توقع كثير من الخبراء والمحللين منذ سنوات ثلاث، أي منذ أن تأسست حركة نداء تونس وأعلن عما سمي بـ»روافد النداء» (أي التيارات المكونة للحزب وهي الدساترة واليساريون والنقابيون والمستقلون…) أن لا يعمر هذا الحزب طويلا في الساحة السياسية التونسية إذا لم يعقد مؤتمره التأسيسي الذي تأجل مرات عديدة بسبب خشية القيادات المركزية والجهوية للحزب من خسارة مواقعها. وأكد البعض يومها على أهمية عقد مؤتمر انتخابي تأسيسي للحزب في أسرع الآجال حتى يتم الحسم في مسألة القيادة التي سيقتنع بها الجميع بالنهاية باعتبارها وليدة صناديق الإقتراع بخلاف القيادات المعينة التي يمكن لمن هب ودب الطعن في شرعيتها.
تماسك ظرفي
ولعل سبب تماسك الحزب مع بدايات التأسيس وحفاظه على وحدته مرده إلى أمرين، أولهما عقد العزم على هزيمة حركة النهضة في الانتخابات التشريعية والرئاسية والحد من نفوذها بعد أن هيمنت على المشهد السياسي، وثانيهما الإلتفاف حول شخص المؤسس الباجي قائد السبسي. فالرجل صاحب كاريزما وقدرة على الجمع سببها بالدرجة الأولى خبرته التي اكتسبها طيلة سنوات عمله في المجال السياسي كوزير سيادة لدى بورقيبة، تقلد حقائب الداخلية والدفاع والخارجية، كما ترأس البرلمان التونسي في بدايات حكم بن علي ثم الحكومة بعد انهيار نظام هذا الأخير ومغادرته إلى المملكة العربية السعودية مع بداية سنة 2011.
لكن وبمجرد أن فاز قائد السبسي في الانتخابات الرئاسية على منافسه الرئيس المؤقت السابق المنصف المرزوقي، وغادر مقر الحزب في منطقة البحيرة إلى القصر الرئاسي في قرطاج بعد تقديمه لاستقالته، لاحت بوادر الإنشقاق والتصدع في حزب نداء تونس. وكلما تأجل المؤتمر التأسيسي كلما ازدادت الخلافات بين أبناء الحزب الواحد بالرغم من تعيين رئيس مجلس النواب محمد الناصر على رأس الحزب نظرا لخبرته الطويلة.
مصالحة مؤقتة
وقد كان من المفروض أن يعلن رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي عن خطة للصلح بين شقي نداء تونس المتصارعين، لكن العملية الإرهابية التي هزت العاصمة التونسية مؤخرا، والتي استهدفت حافلة تقل عناصر من الأمن الرئاسي التونسي، حالت دون ذلك. ومن المتوقع أن يعلن عن هذه الخطة في مقبل الأيام بالرغم مما يطال رئيس الجمهورية من اتهامات من قبل البعض بأنه يتخندق في صف نجله حافظ قائد السبسي في مواجهة الأمين العام للحزب محسن مرزوق مما يجعله أبعد ما يكون عن الحياد في نظر البعض.
ويتوقع كثير من المراقبين أن تسفر هذه المبادرة عن مصالحة بين شقي النداء بعد أن يتم الإتفاق على موعد لعقد المؤتمر، وبعد الإتفاق أيضا على منع كل من حافظ قائد السبسي ومحسن مرزوق من الترشح لأي منصف قيادي داخل النداء وعلى جملة من الإجراءات. وبذلك يتراجع النواب الموالون لأمين عام الحزب محسن مرزوق، وعددهم يفوق الثلاثين، عن استقالتهم من كتلة نداء تونس البرلمانية ويستمر الحزب موحدا، ولكن إلى حين، لأن المصالحة الرئاسية لا تعدو أن تكون سوى مسكنات لآلام هذا الحزب دون أن ترقى إلى درجة الجراحة التي تطال مكمن الداء.
استحالة التعايش
ويرى كثير من المراقبين أنه يصعب التعايش، بل يستحيل، بين شقي حركة نداء تونس وهناك شرخ كبير جسده الكم الهائل من العنف اللفظي والمادي الذي حصل خلال الفترة الماضية، فقد وصل الأمر إلى حد الإشتباك بالأيدي والعصي بين الطرفين في أحد فنادق مدينة الحمامات السياحية التونسية. كما شهد التونسيون ملاسنات بالجملة واتهامات متبادلة في وسائل الإعلام بين قيادات بارزة في النداء من الشقين وصلت إلى حد التخوين واتهام الأمين العام بالتخابر مع جهات أجنبية والتآمر على رئيس الجمهورية.
واتهم جماعة محسن مرزوق بدورهم الباجي قائد السبسي بالسعي إلى توريث إبنه بالرغم من أن هذا الأخير قد منع نجله من الترشح للانتخابات التشريعية الأخيرة عن دائرة تونس 1 التي كان في البداية من أبرز مرشحيها لرئاسة قائمتها الندائية. ورفع بعضهم في اجتماع عقده شق محسن مرزوق مؤخرا لافتات كتبت عليها عبارة «لا للتوريث» رغم إدراك القاصي والداني أنه لا مجال لذلك، فلا الأب قام بخطوات في هذا الإتجاه ولا الإبن لمح لرغبته في ذلك ولا المتغيرات التي شهدتها البلاد تسمح بحصول ذلك بعد أن باتت في تونس أحزاب منافسة حقيقية، بعضها شريك في الحكم، ومعارضة شرسة ومجتمعا مدنيا قويا وإعلاما حرا تحول جميعها دون عودة البلاد إلى الوراء.
كفاءات وطنية
وتزخر حركة نداء تونس بالكفاءات من إطارات الدولة العليا، حتى أن البعض شبه الحزب بالجيش المكسيكي الذي يتميز بكثرة الجنرالات، وأغلب هذه الكوادر من فئة الشباب الذي التحق بالحركة باحثا عن مشروع حداثي يعيد إلى تونس ألقها المفقود. لكن هذه الكفاءات مغيبة اليوم ولا يكاد يسمع لها صوت وهي تنتظر دورها للبروز من خلال المؤتمر الذي يعتبر طريقها الوحيد للوصول إلى المناصب القيادية في الحزب والتي بقيت حكرا على المقربين من رئيس الحزب السابق ومن القيادات التي عينها رئيس الحزب السابق وممن كان سباقا في الإلتحاق بالحزب واحتل موقعا متقدما أو ممن مكنته إقامته بالعاصمة من التموقع الجيد على مستوى المركز وهو ما لا يتاح للمقيمين في باقي المدن.
ويتوقع جل الخبراء والمحللين أن هذه الكفاءات ستغادر حركة نداء تونس إلى وجهة أخرى في حال تم إجراء مؤتمر توافقي غير انتخابي تحافظ من خلاله قيادات الحزب الحالية على مواقعها ولا تتيح الفرصة للإطارات الشابة للتموقع في الصفوف الأمامية. فنسبة هامة من هؤلاء تشعر أن قيادات الحزب الحالية لا تفوقها في شيء من حيث الكفاءة والخبرة السياسية والقدرة على إدارة الحزب والتواصل مع القواعد وبالتالي فلا مبرر من الرضوخ لها ومنحها كل هذه الهالة التي لا تستحق.
التيار الدستوري
وبالرغم من ان في كلا الشقين المتصارعين في حركة نداء تونس منتمين إلى التيار الدستوري الذي حكم تونس لقرابة الستين سنة، وإلى قوى اليسار، إلا أن البعض يصر على أن الخلاف الحقيقي داخل النداء هو في الأساس بين الدساترة واليساريين. حيث ساهمت قواعد حزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل في إيصال حركة نداء تونس إلى الحكم من خلال حشد الناخبين ومراقبة سير العملية الإنتخابية والتصويت، لكن هؤلاء لم يشاركوا بصورة فعلية في الحكم الجديد حيث كان حضورهم كمرشحين في القائـمات الإنتخابية ضعيفا وكذا في تعيينات القصر الرئاسي والحكومة.
وبالتالي فإن رحيل العناصر الدستورية عن حركة نداء تونس أو بقاؤهم في صلبها هو رهين مؤتمرها الإنتخابي المقبل الذي يجب أن يمكن هذه القواعد من احتلال مواقع قيادية في الحزب. كما أن الانتخابات المحلية على الأبواب وإذا لم تتم ترضية هؤلاء كمرشحين في هذه الانتخابات فإنهم راحلون لا محالة خاصة وأن هناك مبادرات لتجميع الدساترة تلوح في الأفق لعل أهمها مبادرة كمال مرجان آخر وزير خارجية في عهد بن علي والذي يلقى حزبه إقبالا من قيادات دستورية لعل أهمها الأمين العام السابق للتجمع الدستوري المنحل محمد الغرياني بالإضافة إلى الوزير السابق محمد جغام وآخرين.
وضع ملائم
ويشار إلى أنه حتى لو انقسمت حركة نداء تونس فإن ذلك لن يؤثر تأثيرا كبيرا في المشهد السياسي الحالي، حيث يبدو وأن رئيس الحكومة الحبيب الصيد ما زال يحوز ثقة الداخل والخارج على حد سواء. وقد أكد ذلك رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي في أكثر من مناسبة ودحض مقولة أن حركة النهضة ستصبح صاحبة أغلبية نيابية، في حال انقسم نداء تونس وأسس محسن مرزوق حزبه الجديد، وستقوم بتشكيل حكومة جديدة تترأسها شخصية نهضوية أو مقربة من حركة النهضة.
وتشكل حركة النهضة مع الشق القريب منها في حركة نداء تونس وهو شق حافظ قائد السبسي أغلبية مريحة داخل البرلمان تمكنها من المحافظة على الوضع السائد الذي يعتبر مثاليا للحركة الإسلامية دون الحاجة إلى البحث عن تحالفات جديدة. فالغنوشي وجماعته راغبون في البقاء في دوائر الحكم غير بعيدين عنه، بل ومشاركين فيه سواء في البرلمان أو في الحكومة أو على المستويين الجهوي والمحلي، لكن ليس في الواجهة وذلك تجنبا للضغوط التي أرهقت الحركة طيلة سنوات حكمها الماضية وجعلتها عرضة لضغوط الطبقة السياسية ووسائل الإعلام وكثير من منظمات المجتمع المدني ولا يبدو أنها قد تغامر لتخسر هذا الموقع المتميز في الحكم وهي التي تدرك أن الوضع الإقليمي والدولي لا يسمح لها بالبروز في الواجهة في الوقت الراهن.
ماجد البرهومي