نبيلة إبراهيم: ذات الهمة

حجم الخط
2

هل يمكننا تعويض من يرحلون عنا؟ أجدني أطرح هذا السؤال كلما غابت عنا علامة من العلامات المتميزة في الثقافة العربية. لا أقلل من الأجيال الجديدة ولا القادمة. فكل جيل له طموحاته وعطاؤه المتميز.
لكن طرح مسألة استمرار الأجيال في تطوير مشاريع من سبقهم، من المهام التي ينبغي أن نفكر فيها ونوليها ما تستحق من العناية. ولا بد هنا من إثارة الذهنية الفردية التي هيمنت في متخيلنا الثقافي. إن الواحد منا لا يستنكف عن التعبير عن انتمائه إلى مشروع عرقي أو طائفي أو سياسي، لكنه حين يتعلق بالشأن الثقافي لا يتردد في الإعلان عن فرديته وهويته الشخصية. ولعل ذلك راجع إلى عوامل كثيرة، من بينها هيمنة صورة المبدع (الشاعر) في ثقافتنا. فكل يريد التميز في مجاله عمن سواه، رغم كون العمل الجماعي، وتطوير مشاريع الغير لا يلغيان الذاتية أو الفردانية.
لقد عبرت مرارا عن الانقطاع في صيرورتنا الثقافية، مقارنة مع ما نجد في الثقافات الأخرى المحيطة بنا، حيث نجد الأجيال تتسلم الأسئلة المشاريع التي سبقتها، وتعمل على حملها وتطويرها. لذلك لا يمكننا مثلا الحديث عن السرديات مع جيرار جنيت دون ربطها بالبلاغة الكلاسيكية. ولا تناول تودوروف دون الوقوف على جنيت، ولا كورتيس دون الإحالة إلى غريماس، بل إن السرديات ما بعد الكلاسيكية ما كان لها لتكون لولا السرديات الكلاسيكية.
من يمكن أن يعوض نبيلة إبراهيم التي غادرتنا مؤخرا؟ تعرفت على نبيلة، قبل أن أراها، من خلال مؤلفاتها في نقد الرواية وكتاباتها حول الثقافة الشعبية. لقد كانت أستاذة الأدب الشعبي في جامعة القاهرة، حصلت على الدكتوراه في الأدب العربي من ألمانيا عام 1961، وشغلت منصب عميد المعهد العالي للفنون الشعبية في أكاديمية الفنون في القاهرة ما بين عامي 1987 و1989. تركت نبيلة عدة مؤلفات، يتصل بعضها بنقد الرواية مثل: «نقد الرواية من وجهة نظر الدراسات اللغوية الحديثة و»فن القص بين النظرية والتطبيق»؛ وبعضها الآخر بالثقافة الشعبية: «سيرة الأميرة ذات الهمة: دراسة مقارنة»، و»الأسطورة»، و»قصصنا الشعبي من الرومانسية إلى الواقعية»، و»البطولة في الأدب الشعبي»، و»من نماذج البطولة الشعبية فى الوعي العربي» و»البطولات العربية والذاكرة التاريخية» و»الكون والإنسان في التعبير الشعبي».
ساهمت نبيلة، إلى جانب مؤلفاتها، بقسط وافر في ترجمة الدراسات المتميزة التي تعنى بالثقافة الشعبية والفلكلور. وعلى رأس ذلك ترجمة كتاب جيمس فريزر «الفلكلور في العهد القديم» في مجلدين كبيرين (صدرت الترجمة العربية للمرة الأولى عام 1972)، وترجمتها لكتاب فريدريش فون ديرلاين: «الحكاية الخرافية: نشأتها، مناهج دراستها، فنيتها»، ثم ترجمتها لكتاب «الماضي المشترك بين العرب والغرب ــ أصول الآداب الشعبية الغربية» لـ» أ.ل.رانيلا».
إن نبيلة إبراهيم، سواء من خلال مؤلفاتها أو ترجماتها تتقدم إلينا صاحبة مشروع ثقافي يعطي للثقافة الشعبية العربية بعدها الحقيقي في التأليف والترجمة. ولعل اهتمامها بالسرد ونقدها للرواية وليدا عنايتها بالثقافة الشعبية التي تقوم على أساس سردي. إنها بذلك تطور مشروع أستاذتها سهير القلماوي، التي كانت أول من أعدت كتابا شاملا عن ألف ليلة وليلة من الباحثات العربيات. وهي لم تكتف بتطوير هذا المشروع، بل إنها ألفت كتابا عن منجزات أستاذتها.
في كل آثار نبيلة نجد الباحثة المتميزة والمتمكنة من عدتها النظرية وتصورها الدقيق لمشروعها. لقد ساعدتها معرفتها باللغات وبالثقافة الشعبية الأجنبية على الإقدام على الدراسات الشعبية المقارنة، فبرز ذلك في تأليفاتها وترجماتها، حيث تبدو لنا المقارنة بجلاء بين الثقافة الشعبية الغربية والعربية، فأبرزت لنا العلاقات الوطيدة بين الثقافات الشعبية وصلاتها ببعضها، هي بذلك تبدو باحثة عالمة تستفيد من التقاليد الجرمانية في البحث والدراسة. ويتحقق ذلك بجلاء في كون كتاباتها عميقة لا تقف عند حدود سطح الظواهر والقضايا التي تتناولها بالدراسة، إنها في معالجتها لسيرة الأميرة ذات الهمة، لم تقف عند وصف السيرة أو تلخيصها، ولكن تعدت ذلك إلى مقارنتها بنظيراتها في الثقافة الغربية. وهو الأمر نفسه التي اهتمت به في قراءاتها للبطولة في ثقافتنا الشعبية العربية. ويمكننا قول الشيء نفسه في دراساتها المتميزة عن الرواية العربية، حيث كانت من الباحثات المصريات المتميزات اللواتي أولين عناية خاصة للتفاعل مع الدراسات البنيوية في تحليل الرواية، وكانت في ذلك من الرائدات.
يبرز لنا عمق تكوينها ودقتها في التعامل مع أبحاثها في اختيار الكتب التي تترجمها، فعلاوة على نجاحها في انتقاء الدراسات العميقة، لا تحس وأنت تقرأ كتاب فريزر أو فون ديرلاين أو رانيلا بأنك أمام كتاب مترجم. وفي هذا دليل على ميزة خاصة قلما نجدها عند المترجمين. حين علمت بأنها زوجة عز الدين إسماعيل قلت: «وافق شن طبقة». ولعل أهم خاصية تجمع بينهما هي العمق والدقة والصدق.
عطاء نبيلة إبراهيم في الثقافة الشعبية يدفعنا للتساؤل من يعوضها؟ حين وضعت عنوان المقالة لم أدر أنها تركت كتابا تحت عنوان: «ذات الهمة في القرن العشرين: يوميات نبيلة إبراهيم».

٭ كاتب مغربي

نبيلة إبراهيم: ذات الهمة

سعيد يقطين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول العربي الرودالي-المغرب:

    مفاهيم الاستمرارية والتطوير والنقلة، لا جدال في شأن ضرورة سيرورتها الحضارية والثقافية..والمفكر الأدبي سعيد يقطين أصاب الهدف كما هو في كل مقالاته..غير أن من الطبيعي، وعلى مستوى الإبداع، أن تنطلق الدهنية الفردية سابحة في ملكوت الفن تفكيرا وتخييلا وطموحا…لكن المشكل يكمن في قصور النقد والبحث الأكاديمي من أجل لم التراكم وغربلته، تحت إشراف خلية يكون من مهامها الجمع والفرز والتركيب، وفي كل المجالات، بما في ذلك كل الجهود والإنجازات الفكرية والأدبية والفنية… والتي تستحق موضوعيا أن ينظر إليها

  2. يقول محمد حسنات:

    شكرآ، على إضاءة من تتمتع بهذة ،الصفات،والمنجزات الفكرية، سواء في مجال التأليف أو الترجمة .

إشترك في قائمتنا البريدية