حملات للمقاطعة يمكن أن تنطبق على مئات الآلاف من الناخبين، ولكن الملايين التي تغيبت عن المراكز الانتخابية كانت توصل رسالة واضحة بأن الأمور بالنسبة لها تسير في الاتجاه الخاطئ، وأن الدفعة العاطفية التي منحها المصريون لرئيسهم السيسي بدأت تذوي وفي طريقها للتلاشي. بالطبع لم يكن المصريون يتوقعون من السيسي الكثير، ولكن مجموعة من العوامل سحبت من رصيده تحت تغطية إعلامية تضليلية واسعة، فالمصريون لم يغفروا لمبارك ورجاله، وتتابع الإفراج عنهم أتى بصورة استفزازية، خاصة أنه ترافق مع حملات اعتقال واسعة لشباب اعتبرهم ثوار التحرير في مقدمة الصفوف مثل، أحمد دومة وعلاء عبد الفتاح، وحتى لو كان الوعي الشعبي لا ينزلهم في مواقع الأبطال ولا الرموز، ولا يمتلك أوهاماً بخصوص تجردهم من النزعة، وربما، المصلحة الشخصية، إلا أنه يرى أن العقوبة التي لحقت بهم كانت تتصف بالمبالغة، وتؤشر بوضوح إلى ديكتاتورية ناقصة وانتقائية، بينما كان المصريون ينتظرون ديكتاتوراً كاملاً.
المصريون مصدومون من السيسي لأنه لم يكن الديكتاتور الذي ينتظرونه، وفي الأشهر الأخيرة كان يبدو رسول العصر القديم وممثله، صحيح أنه لم يقبل أن يعود أحمد عز إلى البرلمان، وكان إجراء قانوني شكلي يحول دون ذلك، ولكن المصريين كانوا يتوقعون ألا يجرؤ أحمد عز أصلاً على ترشيح نفسه، خوفاً من استثارة غضب السيسي، فأحمد عز يتحدى الثورة وكرامة الشعب المصري وتضحياته، وكما يقول التعبير الشعبي (يسوق الهبل على الشيطنة)، حتى لو اعترتهم لحظة من الإشفاق على شيخوخة مبارك، فإن ذلك لا ينطبق على رجال جمال مبارك، الذين يرونه مسؤولاً عن السنوات الأخيرة التي أسقطت مصر وحولتها من وطن إلى شركة.
لم يكن المصريون يتوقعون أن تنتهي مشاكلهم الاقتصادية بمجرد افتتاح قناة السويس الجديدة، ولكنهم على الأقل لم يكونوا ينتظرون انفلاتاً جديداً للدولار ليتعدى حاجز ثمانية جنيهات، في ما بدى أنه الترنح الأكبر للجنيه منذ زمن عاطف عبيد. والمشكلة أن رجالاً من النظام نفسه تخبطوا في تصريحاتهم، وكان هشام رامز المحافظ المستقيل، أو المقال للبنك المركزي المصري، يطلق التصريح الأكثر حساسية وإحراجاً، بتفسيره ارتفاع أسعار الدولار بالإنفاق على قناة السويس، وهي التي شهدت اكتتاباً كبيراً تدافع له المصريون ليكتشفوا أن الإنفاق على المشروع كان يجري بالدولار، بما يعني أن الحكومة دخلت في المنافسة على سحب الاحتياطي الدولاري لمصر، وفي الوقت نفسه، لم يتردد البعض في اتهام مافيا إخوانية تتحكم في شركات الصرافة بالوصول إلى الأزمة الحالية، وهو تفسير على جانب كبير من الخطورة، لأنه يعني أن كل الإجراءات الأمنية التي جرى تبريرها بالقضاء على الإخوان لم تسفر سوى عن إعادة ما يشبه قانون الطوارئ، بينما ما زال الإخوان يمتلكون القوة ليعضوا قلب مصر ورغيفها معاً.
المصريون طبعاً لا يرون مشكلتهم في صعود الدولار، فالذي يعنيهم هو تآكل الجنيه وقوته الشرائية، مع أن الأمرين وجهان لعملة واحدة، ولكن المصري البسيط بدأ يجد أن أسعار الخضروات التي كانت تقليدياً منخفضة مقارنة بالدول العربية الأخرى، تقفز ليس لتتجاوز قدرات المواطن البسيط، ولكن لتصبح أعلى من أي مكان آخر في الدول العربية المجاورة، فموجات الغلاء لا يمكن أن تكون نتيجة للأداء الاقتصادي وحده، خاصة إذا كان الحديث عن المنتجات الزراعية في بلد مثل مصر، ولذلك يشعر المصريون اليوم بأنهم بدون غطاء أمام تغول التجار والوسطاء وشراهتهم، وأنهم يشكلون العمق الذي تستند إليه دولة رجال الأعمال، التي لم تتردد حتى في استهداف السيسي شخصياً من خلال أدواتها الإعلامية.
ليس من الحكمة أن يتحدث الشخص عن تراجع جوهري لرصيد السيسي، ولكن فرصة تاريخية لإحداث تغييرات جذرية أصبحت وراءه اليوم، والشعبية التي جعلته يقترب من مكانة عبد الناصر في المخيلة الجمعية للمصريين تبددت عملياً ولم يعد من المناسب الحديث عن (المخلص) الذي سيعبر بشعبه إلى المستقبل المختلف، والمزاج العام في مصر ينذر بتعمق السلبية تجاه الرئاسة والحكومة، وجميع تمثلات السلطة، ولا يعني ذلك أن احتمالات حراك شعبي قائمة، فالسيسي ما زال بإمكانه أن يراجع كثيراً من أوراقه في هذه المرحلة، وأهمها بالتأكيد الملفان الاقتصادي والإعلامي، فالسياسة في مصر تحولت في الفترة الأخيرة إلى ظاهرة إعلامية، ويدلل على ذلك أن قائمة «في حب مصر» التي حصدت جميع مقاعد الجولة من الانتخابات حافلة بمنتجات مرحلة الفوضى الإعلامية، التي شهدتها مصر منذ الثورة، ففي ظل سنوات البوار السياسي التي تتابعت أثناء حكم مبارك لم يكن لأحد أن يدعي تاريخاً سياسياً يمكن أن يدفعه لجيل جديد من الناخبين، ولذلك فإن القائمة التي تسيطر اليوم على البرلمان المصري تبدو بعيدة جداً عن المصريين، أبعد حتى من قوائم الحزب الوطني القديمة، التي كانت تتجمع بانتهازية حول كبيرهم في تلك المرحلة (كمال الشاذلي) من أجل مصالحها، ولكنها كانت في المقابل متصلة موضوعياً بقواعدها الانتخابية سواء على أرضية العمق العائلي أو الممارسة السياسية.
كان الانفصام الذي أحدثه أحمد عز عندما جرى تصعيده للدور الذي لعبه كمال الشاذلي سابقاً، أحد أسباب تسخين المشهد السياسي والشعبي لثورة يناير، فعز استدعى شخصيات غير معروفة للمصريين، ولا تملك الحد الأدنى من القبول ولا القدرة على التواصل مع القواعد الشعبية، وكل مسوغات طرحها لتصدر المشهد كان ينحصر في استعدادها لأن تصنع، حتى بأجسادها، سلماً يصعده جمال مبارك إلى سدة الرئاسة، وبالطبع كان عز مهتماً بأن يطرح نفسه بوصفه الرجل الأقوى والأخطر ضمن هذه المنظومة، وليتمكن من ذلك في ظل إمكانياته المتواضعة، فإنه سعى إلى منح الفرصة لمجموعة كبيرة من الرجال الباهتين وغير المتمرسين في العمل السياسي من الأساس، ووجد نفسه بعد أوسع عملية تزوير انتخابية تشهدها مصر في عصر مبارك، يؤسس للبرلمان الذي لن يحصل حتى على فرصة تدشين مرحلة انتقالية جديدة، كما يحدث ولو شكلياً في أي دولة أخرى، فرجال الحزب الوطني كانوا يبحثون عن فرصة للاختباء والتواري، بينما الجموع تقوم بإحراق مقر حزبهم بكل ما يحمله من رمزية للتجبر والاستعلاء والغطرسة والبلطجة.
أن يكون برلمان مصر المقبل مكوناً من تنويعات للون واحد فذلك يمكن أن يحقق أهدافاً محدودة وقصيرة الأمد، لأن البرلمان، على الأغلب، سيتحول إلى صدى لمؤسسة الرئاسة، والمشكلة ستظهر في المدى المتوسط والبعيد يوم أن تبدأ استحقاقات تقييم مرحلة جديدة من تاريخ مصر، من قبل شعب يمتلك مزاجاً وذائقة سياسية ووطنية مختلفة، وعلى قدر من النزق، ومن الصعب إرضاؤها أو التنبؤ بكيفية وتوقيت ومدى تحولاتها.

٭ كاتب أردني

سامح المحاريق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    مصر من سيئ لأسوأ ما لم ينتهي الانقلاب
    فالاستقرار السياسي هو أهم ركائز الاستثمار
    الدليل هو بتركيا حين انتهى الانقلاب العسكري

    ولا حول ولا قوة الا بالله

إشترك في قائمتنا البريدية