نزوع الأوديسة

حجم الخط
1

في سنة 2000 صنعت الأكاديمية السويدية واحدة من أكبر مفاجآت نوبل الآداب، وذلك حين منحت الجائزة إلى الصيني غاو شينغجيان، الروائي والمسرحي والمنظّر الأدبي والرسام، المقيم في فرنسا منذ 1988. الأرجح أنّ السؤال الأول الذي تردد فـــــور إعلان النبأ، وربما عـــلى امتداد العالم بأسره ما عدا الصين ذاتها، هــــو التالي: من هو هذا الفائز؟
الخطوة التلقائية التالية، بعد قراءة حيثيات منح الجائزة، كانت البحث عمّا هو متوفر من أعمال الرجل، مترجمة إلى لغات أخرى غير الصينية. الحصيلة، يومذاك، لم تكن مشجعة أبداً؛ باستثناء دار النشر الفرنسية الصغيرة Editions de l’aube، التي احتضنت ترجمة ونشر أعمال شينغجيان؛ و… الترجمات إلى السويدية، التي أكسبته شعبية واسعة لدى الجمهور السويدي وأعضاء الأكاديمية أيضاً.
ولقد قيل على الفور إنّ هذا السبب، أي الترجمة إلى السويدية، كان العامل «الإجرائي» الأول، الذي مهّد الطريق أمام طائفة أخرى من العوامل: سياسية، وإبداعية، وجغرافية. إذْ لولا الترجمة إلى السويدية، يتابع أصحاب هذا الرأي؛ ولولا رغبة الأكاديمية في منح الجائزة ـ أخيراً! ـ إلى أديب صيني، والأفضل أن يكون منشقاً ومنفياً؛ فإنّ الجائزة كانت ستخطئ طريقها إلى الصين من جديد. شينغجيان ليس أعظم أدباء هذا البلد العريق، يساجل هؤلاء أكثر، وهو على الأقل ليس الأجدر بينهم لحمل لقب أوّل صيني فائز بالجائزة.
بيد أن أصحاب هذا الرأي أدركوا ـ سريعاً أغلب الظنّ، وربما فور قراءة الفصول الأولى من رواية «جبل الروح»، أو مسرحية «على حافة الحياة» ـ أن شينغجيان يستحقّ الجائزة بامتياز؛ بل يستحقها أكثر من نصف دزينة من الروائيين الأوروبيين، الذين حصلوا عليها قبله. وأمّا أنه ليس أعظم أدباء الصين، فإنّ الردّ على اعتراض كهذا أبسط بكثير: متى كان الفوز بجائزة نوبل شهادة على أنّ الفائز هو أعظم أدباء بلده؟ والحال أن المرء ـ بعد قراءة نماذج من أعمال شينغجيان، وخاصة «جبل الروح» كما سبقت الإشارة ـ لا يملك إلا منح الأكاديمية السويدية فضل تقديم هذا الفنان الكبير إلى الإنسانية؛ ومنح الجائزة، الأرفع صيتاً في ميدانها، إلى «أعمال بعيدة تماماً عن كتابات السوق، أثارت القليل فقط من الانتباه، ولكنها في الواقع جديرة بالقراءة»، كما قال شينغجيان في محاضرة نوبل، معتبراً أنّ صوته ليس سوى «صوت ضعيف لفرد هشّ يستحق بالكاد الإصغاء إليه، ولا يُسمع البتة في وسائل الإعلام».
مناسبة العودة إلى هذا الأديب الصيني الكبير هي الكمّ الكبير من الدراسات النقدية والأبحاث الأكاديمية التي أخذت تتعاقب وتتكاثر، في الغرب أوّلاً، حول أعماله. أحدثها، على سبيل المثال، دراسة ماري مازيلي، «غاو شينغجيان في مسرحيات ما بعد المنفى: العابر للقوميّ والمسرح ما بعد الدرامي»؛ ومايكل لاكنر ونيكولا شاردوننز، «تجسيد تعدد الأصوات: الحرية والقدر في كتابات غاو شينغجيان»؛ وتود كولتر، «جماليات عابرة للثقافة في مسرحيات غاو شينغجيان»؛ ودانييل بيرغيز، «غاو شينغجيان: رسام الروح»، بالفرنسية؛ وجيسون كو، «منظر الداخل: رسومات غاو شينغجيان»؛ هذا عدا عن أعمال أخرى، عديدة، مكرّسة للأدب الصيني المعاصر، تخصّ شينغجيان بفصل أو أكثر. ذلك يعني، بين دلالات أخرى، أنّ قرار الأكاديمية السويدية نبّه الدارسين إلى كتلة روائية ومسرحية وفنية بالغة الثراء؛ حافلة، من حيث المضمون والشكل، بأبعاد جديرة بالتعمق، وبخصائص لا تغري بالبحث والتأمل فقط، بل تحرّض على إعادة النظر في آداب وفنون الهوامش عموماً، ومقادير استباقها لنظائرها في المركز الأوروبي تحديداً.
و»جبل الروح»، في العودة إلى أبرز أعمال شينغجيان، رواية ملحمية حقاً؛ أو هي، ببساطة، أشبه بأوديسة صينية تقوم على عناصر الرحلة، والقدر، والبيئة، والصراع، ثمّ الحكاية والحكي في المقام الأول. وكان شينغجيان قد استجمع مادة هذا العمل البانورامي الضخم (670 صفحة، في الترجمة الفرنسية) أثناء مسيرة ترحال طويلة على ضفاف نهر اليانغتسي، استغرقت عشرة أشهر؛ تعرّف خلالها على عمق الصين الإنساني والبيئي والرمزي، وتمكن ـ كما تبرهن الرواية ـ من اختزان كتلة هائلة من المدوّنات: بصرية، تخصّ المكان والطبيعة والصورة إجمالاً؛ وسيكولوجية، تتنوّع فيها أنماط البشر وتقلبات الطبائع؛ وثالثة، فولكورية وشعائرية ورمزية؛ ورابعة، لغوية وبلاغية وشعرية… ولقد أعاد تركيب هذا المخزون الهائل في سياقات جديدة ومتشابكة ومتقاطعة، وفوتوغرافية أحياناً، أثناء الشروع في الكتابة. والمدقق في أفكار محاضرة نوبل، خصوصاً حديث شينغجيان عن تقنيات السرد واستخدام الضمائر والتركيز على موضوعة الوجود الإنساني والجانب «العلاجي» في كتابة الرواية؛ يدرك أنّ هذه الرواية ليست أفضل أعمال شينغجيان الروائية فحسب، بل هي مختبره التعبيري، وخلاصة جَمْعه الناجح بين فنون السرد والمسرح والتشكيل.
إلى هذا كله، أفادنا قرار عجائز الأكاديمية السويدية في استذكار حقيقة ثقافية حاسمة: ثمة، في كلّ ثقافة، نزوعٌ متأصلٌ إلى تدوين أوديسة كبرى، كونية؛ أياً كانت الصفة المحلية في مضامينها وأشكالها.

صبحي حديدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حي يقظان:

    الأخ صبحي،

    كم من أديبٍ لم يستحقَّ أيَّ جائزةٍ تُذكر، ومع ذلك تمَّ منحه جائزة نوبل؟!

    وكم من أديبٍ كان يستحقُّ الجوائز كلَّها، ومع ذلك لم يتمَّ منحه جائزة نوبل؟!

    فمن مفارقات هذه الجائزة، على سبيل المثال، أنها مُنحت لرودْيارد كيبلينغ سنة 1907، رغم كونه «نبيَّ» الامبراطورية البريطانية الاستعمارية، باعتراف جورج أورْويل نفسِهِ. ومن مفارقات هذه الجائزة، أيضًا، أنها مُنحت لونستون تشيرتشل سنة 1953، رغم كل تلك الشرور والآثام التي ارتكبها في حق الشعوب المغلوبة على أمرها أصلاً.

    فلو وضعنا جانبًا مسألة التخوُّف من الضغوط التي كان ذوو النفوذ سيمارسونها آنئذٍ، لا أظنُّ أن عجائز الأكاديمية السويدية كانوا يدركون فعلاً حقيقةَ أن أعظم أوديسة خياليةٍ-واقعيةٍ في أدب الحداثة وما بعدها على الإطلاق إنما هي كتاب «يوليس» أو «عوليس» الذي كتبه الكاتب الإيرلندي الفذ جيمس جويس، والذي تمَّ نشرهُ سنة 1922. أقول «لا أظنُّ أنهم كانوا يدركون هذه الحقيقة فعلاً» لأنهم لم يفكروا حتى في ترشيح هذا الكاتب العبقري المُذهل لجائزة نوبل في المقام الأول، بل رشحوا بدلاً منه، بعدئذٍ، الكاتبَ الإيرلندي الذي تتلمذ على يديه صامْويل بيكيت، ومن ثمَّ منحوه إياها سنة 1969.

    وبسببٍ من هذا النفاق كلِّهِ، لا أظنُّ كذلك أن كاتبًا تقدُّميًّا ومبدئيًّا كمثل جيمس جويس كان سيقبل بهذه الجائزة، فيما لو تمَّ ترشيحُهُ لها ومنْحُهُ إيَّاها في الأساس.

إشترك في قائمتنا البريدية